الإسلام.. وزمن “الكورونا”
بقلم محمد سالم الراشد
نستقبل التقارير العالمية حول نجاح الصين في حصار فيروس “كورونا” الذي أردى 21.116 ضحية حول العالم، وأصاب 465.274 إنساناً -حتى تاريخ كتابة هذا المقال 26 مارس 2020م- لكن تظل الصين، بسبب سياستها الترويجية الخائفة من فقدان المصداقية والثقة بمنتوجاتها الاستهلاكية، لا تعترف أخلاقياً عن مسؤوليتها عن هذا الوباء العالمي؛ الذي أثر على حياة البشر في هذا العالم؛ بتأخرها عن إبلاغ منظمة الصحة العالمية عنه.
ومن جهة أخرى، يتضح قمة الكبر والغرور الإنساني في أوروبا والولايات المتحدة؛ حيث ظن قادة تلك الدول أن الوباء صينيّ؛ فليكن هذا الجنس الأصفر وقوداً لهذا المرض؛ وأن هذا الفيروس ربما يميز بين الجنس الأبيض والأصفر، وأتت التحذيرات متأخرة بعدما فتك الفيروس بالآلاف من الناس في أوروبا والولايات المتحدة؛ بسبب حمأة الرأسمالية المتوحشة، التي ترى أن امتصاص ملكية الإنسان من خلال العمل والضرائب هي الأولوية على حياة الإنسان؛ لأنها تخدم الطبقة الرأسمالية في مجتمعاتها، إنها تريد جني المال على حساب الحياة البشرية والإنسانية.
في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، ما زال غرور ترمب مستمراً؛ إذ إنه على مضض يوافق على إيقاف العمل لمدة أسبوعين، لكنه مُصِرّ على أن تفتح الشركات والأعمال الحكومية مجدداً بعدها، ولا يضره ذلك، لأن الأساس هو الناتج الاقتصادي.
في الولايات المتحدة من أجل إنقاذ “وول ستريت” على حساب الإنسان تم ضخ تريليون ونصف تريليون دولار.
ولإنقاذ قطاعات الشركات الكبرى في النظام الرأسمالي فهو يسعى لتحقيق الأرباح، لقد كشف الفيروس عن عوار الرأسمالية والنظام العالمي السياسي، ففي الولايات المتحدة لا تستطيع الدولة تقديم الرعاية الصحية لكامل الشعب الأمريكي.
إذاً؛ أين رفاهية الرأسمالية؟! فغالبية الشعب الأمريكي إذا حاول طلب العلاج فإنهم سيصبحون مدينين؛ لأن كل شيء إما بالتأمين الصحي، وهذا يغطي فئة محدودة في الولايات المتحدة، أو الاقتراض من البنك، وهذا يركب فوائد كبيرة على المقترض، هذه هي حقيقة الرأسمالية المتوحشة، يهمها المنفعة المادية على حساب القيمة الحياتية للإنسان؛ الأرباح أهم من الناس.
فالرعاية الصحية الخاصة والرسمية لا تستطيع التعامل مع الأزمة بكل بساطة.
- 30 مليون أمريكي لا يملكون تأميناً صحياً.
- 15 مليوناً منهم لديهم تأمينات خاصة.
- 60 مليوناً آخرون عليهم دفعات مسبقة عالية لدرجة أنهم سيصبحون مدينين بآلاف الدولارات إذا ما حاولوا أن يطلبوا العلاج.
- 45 % لا يمتلكون أو يدخرون دولاراً واحداً.
- 24 % لديهم أقل من 1000 دولار.
إن زيارة واحدة إلى غرفة الطوارئ أو العناية المركزة لفيروس “كورونا” تكلف الفرد الواحد 10 آلاف دولار، وهذا يهدد بمحو الملايين من مدخرات الأمريكيين، كما أن هناك 34 مليوناً من الناس في الولايات المتحدة لا يملكون يوماً واحداً إجازات صحية مدفوعة الأجر.
علماً بأن 45% من العاملين في فنادق الولايات المتحدة وخدمات المطاعم فقط يحصلون على تعويض إجازات مرضية، وهم أمام خيارين؛ فقدان العمل، أو الفيروس.
وكذلك فإن المدارس العامة في الولايات المتحدة، زعيم النظام العالمي، ظلت تعمل لأن الطلاب يعتمدون عليها لأجل الطعام المجاني؛ حيث إن 22 مليون طفل في الولايات المتحدة يعتمدون عليها.
وسيتم طرد 700 ألف من إيصالات الطعام المجانية في الأول من أبريل؛ وهذا سيشكل جزءاً من المجاعة، علماً بأن الملايين من الأطفال في الولايات المتحدة مشردون ويعيشون في مآوٍ مكتظة، وسيكونون على اتصال مع أشخاص حاملين للفيروس، كل ذلك لا يعادل قيمة “وول ستريت”.
يقول جوزف إستيفال، الاقتصادي الحائز على جائزة “نوبل”: “إن ديمقراطيتنا واقتصادنا في خطر كبير إذا استجبنا إلى مطالب الشركات ذات الأصوات الأعلى والأقوى، بدلاً من التفكير فيمن في الحقيقة يحتاجون الدعم”.
الحقيقة أن النظام العالمي اليوم نظام أثبت فشله وفساده ومرضه وهو قادم على كارثة اقتصادية، ومن الطبيعي ستصبح جائحة اجتماعية متطرفة ربما تتحول إلى حرب شاملة لا يعلم مداها إلا الله؛ بسبب طبيعة وغايات تركيبة النظام الذي يقود البشرية إلى الصراعات والهاوية.
1- فعلى المستوى الصحي، فالفيروس ما زال يتفشى ويكسب الحرب ويثبت عجز أكبر العقول على حل معضلته.
2- وعلى المستوى السياسي، فإن هذا النظام أثبت أنانيته وفشله في قيادة ثقافية للعالم لمواجهة حرب الفيروس الصغير، وانحاز إلى الأنانية والمصلحة القومية.
3- وعلى المستوى الأخلاقي، فلا حدود للتفلت الأخلاقي العولمي؛ إذ إن كل شذوذ مباح وكل خبيث جائز أكله وشربه.
4- وعلى المستوى الاقتصادي، فالرأسمالية المتوحشة وبحثها عن المنفعة والربح أغلى من حياة الإنسان.
5- وعلى مستوى الحياة الاجتماعية، فإن التراحم والتكافل والاعتناء بالضعفاء والفقراء وكبار السن مفقود.
لقد كشف فيروس “كورونا” زيف البناء الحضاري الغربي والنظام العالمي السياسي وضعف النظام الصحي في العالم المتمدن وتراجع الأخلاقيات الاجتماعية والمدنية.
ولكن هل هذا سيدفع المسلمين إلى إعادة النظر في عمق الأخلاق الحضارية في دينهم “الإسلام العظيم”؟ وهل سيستطيع المسلمون أن يتقدموا بنموذجهم الحضاري في فرصة قد أزفت، وأن العالم اليوم يفكر بالحل الشامل لاحتمالات سقوط النظام العولمي وثقافة الحضارة الاستهلاكية المتوحشة؟
فعلى المستوى الصحي:
يستطيع المسلمون أن يقدموا للعالم أساسيات الطهارة التي يدرسها صغار أبناء المسلمين في مدارسهم ويتعلمونها في بيوتهم.
الطهارة البدنية والحسية التي أسست لنظافة البدن وصحة النفس ورقي التهذيب.
نحتاج اليوم إلى الفقيه والمفكر والطبيب من المسلمين الذين يجتمعون ليطلقوا مبادرة “الصحة الحضارية في الإسلام”.
التي تقوم أساساً على “رفع الحدث وإزالة الخبث”، لقد قدم الإسلام تعاليم ثابتة في الاهتمام بالبدن والعورة ونظافة الملبس والمكان.
إن تلك التعليمات وضعت أساساً صحياً لمواجهة أي مرض وفيروس أياً كان نوعه ومصدره، لقد قدم الإسلام نموذجاً في الطيبات التي يجب أن تتناولها البشرية، والخبائث والمحرمات التي يجب أن تتركها في النظام الغذائي للإنسان المسلم، وآداباً صحية للمأكل والمشرب واللباس والزينة.
وعلى المستوى الاقتصادي:
فإن الإسلام وضع شرائع البيع والشراء، فأحل البيع وحرم الربا، ووضع قواعد العمل والكسب الحلال، وقدم نموذجاً في الاقتصاد المتوازن الذي يثبت الملكية ويطلق حرية السوق وضبطها بالأخلاق بعيداً عن الغرر والكسب الباطل “الحرام” والغش والاحتكار، لكنه أيضاً يضع المسؤولية الاجتماعية على عاتق المستثمر بأن يؤدي زكاة ماله للأصناف الثمانية في المجتمع.
وعلى المستوى الاجتماعي:
فالإسلام حث على التكافل والتعاون والحب والإخاء والتعارف بين البشرية، وإنّ رقابة الله أو تقواه مع البشر هي المعيار لكرامة الإنسان، فلا يترك ذا حاجة وإلّا على المجتمع أن يتعاون في استيفائها له.
وألا تعلو طبقة على طبقة أخرى في المجتمع الإنساني الذي ينشئه الإسلام مهما كانت ألوانهم أو لغتهم أو جنسهم أو دينهم.
إن لغة المساواة والحب والكرامة التي تشكلها المبادئ الحضارية للإسلام جاهزة لمعالجة الاهتزاز الاجتماعي العولمي.
أما على مستوى الصحة النفسية:
- فإن العقيدة الإسلامية التي أساسها أن القدر مكتوب خيره وشره، وأن المسلمين يتقبلون قضاء الله وفق مشيئته، وأن الموت لا يؤخر أو يقدم لإنسان من غير أن يحل أجله المكتوب، لهي عقيدة تغذي روح الإنسان بالطمأنينة والراحة والسعادة.
- وإذا عرفنا أن الإنسان إذا أمسى آمناً في سربه معافى في بدنه يملك قوت يومه فقد حيزت له الدنيا، فلا صراع على المال ولا المادة ولا صراع أو خوف أو هلع من جوع، فتصبح الروح الإنسانية آمنة مطمئنة، فأي صحة نفسية عالية تلك التي يؤسسها الإسلام في حياة الناس.
إذاً؛ من سيتجرأ لهذه المهمة “مهمة تبليغ العالم أن الإسلام لديه حل شامل لنظام الحياة الحضاري في العالم”.
وأن قادم الأيام سيثبت أن النظام الحضاري الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة والغرب سيتهاوى، وسينشأ نظام عالمي جديد، إنها فرصة للمسلمين ليُهدوا العالم أغلى كنز للبشرية وهو “الإسلام العظيم”.
إن لدينا مئات من المنظمات الإسلامية والعربية والأوروبية المتخصصة في الفكر الحضاري الإسلامي والأبحاث الشرعية سواءً كانت تلك المنظمات رسمية أم أهلية.
إننا ندعو المنظمة الإسلامية للعلوم والثقافة واتحاد الجامعات الشرعية والمؤسسات الإسلامية للقيام بواجب الوقت.
إن البشرية قد مرت بثلاث موجات حضارية؛ الموجة الزراعية، تلتها الموجة الصناعية، ثم أخيراً موجة “البتات”، فهل يستطيع المسلمون أن يقدموا للبشرية الموجة الرابعة؟ وهي موجة “عالم القيم”؛ حيث إن كل قيمة من قيم الإسلام العظيم لها وزن ماديّ ومعنويّ يعادل كل مكاسب الرأسمالية وتقنية “البتات” وحضارتها، وتستطيع البشرية أن تحول تلك القيم إلى “سلعة حضارية” قابلة للتداول بما يحقق الرفاهية والسعادة للبشرية.
(المصدر: مجلة المجتمع)