الإسلام ومسارات الاغتراب: قراءة في كتاب
قراءة الحسين بن عمر
الكتاب: الإسلام ومسارات الاغتراب: فتح دفاتر النّقد والنّقد المضاد
المؤلف: د. فرج بالحاج
النّاشر: مجمع الأطرش ـ تونس ـ الطّبعة الأولى: 2019
عدد الصفحات: 239 صفحة
في ظلّ تنافس الهويات الحضاريّة على تشكيل أنماط التماسك والصّراع في عالم ما بعد الحرب الباردة، وفق ما طرحه صامويل هنتنغتون في نظريته “صدام الحضارات”، وفي ظلّ سطوة صناعة الصور الذهنيّة المتحيّزة، ضمن مساقات “القولبة” و”التنميط” المعولمين، على حساب الخصوصيات الفردية والاجتماعية والثقافية، تنبري الحاجة ماسّة إلى العمل على تنقية الموروث الإسلامي وعقائده ممّا أسماها “أيتن لامي”، في مقال له بمجلّة “العالمين” الفرنسية مطلع القرن الماضي بـ”بذور الشك التي تفسد على المسلمين عقائدهم من حيث لا يشعرون”.
ولأن مساقات التنميط العولمي بخلفياتها العقدية والإيديولوجية، لم تعد تستنكف عن ضرب الهويّات الحضاريّة المنافسة، على وجه الخصوص الحضارة الإسلامية، التي يراها هنتنغتون حضارة تحدّ دائم، لقناعة أهلها بتفوّق حضارتهم على الحضارة الغربية وفق تقديره، موظّفة في ذلك أدوات الميديا الجديدة وتقنيات الاتصال الحديثة، فإنّ العمل على نشر الفكرة الإسلامية السمحة ونفض غبار التشويه الذي ألحقته بها مدارس الاستشراق و”رعونة الجهاديين”، بات فريضة مستوجبة على علماء الإسلام ومفكّريهم.
في هذا الإطار، يتنزّل كتاب “الإسلام ومسارات الاغتراب: فتح دفاتر النّقد والنّقد المضاد”، الذي يقدّم فيه كاتبه د. فرج بلحاج، أستاذ التعليم العالي والباحث بمركز الدّراسات الإسلاميّة بمحافظة القيروان التونسية ـ جامعة الزيتونة، بين يدي القارئ، دفاتر الاستشراق والإلحاد والإرهاب، ويبسُطها في أسلوب يغلُب عليه السّرد والاستعراض. ويجتهد في كشف مسارات حرب التّشويه والتّشكيك المُعلنة على الإسلام، وكشف المصادر التي لقيت رواجا دون غيرها، وتلقّفها المثقفون العرب والمسلمون بشيء من الوثوقيّة والتّسليم، حتى غدوا أبواقا للاستشراق والإلحاد ورموزا للحداثة المتمنّعة.
لا يجد المؤلف غضاضة في كشف ما يسمّيه بمنابع هؤلاء “الحداثيين” ودعوتهم إلى نزع جبّة الاستشراق، والتخلّي عن اجترار آراء المستشرقين غير البريئة، والقيام بدراسات علميّة حقيقية، دراسات متحرّرة من النمطيّة والوثوقيّة، ومتسلّحة بالنقد، وقائمة على الموضوعية والحياد، ومؤمنة بالخصوصيّة الثقافيّة.
الآخر والصورة المشوّهة عن الإسلام
رسمت السّرديّات الاستشراقيّة التي بناها يوحنّا الدّمشقي ومارغوليوث ومونتغمري وتوما الأكويني، صورة مشوّهة عن الإسلام في أذهان الغرب وأذهان نزر غير قليل من النخب العربيّة والإسلاميّة، على أنّه يؤصّل للعنف والإرهاب، وعلى أنّه مصدر الشّقاء والدّمار والخراب.
صور مشوّهة عن الإسلام يراها المؤلف قد عكست حالة اغترابه بين ظهرانيه، حتى لم يعد يُعرف منه إلاّ الاسم والرّسم، وهو ما جعل الغالب من معتنقيه من الحكّام مستبدّين في المجال السّياسي، مخالفين لمقاصد الشّرع في الحرّية والعدل والشّورى. وفي المجال الاقتصادي تاركين للعمل ومتهافتين على الاستغلال والغشّ والاحتكار والسّرقة. وفي المجال الأخلاقي يدّعون الإسلام ويغارون عليه، ولكنّهم لا يتورّعون عن الولوغ في الدّماء واجتراح كلّ أنواع المعاصي والفجور. غربة بين أهله تقابلها غربة مضاعفة للإسلام في ديار الغرب، الّذي “لا يكفّ عن محاربة هذا الدّين وتشويهه وجعله “صنما للرّعب” أو “نسخة عربيّة للنّصرانيّة”.
سطوة الإسلاموفوبيا
يبسط الكتاب في فصله الأوّل الذي يحمل عنوان “واقع الإسلام”، راهن الإسلام وما يتعرّض إليه من “قصف”، من خلال الاهتمام بظاهرة الإسلاموفوبيا والردّ على اتهام المستشرقين، مونتغمري ومارغوليوث وجورج سايل وفلهاوزن ونولدكه وبروكلمان، للإسلام بالتعطّش للدم وتشكيكهم في سيرة محمّد صلّى الله عليه وسلّم وما أحاط بها من قداسة في كتابات المسلمين، وبحث هؤلاء المستشرقون عن محمّد “التاريخي”، محمّد “الإنسان” بعيدا عن الخوارق بالتركيز أساسا على السببيّة السياسيّة والاجتماعيّة، وترويج صورة مشوّهة عن الإسلام، أساسها أنّ “محمّدا هو المسيح الدجّال”، وهو ليس نبيّا، بل هو “كاذب”، وهو من ألّف القرآن، وأنّ الإسلام انتشر بالعنف والسّيف، وهو دين باطل، يتعمّد تحريف الحقائق ويقوم على الانغماس في الملذّات والترخيص للفسق والفوضى الجنسيّة.
“الاستشراق الجديد” وتجاوز المناهج الفينومولوجيّة والتاريخانيّة
يهتمّ الفصل الثاني من الكتاب بما أسماه المؤلّف بـ”الاستشراق الجديد”، الذي افتتحه، أواخر سبعينيّات القرن الماضي، المستشرق الأمريكي “جون وانسبرو Wansbrough ” في كتابه “Quranic Studies”، الذي أسّس مرحلة جديدة من الاستشراق عُرفت بالمراجعة. وقد سُمّي وانسبرو هو وأتباعه “المراجعون الجدد”، وغايتهم التشكيك في الصّور الكلاسيكة للاستشراق وتحطيمها.
يبسط الكتاب في فصله الأوّل الذي يحمل عنوان “واقع الإسلام”، راهن الإسلام وما يتعرّض إليه من “قصف”، من خلال الاهتمام بظاهرة الإسلاموفوبيا والردّ على اتهام المستشرقين،
ويشير المؤلف في هذا الباب إلى سيطرة مناهج معيّنة على الدراسات الاستشراقية، من ذلك سيطرة المنهج الوصفي التقليدي، كما نجده مثلا في كتاب “كارل بروكلمان” عن تاريخ الشعوب الإسلامية، وكتاب (واط) عن النبيّ بمكّة والمدينة. والمنهج الوثائقي، الذي اعتمده “فلهاوزن”، الذي تفترض نظريته أنّ الرّوايات نُقلت مُشافهة وتطوّرت وتغيّرت عبر الزمن، وانتشرت في فروع مختلفة على أيدي رواة، في الوقت الذي يرى فيه المؤلف أنّ دراسة الأخبار لا تقتضي تعيين مصادر ثابتة بل تقتضي تحليلها. وينبه المؤلف كذلك من سيطرة منهج نقد النصّ والرّوايات، الذي اتبعه “جولد زيهر”.
ويذكّر المؤلف برفض “وانسبرو” للتّناول الكلاسيكي للاستشراق، من خلال دعوته إلى المُراجعة الكليّة لمناهج تلك الدراسات وتجاوز المناهج الفينومولوجيّة والتاريخانيّة في المدارس الاستشراقيّة الكلاسيكيّة، وهو ما جعلهم يلقبون بـ”المراجعون”.
“المراجعون” وإلغاء السّياق التاريخيّ للإسلام
يرى المؤلف في كتابه أنّ تيّار “المراجعون” لا يبدأ بالمقدّمات حول النصّ، بل يتعامل معه مباشرة من نقطة الصّفر، معتبرا إيّاه مذهبا متشبّعا بأفكار “جاك دريدا” و”رولان بارت” في منهجي “ما بعد البنيويّة” و”التّفكيك” بعد منتصف الستّينيات. فالبنيويّون يعتقدون أنّ هناك علاقة ثابتة ومستقرّة بين اللّفظ والمعنى، لكنّ أصحاب منهجيْ “ما بعد البنيويّة” و”التفكيكيّة” يرفضون هذه العلاقة ويرون أنّ القراءة هي التي تخلق النصّ، والقراءات هي الّتي تخلق العلاقة بين اللّفظ والمعنى. وعلى هذا فالنصّ مفتوح لكلّ الاحتمالات والمعاني.
وتطوّرت بمقتضى ذلك مفاهيم نقديّة أشهرها (موت المؤلّف)، باعتبار أن المؤلف عندما يكتب يُخرج النصّ من ملكيّته ويصبح ملكا للمتلقّي. إنّ رؤية مثل “موت المؤلف” تعني في نهاية المطاف “موت السّياق” أي موت مجتمعه وموت أيّ معرفة نقديّة تاريخانيّة تحاول أن تتعرّف إليه، وهو ما دفع بأصحاب هذا التيّار إلى إلغاء السّياق التاريخيّ للإسلام.
فما دُعي “القرآن الأوّل” حسب”غونتر لولينغ” Lüling (1928- 2014) ليس صحيحا. وحسب “وانسبرو”، فقد ألّف القرآن في القرن الثاني للهجرة كنتاج للجدليّات الدينيّة الإسلاميّة اليهوديّة. ومكّة لم تكن المكان الّذي ولد منه الإسلام، وما دعي بمكّي ومدني هو مجرّد تضليل. وفي كلمة، قامت وجهات نظر “وانسبرو” على التّشكيك في التّراث الإسلامي الذي كتب في المرحلة العباسيّة، في ظلّ غياب المعرفة والوعي التاريخي بالتراث. وهو توجّه تبنّاه بعض المستشرقين المعاصرين مثل “باتريسيا كرون Patricia Crone”، و”مايكل كوكMichael Cook ” و”جيرالد هاوتينغ Gerald Hawting” و”سليمان بشير Suliman Bashear” و”موشي شارونMoshe Sharon” و”جاكلين شابّيJacqueline Chabbi ” المتأثّرة بأستاذها “محمّد أركون” الّذي اتّهم الإسلاميات الكلاسيكيّة (الاستشراق التقليدي) بالقصور وانتقده، ودعا إلى تكملته عن طريق “الإسلاميات التطبيقية”؛ أي تطبيق منهجيات العلوم الإنسانية ومصطلحاتها على دراسة الإسلام.
“دوائر الاستشراق المعورب”
خُصصّ الفصل الثالث من الكتاب لما يسمّيها المؤلّف بـ”دوائر الاستشراق المعورب”، ويعني بها الدوائر العربية التي تتلمذت على أيدي المستشرقين ونقلت آراءهم، نقلا يحتاج شيئا من النقد والتمحيص. فهذا التفسير التّاريخي للإسلام أغرى كثيرا من المفكّرين العرب المسلمين والمسيحيين، الّذين انبهروا بهذا المنهج الاستشراقي الكلاسيكيّ والحديث، واعتمدوه في دراساتهم.
في هذا الباب، يركّز المؤلّف سهامه، على وجه الخصوص، على كتاب “تاريخ الإسلام المبكّر: هل كانت بداية الإسلام في بلاد الشّام؟” لمحمّد آل عيسى، الذي ادّعى أنّ الإسلام ظهر في بلاد الشام ولم يظهر في مكّة، وأنّ هجرة الإسلام وحركته كانت من الشّام إلى الحجاز وليس العكس، وأنّ الرّسول لم يظهر لا في الشّام ولا في الحجاز، وهو ليس شخصا حقيقيا، وأنّ الدّعوة المحمّدية في الأصل دعوة نصرانيّة، وفي العقيدة أشبه ما تكون بالبدعة الأبيونيّة التي تنكر ألوهيّة السّيد المسيح، وتجعل منه مجرّد نبيّ إنسان.
ولما كان منشأ الدّين المحمّدي في الشّام، كان استقرار الأمويّين على الحكم هناك وتبنّي الدين الجديد وانتشاره من الشام إلى الحجاز. وبما أنّه لم توجد أي مواد أركيولوجية تنسب حسب الكاتب إلى العصور الإسلاميّة الأولى فقد أثار هذا الأمر شكوك العلماء. فهل يُعقل، حسب ما يقول، ألّا توجد أيّ وثيقة ترقى إلى العصور الإسلامية الأولى؟ هل يُعقل أنّه لم تكتشف أيّ مادّة أثريّة تنسب إلى القرن الإسلامي الأوّل؟ هل يُعقل أنّ الرّومان الّذين كانوا قبل الإسلام بمئات السنين تركوا آثارا ومخلّفات أركيولوجية، والعصر الإسلامي الأوّل لم يترك شيئا؟ فالتّاريخ يُصنع من وثائق وكلّ فكرة أو فعل لا يخلّف أثرا مباشرا أو غير مباشر أو طمست معالمه، هو أمر ضاع على التاريخ كأنّه لم يكن أبدا. فلا بديل عن الوثائق، وحيث لا وثائق فلا تاريخ. وتفسير عدم بقاء أيّ مواد تاريخيّة إسلاميّة من القرن الهجري الأوّل يعود،حسب رأيه، إلى عدم وجودها في الأصل، وهكذا يفتح محمّد أل عيسى باب الشكّ في كلّ ما يتعلّق بالإسلام على مصراعيه.
ويتعرّض المؤلّف في هذا الباب إلى كتاب “قسّ ونبيّ: بحث في نشأة الإسلام” لأبي موسى الحريري الذي بحث فيه صاحبه عن هويّة القسّ ورقة بن نوفل، وعن صلته بالنبيّ محمّد بن عبد الله لإظهار ما أخفاه التّاريخ عن حقيقة الإسلام وعلاقته بالنّصرانيّة. إذ يرى أبو موسى أنّه لكلٍّ من القسّ والنبيّ دور في الدّين الجديد (الإسلام). “الأوّل أوحى وعلّم ودرّب وأرسى الدعائم، والثّاني سمع وتعلّم ودرس وشيّد البنيان”. وقد استطاع النبيّ أن يتفوّق على القسّ ويستقلّ عنه، شأنه كشأن أيّ تلميذ بارع يتخطّى بذكائه قدرات معلّمه، وشأن القسّ كشأن أيّ مربّ حكيم يترك لربيبه حريّة التصرّف على حدّ تعبيره. القسّ إذن هو بطل الإسلام، حسب رأيه، واسمه ورقة بن نوفل، وهو معلّم النبيّ ومدرّبه.
وبناء على هذا الإدّعاء، يخلص أبو موسى إلى أنّه لا بدّ للوحي اللاّحق أن يكون تذكرة للوحي السّابق كما شهد الكتاب على نفسه بأنّه ذكر للنّاس، وبأنّه تذكرة، وبأنّ الرّسول مذكّر. ويوم يرتاب النبيّ ، حسب رأيه، من صحّة ما يُذكّر به يقال له؛ “إنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ فَاسْأَلِ الّذِينَ يَقْرَؤُونَ الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ”. هذه القراءة ال”من قبل” تنبئ لا محالة عنده عن واحد كان ” قبل” النبيّ يقرأ عليه الكتاب ويهمس في أذنه وحي الله من وراء السّتار ، وذاك هو ورقة بن نوفل. وفي الاتجاه نفسه يكتب “يوسف درة الحداد كتاب : القرآن دعوة نصرانيّة” ليؤكّد هذا التوجّه.
المسار الإلحادي في الغرب
يستعرض المؤلّف في الفصل الرابع من الكتاب التوجّهات الإلحادية في العصر الحديث، التي راجت في أوروبا وزعزعت العقائد الدّينيّة فيها قبل تسرّبها إلى العالم العربي الإسلامي والتأثير فيه، معتبرا أنّ “إله” الغرب الّذي اعتقد النّاس أنّه قدّر اللّعنة الأبديّة على ملايين البشر، أصبح مخيفا أكثر من الإله القاسي الّذي صوّره “ترتوليان” أو “أوغسطين” في اللّحظات الحالكة، وقد شعر كثير من النّاس بالغثيان من اقتتال البروتستانت والكاتوليك وموت المئات من النّاس لاعتناقهم آراء من المحال البرهنة عليها. ومع ذلك، فقد كان المصلحون في الغرب على اختلافهم يحاولون التأسيس لوعي ديني جديد مخالف للوعي السّابق.
ويقول المؤلف؛ إن حركة البحث في الألوهية نشطت في هذه الفترة وظهرت روحانية بليز باسكال، الذي اقتنع أنه ليس هناك سبيل لإثبات وجود الله، ولكن في الوقت نفسه كان يصعب على العقل دحض وجوده. وهذا الذي ذهب إليه باسكال من تهوين لشأن العقل في إدراك الله، مخالفا في ذلك لما ذهب إليه ديكارت أو نيوتن أو كانط. فقد آمن ديكارت بقدرة العقل على إثبات وجود الله، ونزّل نيوتن الله إلى نظامه الحركي الميكانيكي، وكانت نقطة البداية معه هي علم الحركة لا الرّياضيات، فبدأ بمحاولة تفسير الكون الفيزيائي والله جزء أساسي من النّظام. ففي فيزياء نيوتن كانت الطّبيعة سلبيّة تماما، والله وحده هو مصدر النّشاط. ولمّا جاء كانط رأى أن السّبيل الوحيد إلى الله يقع عبر مملكة الوجدان الأخلاقية المستقلة، التي أطلق عليها اسم ” العقل العملي”.
تسرّب هذا الإلحاد إلى العالم العربي الإسلامي نتيجة البعثات العلميّة إلى أوروبا واطلاع أفراد هذه البعثات على ما كان يموج في أوروبا من أفكار فلسفة التنوير والفلسفات العقليّة والمادّية والإلحادية، فاطّلعوا على أفكار ماركس وفرويد ونيتشة وداروين وغيرهم، وتأثروا بهذه الأفكار وتبنّوها وعملوا على نشرها.
واستمرّ الصّراع الغربي مع الله (إثباتا وشكّا وإنكارا)، ولكن التحوّل عنه ظهر في القرن الثامن عشر مع ميسلير وهيوم وديدرو ودولباخ، على وجه الخصوص، الذي أصبح الإيمان بالله عنده وهما وإنكارا مشينا لتجربتنا الحقّة، وضربا من اليأس والعجز عن تفسير آخر يواسي النّاس عن مأساة الحياة في هذا العالم، فتحوّلوا إلى وسائل عزاء وهميّة من الدّين والفلسفة في محاولة لترسيخ إحساس خادع بالسّيطرة، ومحاولة لاسترضاء”قوّة” يتخيّلون أنّها كامنة خلف الكواليس، كي يتجنّبوا الوقوع في الخطأ والكارثة. هكذا استبعدت فكرة الإله ليكون الإلحاد رسميّا على جدول الأعمال بحلول بداية القرن التاسع عشر. ففي هذا القرن “صاغ لودفيغ فيورباخ، وكارل ماركس، و شارلز داروين، ونيتشه، وفرويد، فلسفات وتفسيرات علمية للواقع لا مكان لله فيها، وبدأ عدد كبير من الناس يشعرون أنه إذا لم يكن الله قد مات بعد، فإن من واجب البشر المتحررين العقلانيين أن يبدؤوا بقتله.
انتشرت الأفكار الإلحاديّة في أوروبا ونحن نجد صداها بشكل أو بآخر في فلسفات جان بول سارتر، وموريس ميرلوبونتي، وألبير كامو، وبول تيليش، ومارتن هيدغر، وأنطوني فلو، الذي تراجع في النهاية عن إلحاده، وغيرهم. وقد تسرّب هذا الإلحاد إلى العالم العربي الإسلامي نتيجة البعثات العلميّة إلى أوروبا واطلاع أفراد هذه البعثات على ما كان يموج في أوروبا من أفكار فلسفة التنوير والفلسفات العقليّة والمادّية والإلحادية، فاطّلعوا على أفكار ماركس وفرويد ونيتشة وداروين وغيرهم، وتأثروا بهذه الأفكار وتبنّوها وعملوا على نشرها.
هنتغتون وفكرة الصّراع المستمرّ بين الإسلام والمسيحيّة
يبسط المؤلف في الفصل الخامس من الكتاب، فكرة صدام الحضارات. فمع نهاية الحرب الباردة انطلق أحد المحافظين الجدد وهو “فرانسيس فوكوياما” من حيث انتهى كارل ماركس وهيغل، اللّذان صورا التّاريخ على أنّه معركة جدليّة بين النّماذج والأطروحات الإيديولوجيّة المتناقضة، واستنتج أنّ التّاريخ يوشك أن يصل إلى نهايته بانهيار الاتّحاد السّوفياتي وتفكّك المعسكر الشيوعي واندثار حلف وارسو.
وقد أثار كتابه، في أذهان بعض الّذين لا يؤمنون بالعيش دون صراع، فكرة البحث عن العدوّ المرتقب بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي، فصدر لـ”صامويل هنتنجتون” كتاب “صدام الحضارات” للتأكيد أنّ ثقافة النّاس وهوياتهم الدينيّة ستكون سببا رئيسيا للتّصارع في حروبٍ قادمة حول العالم؛ كردّ فعل على كتاب تلميذه “فرانسيس فوكوياما” “نهاية التاريخ”.
.
الصّراع حسب هنتنغتون إذن هو المحرّك للتاريخ، والموضوع الرّئيسي لكتابه، كما يقول، هو أنّ الثقافة والهويّات الثقافيّة الّتي هي على المستوى العام هويّات حضاريّة، هي الّتي تشكّل أنماط التماسك والتّفسّخ والصّراع في عالم ما بعد الحرب الباردة. قسّم هنتنغتون العالم إلى سبع أو ثماني حضارات ما زالت قائمة، وهي: الصّينيّة، والهنديّة، والإسلاميّة، والغربيّة، والحضارة اليابانيّة، والحضارة الرّوسيّة الأرثودوكسيّة، وحضارة أمريكا اللاّتينيّة، والحضارة الأفريقية. ودرجة عداوة هذه الحضارات للغرب ليست واحدة. فبالنّسبة لحضارات التحدّي من المرجّح عنده أن تكون علاقات الغرب بالإسلام والصّين متوتّرة على نحو ثابت، وعدائيّة جدّا في معظم الأحوال.
يرفض هنتنغتون أن تكون المشكلة الأساسيّة للغرب هي مع الأصوليّة الإسلاميّة، ويرى أنّ المشكلة هي مع الإسلام ذي الحضارة المختلفة عن حضارة الغرب، الّتي يقتنع أهلها بتفوّق حضارتهم على الحضارة الغربيّة. فالعلاقات بين الإسلام والمسيحيّة سواء الأرثودوكسيّة أو الغربيّة حسب قوله، كانت عاصفة غالبا، كلاهما كان “الآخر” بالنسبة للآخر”. وصراع القرن العشرين بين الدّيمقراطيّة اللّيبراليّة والماركسيّة اللّينينيّة ليس سوى ظاهرة سطحيّة وزائلة، إذا ما قورن بعلاقة الصّراع المستمرّ والعميق بين الإسلام والمسيحيّة.
رعونة الجهاديين
بعد نقده لتيّارات الاغتراب ولدوائر “الاستشراق المعورب” وللتيار الإلحادي، يخصص المؤلّف الفصل السادس من الكتاب للحديث عن ما أسماه بـ” رعونة الجهاديين”، الذين أصرّوا على العنف وأمضوا على الاتهامات التي كيلت للإسلام، فرأوا أنّ التغيير لا يكون إلا بالجهاد والقتال وقسّموا النّاس والدّور، وسطّروا منهجا في التغيير يحضر فيه معجم الحرب والجهاد والقتل والذّبح، وتغيب فيه عبارات الرّفق والحسنى والأناة. كفّروا الحكّام والمحكومين ودعوا إلى الخروج على الحكّام المرتدّين وإقامة شرع الله، دون معرفة بفقه الخروج على الحاكم وضوابطه وحدوده، فأباحوا دماء كثير من الأبرياء وقتلوهم ونثروا أشلاءهم بأشكال تشوّه هذا الدّين وتنفّر النّاس منه. وفي النهاية، لا هم أقاموا شرعا ولا رعوه، فأفسدوا في الأرض وهم يظنّون أنّهم يحسنون صنعا، أضرّوا الإسلام ولم ينفعوا المسلمين بشيء، غير ما تطالعنا به وسائل الإعلام من خوف من هذا الدّين ونفور منه.
دفع شبهة العنف عن الإسلام
يدفع المؤلف في الفصل الثامن وهو الأخير من الكتاب، شبهة العنف عن الإسلام، من خلال تنزيل النصوص في مواضعها واستعراض سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة الصحابة؛ فرسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم عامّة لكلّ النّاس، البيض والسّود والعرب والعجم، والدّعوة إلى الله وإلى الدّين الجديد واجبة، ولا بدّ من الخروج من الجزيرة لنشر الدّين الّذي لقي صدودا جعل المسلمين يصبرون على الأذى، قبل أن يفرّوا به إلى الحبشة ثم إلى يثرب قبل إنشاء الدّولة واكتساب الشوكة. فالغاية إذن هي نشر الدّعوة، ولذلك فُرض الجهاد الذي لا غاية له إلا إبعاد الطائفة المعترضة على الدّين لتبليغه للنّاس داخل القرى والمدن المحصّنة، وهو ما فعله الرّسول صلى الله عليه وسلم مع أهله ومع عشيرته ومع قبائل الجزيرة (التي عرض نفسه عليها)، ثم مع الخلق كافّة. وعلى من يعتنقها وجوب تبليغها إلى الدّنيا بقدر الوسع لقوله تعالى:”وما أرسلناك إلا كافّة للنّاس بشيرا ونذيرا”، وقوله: “ولتنذر أمّ القرى ومَن حولها”. ولذلك؛ رفض البعض تسمية دار الحرب بهذا الاسم وذهب إلى تسميتها “دار النشر أو دار الدّعوة”؛ عملا بوجوب التّبليغ والنّشر أساسا، وهو المقصود في الشريعة الإسلاميةّ.
فلهذا الغرض توجّهت رسل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى شرق البلاد وغربها، وتحرّك الصّحابة من بعده وهم يحملون الرّاية نفسها، ولم يحاربوا إلّا إذا حاربهم الكفّار وحالوا بين النّاس وبين الدّعوة، فجميع الدّيار غير الإسلاميّة مجال لنشر الدّعوة والتّبليغ الواجبين. ولا تصير الدّار دار حرب إلّا إذا حارب الكفّارُ المسلمين، وهو أمر متوقّع إلّا أنّه طارئ وليس قاعدة. فالحرب لأجل أنّ العدوّ أشعل أوارها، أمّا المسلم فدوره الدّعوة إلى الدّين، لكنّه لا يقف مكتوف الأيدي أمام من شنّ عليه الحرب، فعليه المدافعة بما يحفظ الدّعوة ويصون المسلمين من الفتنة ويسهّل إجراء أحكام الإسلام؛ “لأنّ القتال ما فرض لعينه بل للدّعوة إلى الإسلام، والدّعوة دعوتان، دعوة بالبنان وهي القتال، ودعوة بالبيان وهو اللّسان، وذلك بالتبليغ. والثانية أهون من الأولى؛ لأنّ في القتال مخاطرة بالرّوح والنّفس والمال، وليس في دعوة التبليغ شيء من ذلك. فإذا احتمل حصول المقصود بأهون الدّعوتين لزم الافتتاح بها”.
وينتهي المؤلف في نهاية كتابه إلى فتح آفاق جديدة لطلبة الزيتونة والباحثين في كلّ مكان، ودعوتهم إلى التسلّح بالمناهج الحديثة والردّ العلمي الرّصين على تطرّف دوائر الاستشراق والإلحاد الجديديْن النّشيطة، وانحرافات الإسلاميين، والبحث عن الحقيقة.
(المصدر: عربي21)