مقالاتمقالات مختارة

الإسلام ورعايته للصحة | د. عكرمة صبري

الإسلام ورعايته للصحة | د. عكرمة صبري

لا يستطيع الإنسان أن يعيش بكرامة واستقرار وطمأنينة، وبأمن وأمان، إلا إذا تحققت له الضرورات الخمس التي أقرتها الشريعة الإسلامية السمحاء الغراء، وهذه الضرورات هي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، ويعبّر عن العقل بالروح، وعن النسل بالنسب والإنجاب، وإن الدولة لملزمة بتوفير هذه الضرورات في المجتمع وحمايتها والمحافظة عليها ليتمكن الناس، جميع الناس، من العيش بأمن وأمان وبطمأنينة وإستقرار.
ومن أوائل الفقهاء والمجتهدين الذين استنبطوا هذه الضرورات من الشريعة الإسلامية: الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه (الرسالة في أصول الفقه) والإمام الشاطبي في كتابه (الموافقات)، وإذا انتفت واحدة من هذه الضرورات فإن المجتمع يضطرب، وتعمّ الفوضى وعدم الاستقرار، ويقع الناس في الشقاء والعنت، وينتابهم الخوف والرعب في حياتهم ومعاشهم، فكيف إذا انتفى بعض هذه الضرورات؟ أو انتفت كلها ؟ إذن فستضطرب الأمور بشدة، مما قد يؤدي إلى انهيار المجتمع وسقوط الدولة.

ارتباط الصحة بالضرورات الخمس
يمكن القول: إن صحة الإنسان مرتبطة ارتباطاً مباشراً بثلاث من هذه الضرورات وهي: النفس، العقل، والنسل لأن انتفاء الرعاية الصحية سيؤثر سلباً على النفس وعلى العقل وعلى النسل، وما دامت الدولة ملزمة بتوفير هذه الضرورات فلا بد لها أن تبني الرعاية الصحية.
الأدلة الشرعية على الصحة والشفاء
هناك مجموعة من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي لها علاقة بالصحة والشفاء بشكل مباشر وغير مباشر، أشير إلى عدد منها:
أ- الآيات القرآنية الكريمة مرتبة حسب ذكرها في القرآن الكريم
1. قال الله -تعالى- : ” وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ” سورة التوبة (براءة) – الآية14.
2. قال الله -عزّوجل-: ” وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ” سورة يونس- الآية57.
3. قال الله -سبحانه وتعالى- : ” يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ” سورة النحل- الآية69.
4. قال الله -تبارك وتعالى-: ” وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ” سورة الإسراء- الآية82.
5. قال الله -تعالى- : ” وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ” سورة الشعراء- الآية80.
6. قال الله -عزّوجل-: ” قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ” سورة فصلت- الآية44.
ب – الأحاديث النبوية الشريفة

هناك العشرات من أقوال الرسول الأكرم محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن أفعاله أيضاً والتي تحث على الاهتمام بالصحة ورعايتها، والتي تؤكد أن ولي الأمر ملزم بتوفير الرعاية الصحية للمواطنين، أذكر عدداً منها على النحو الآتي:
1. حينما أهدى المقوقسُ ملك مصر طبيباً للرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- فإنه عليه الصلاة والسلام أمر هذا الطبيب المصري القيام بمعالجة الناس جميعهم دون استثناء مجاناً (دون مقابل) ولم يثبت أن احداً دفع أجراً مقابل المعالجة الصحية أو ثمناً للأدوية اللازمة.
2. استقدم النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- الطبيب العربي الحارث بن كلدة لتطبيب الناس.
3. مداواته -عليه الصلاة والسلام- لقوم العرنيين من القبائل العربية، حينما قدموا إلى المدينة المنورة وهم مرضى، حتى شفوا.
4. كانت خيمة متنقلة ميدانية تنصب في كل معركة من غزوات النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وذلك لإسعاف الجرحى، وكانت الصحابيات – رضي الله عنهن – يقمن بهذه المهمة الإنسانية الجليلة حسبة لله -سبحانه وتعالى- ، ومن أشهرهن: أم عمارة المازنية، والربيع بنت معوذ ، وأم عطية الأنصارية – رضي الله عنهن -.
5. أقام رسول الله -عليه الصلاة والسلام- خيمة ثابتة في فناء المسجد النبوي لمعالجة المرضى وإسعاف الجرحى، وكان عدد كبير من الصحابيات يقمن بهذه المعالجات الصحية، من أشهرهن: رفيدة بنت سعد الأسلمية -رضي الله عنها-.
6. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ” من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا ” رواه الترمذي، عن الصحابي الجليل عبيد الله بن محصن الخطمي الأنصاري -رضي الله عنه- فقد جعل رسول الله -عليه الصلاة والسلام- الأمن والصحة والنفقة من الحاجات الأساسية للإنسان، والتي لا بد من توفيرها من قبل الدولة.
7. أمر رسولنا الأكرم محمد -صلى الله عليه وسلم- الناس بالتداوي، حيث قال: ” وتداووا يا عباد الله، فإن الله لم يضع داء الا وضع له شفاء ” وفي رواية “.. الا داء واحداً ، قالوا: يا رسول الله، ما هو ؟ قال: الهرم ” أخرجه أحمد في مسنده والترمذي في سننه، عن الصحابي الجليل أسامة بن شريك -رضي الله عنه-، وفي حديث شريف آخر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ” ما أنزل داء إلا أنزل له شفاء ” أخرجه البخاري وأحمد وابن ماجه عن الصحابي الجليل أبي هريرة -رضي الله عنه-، وفي حديث نبوي شريف ثالث، قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: ” لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برؤ بإذن الله ” أخرجه مسلم وأحمد، عن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، وفي حديث نبوي شريف رابع، قال الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-:

” إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله إلا السام، قالوا: ما السام ؟ قال: الموت ” أخرجه الحاكم في المستدرك عن الصحابي الجليل أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وفي رواية (لم يخلق) بدلاً من (لم ينزل) و (خلق) بدلاً من (أنزل).
8. حث رسول الله -عليه الصلاة والسلام- على تناول الأغذية المفيدة وذلك للحفاظ على الصحة، وأمر باستعمال الحمية عن أنواع من المأكولات بدلاً من استعمال الأدوية.
9. حث الرسول الأكرم محمد -صلى الله عليه وسلم- على النظافة في كل شيء، بحيث تشمل: البدن والملابس والمكان، وعد النظافة من الإيمان، كما نهى عن تلويث البيئة، ومنع من التبول في الماء الراكد غير الجاري حيث يقول رسول الله -عليه الصلاة والسلام – في هذا المجال: ” لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ” رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، عن الصحابي الجليل أبي هريرة -رضي الله عنه-، فهذا الحديث النبوي الشريف يحث على العناية بطهارة الماء ونظافته وخلوه من الجراثيم، وفي حديث نبوي شريف آخر، قال الرسول الأكرم محمد -صلى الله عليه وسلم-: ” إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء ” رواه البخاري، عن الصحابي الجليل أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه-، فهذا الحديث النبوي الشريف حريص على نقاوة الماء من الجراثيم لأنه من المحتمل أن يكون الشخص مريضاً فتنتقل العدوى إلى غيره، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- حريص على صحة الإنسان.
10. عنايته – صلى الله وعليه وسلم – بالمرأة الحامل والمرضع والحائض والنفساء، وعنايته بالمرضى، ويظهر ذلك في تخفيف بعض التكاليف الشرعية عنها في مجال الصلاة والصوم والجهاد وغيرها.
11. منعه -عليه الصلاة والسلام- من ارتكاب الفواحش والموبقات، وإن الأحاديث النبوية الشريفة قد حذرت مما يترتب على هذه الفواحش من الأمراض، فيقول الرسول الأكرم محمد -صلى الله عليه وسلم- من حديث مطول: ” لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم.. ” رواه مالك والطبراني والبيهقي والحاكم وأبو بكر البزار، عن الصحابة الأجلاء عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وبريدة -رضي الله عنهم-، واللفظ للبيهقي.
12. إن عدم توفير الطب لمجموع الناس يؤدي إلى ضرر محدق، وإن إزالة الضرر في المجتمع من واجبات الدولة، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ” لا ضرر ولا ضرار ” حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني، عن الصحابي الجليل أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.

الحجر الصحي
أقر رسولنا الأكرم محمد -صلى الله عليه وسلم- مبدأ الحجر الصحي وقاية من الأمراض المعدية، وظهر ذلك جلياً في موضوعين هما: مرض الطاعون، ومرض الجذام، وأشير إلى حديثين نبويين شريفين بشأن هذين المرضين على النحو الآتي:
1- قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام- بشأن مرض الطاعون:
” الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل، وعلى فئة كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه ” أخرجه البخاري ومسلم، عن الصحابي الجليل أسامة بن زيد – رضي الله عنهما-
واستناداً إلى هذا الحديث النبوي الشريف فقد فرض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الحجر الصحي على مناطق في بلاد الشام، وذلك حينما انتشر مرض الطاعون الذي عرف بطاعون عمواس (نسبة إلى بلدة عمواس في فلسطين والتي تبعد عن مدينة القدس حوالي ثلاثين كيلومتراً من الجهة الغربية)، وقد أُكتشف مرض الطاعون أول ما أُكتشف في عمواس، وقد أجمع الصحابة على الإجراء السليم الذي قام به أمير المؤمنين الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب- رضي الله عنه -.
2- قال الرسول الأكرم محمد -صلى الله عليه وسلم- بشأن مرض الجذام: ” فر من المجذوم فرارك من الأسد ” رواه البخاري وأحمد، عن الصحابي الجليل أبي هريرة -رضي الله عنه-.
والمجذوم هو المريض المصاب بمرض الجذام، وهو من الأمراض المعدية، وهو عبارة عن تآكل في أعضاء الجسم.
واستناداً إلى هذا الحديث النبوي الشريف فقد مرّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو في طريقه إلى الشام، على قوم مجذومين (أي مصابين بمرض الجذام) من نصارى نجران فأمر بمعالجتهم وفرض لهم شيئاً من المال، وهذا يؤكد اهتمام الإسلام بمعالجة المرضى من مسلمين وغير مسلمين على حد سواء، كما ورد أن الخليفة الراشدي الخامس عمر بن عبد العزيز الأموي قد عزل المجذومين وأمر بمعالجتهم، ويقاس على الطاعون والجذام كل مرض معد، مثل: السل والإيدز وغيرهما من الأمراض المعدية.

بناء المشافي
لما توطدت أركان الدولة الإسلامية ورست قواعدها بدأ اهتمام الخلفاء منذ العصر الأموي بالعلوم الطبيعية والصحية والتطبيقية، إلى جانب اهتمامهم بالعلوم الشرعية، فكان الطب والتمريض من العلوم التي اهتم بها الخلفاء اهتماماً خاصاً، ففي عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان (تولى الخلافة 65 هجرية الموافق 685 ميلادية) تم تخصيص راتب للذي يقوم بخدمة المقعد، كما خصصت دابة لنقل المقعد إلى حيث يريد وخصص أيضاً راتب لمن يقود الكفيف.
وكان أول من بنى المستشفيات بالمفهوم الحديث، هو الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (تولى الخلافة 88 هجرية الموافق 706 ميلادية)، وكان كل مستشفى يضم عدداً من الأطباء والطبيبات والممرضين والممرضات، وكان للمرأة السبق في هذه المجالات الإنسانية المستمدة من ديننا الإسلامي العظيم دين الرحمة، والتعاطف والتعاون، وكان المستشفى يطلق عليه لفظ: ” البيمارستان ” (وهو في الغالب لفظ فارسي عبارة عن مقطعين ” بيمار ” معناه المريض و ” ستان ” معناه المكان).
هذا، وقد أقيمت مستشفيات خاصة لأمراض معينة: كالجذام، والأمراض العقلية، وهناك المستشفيات العسكرية بالإضافة إلى محطات الإسعاف، أما المستشفيات العامة فهي التي تُشيّد في المدن الكبرى، ويتعالج فيها الرجال والنساء مهما كان جنسهم أو دينهم أو مذهبهم من غير أجرة (أي مجاناً)، وينفق على هذه المستشفيات من الأموال الموقوفة لهذه الغاية الإنسانية النبيلة، وكان لكل مستشفى صيدلية خاصة تزود المرضى بما يحتاجون، ويشرف على الصيدلية صيدلاني مؤهل ومجاز قانونياً.
الإستجمام في المشافي
كان بعض الناس يتمارضون رغبة منهم في الدخول إلى المستشفى والتنعم بما فيه، وذلك لما يجدون من عناية ورعاية ونظافة ومأكولات شهية، مع أنهم غير مرضى، وكان الأطباء يغضون الطرف أحياناً عن هذا التحايل، وذكر المؤرخ خليل بن شاهين الظاهري بأنه زار أحد المشافي في دمشق عام 821 للهجرة الموافق 1424للميلاد فلم يشاهد مثله في عصره، وصادف أن شخصاً كان متمارضاً (أي غير مريض) في المشفى، فكتب له الطبيب بعد ثلاثة أيام كلاماً فيه اللياقة والأدب: ” ان الضيف لا يقيم فوق ثلاثة أيام “.
هكذا كان وضع المشافي في العصور الزاهرة للحضارة الإسلامية في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تغط في تخلف عميق.

الخاتمة
هذه لمحات بشأن الرعاية الصحية في الإسلام، مستدلين بالآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة وبأفعال الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومستأنسين بإنجازات الصحابة والخلفاء من بعدهم، بالإضافة إلى الصور المشرقة من تاريخ الحضارة الإسلامية عبر العصور الزاهرة، وذلك للتأكيد على أن الدولة ملزمة بالتأمين الصحي للمواطنين جميعهم.
هذا، ولا مانع شرعاً أن تستوفي الدولة من المواطنين رسوماً واشتراكات في مجال الصحة والدواء، وذلك إذا لم تستطع تغطية تكاليف المستشفيات والمستوصفات والعيادات الصحية كافة، كما يحق للدولة فرض رسوم أو اشتراكات على المواطنين في المجالات الأخرى، وذلك مساهمة من المواطنين في التخفيف عن الإلتزامات المالية على الدولة، وهذا ما أميل إليه وأفتي به.

اللهم فقّهنا في الدين وعلّمنا التأويل وارزقنا اليقين.
“والله يقول الحق وهو يهدي السبيل” سورة الأحزاب-الآية 4.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى