الإسلام والحياة.. لـ “علي عزت بيجوفيتش” (1 ـ 2)
صاحب النص هو علي عزت بيجوفيتش (1925- 2003م) رئيس البوسنة السابق، له مجموعة من المؤلفات الفكرية أشهرها “الإسلام بين الشرق والغرب” والذي وقفنا فيه على هذا النص الحضاري.
ونتناول هذا النص على قسمين الأول تحت عنوان: دين يتجه نحو الطبيعة، والثاني تحت عنوان: الإسلام والحياة.
تعليق على النص:
يناقش هذا النص مسألة “حيوية الإسلام” في علاقته بالإنسان، وطبيعة هذه العلاقة، والتصورات الأساسية، والثورة الكبرى التي أحدثها الإسلام في نظرته للإنسان، وفي علاقة الإنسان بعناصر الكون، والطبيعة، والمادة، وكانت طبيعة هذه الثورة الكبرى، مفاهيمية في ركنها الأعظم إذ أكدت على أن المادة ليست رجسًا من الشيطان، وأن الإنسان ليس روحًا فقط، وإنما روح وطين، والطين تتمدد فيه الروح وتتجسد فيه، وبدون هذه المادة المجسدة للروح لا وجود للإنسان، وهو ما يتجلى في أحد عبارات هذا النص الحضاري المختار لعلي عزت بيجوفيتش “إن العالم المادي ليس مملكة الشيطان، وليس الجسم مستودعًا للخطيئة”، فهذا هو التحرر الأول الذي أحدثته ثورة الإسلام في الإنسان، حيث بقي عصورًا مظلمة حبيس لكهنوت ذم الجسد ووصفه بالخطيئة حتى دون ذنب مقترف، وعاش الإنسان فصامًا نكدًا بين ذاته الحقيقية التي تجمع (الروح والجسد) وفي صراع وتوتر دائمين بين رضاء الكهنوت ورضاء الفطرة. فأعاد الإسلام الإنسان إلى حقيقة الفطرة، وحقيقة الاتساق الداخلي والسوية النفسية والوجدانية.
أما التحرر الثاني فكان تحرر الإنسان في علاقته مع الطبيعة، فالإنسان ليس في حالة صراع مع الطبيعة، وليسا ندين لابد وأن يقضي أحدهما على الآخر للفوز بالبقاء واستمرار الوجود. وهنا يستبدل الإسلام فكرة الصراع بالمعاناة أو “الكدح” التي يقوم بها الإنسان من أجل تحقيق حياة أفضل في ظل قابلية الطبيعة من خلال “التسخير الإلهي” للاكتشاف الإنساني، وهو ما تمظهر في الحضارة الإسلامية بالنبوغ في علوم الطبيعة والفلك.
النص
دين يتجه نحو الطبيعة
القرآن مستمر بثبات يكرر دعواه ذات الجانبين معطيًا إياها صيغة جديدة: هنا دعوة لربط التأمل بالملاحظة.. الأول دين، والثاني علم أو على الأرجح إرهاصات علم.
لا يحتوي القرآن على حقائق علمية جاهزة، ولكنه يتضمن موقفًا علميًا جوهريًا.. اهتمامًا بالعالم الخارجي وهو أمر غير مألوف في الأديان.
يشير القرآن إلى حقائق كثيرة في الطبيعة ويدعو الإنسان للاستجابة إليها.
الأمر بالعلم (بالقراءة) لا يبدو هنا متعارضًا مع فكرة الألوهية، بل إنه قد صدر باسم الله ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق:1]. الإنسان بمقتضى هذا الأمر لا يلاحظ ويبحث ويفهم “طبيعة خلقت نفسها”، ولكن الكون الذي أبدعه الله، ولذلك فإن الملاحظة ليست بلا هدف أو لامبالية أو خالية من الشوق، وإنما هي مزيج من العلم وجب الاستطلاع والاعجاب الديني.. وكثير من أوصاف الطبيعة في القرآن على درجة عالية من الشاعرية.. ويصور هذا أحسن تصوير في آياته: [البقرة: 164]، [الأنعام: 95-99]، [النحل: 10-14]. وغيرها من الآيات الكريمات. هذه الآيات اتجهت بكلياتها إلى الطبيعة نجد فيها تقبُّلًا كاملًا للعالم، ولا أثر فيها لأي نوع من أنواع الصراع مع الطبيعة، فالإسلام يبرز ما في المادة من جمال ونبل كما هو الحال بالنسبة لجسم في موقف الصلاة، والممتلكات في الزكاة.. إن العالم المادي ليس مملكة الشيطان، وليس الجسم مستودعًا للخطيئة.. حتى عالم الآخرة، وهو غاية آمال الإنسان وأعظمها صوّره القرآن مغموسًا بألوان هذا العالم. ويرى المسيحيون في هذا حسّيّة تتنافى مع عقيدتهم. ولكن الإسلام لا يرى العالم المادي مستغربَا في إطاره الروحي.
بعض آيات القرآن توقظ الفضول الفكري وتعطي قوة دافعة للعقل المكتشف.. ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ﴾ وهذه الآية الأخيرة على الأخص تستفز الفكر، فهي تطرح مشكلة تكمن في أعماق علوم الكيمياء.. والنتيجة أن المسلمين هم الذين وضعوا نهاية للجدل الذي دار حول قضايا جوهرية استحوذت على المسيحية عندما اتجهوا إلى الكيمياء، وكان هذا تحولًا من الفلسفة الصوفية إلى العلم العقلاني.
…إن الاهتمام الفذ بعلم الفلك وبالعلوم الطبيعية خلال القرون الأولى للإسلام، كان نتيجة مباشرة لتأثير القرآن. لقد تحول الدين نحو الطبيعة، فبدأت مرحلة عظيمة في تطور العلوم. وكان هذا من أعظم الإنجازات التي تحققت في التاريخ.
إن توجه الإسلام نحو العالم الخارجي، يمنحه واقعية خاصة في فهمه للإنسان، فتقبل الطبيعة بصفة عامة يتضمن تقبل الطبيعة الإنسانية، لقد رفضت جميع الأديان الأخرى هذا العالم، بما في ذلك جسم الإنسان.. والإسلام هو تحقيق الهدف المستحيل في نظر المسيحية ألا وهو الاعتراف بواقعية العالم.
وهكذا تبلورت أكبر حقيقة حاسمة في تاريخ الأديان وفي تاريخ العقل الإنساني بصفة عامة – تميزت بظهور “دين العالمين”، أو ظهور النظام الذي يحتضن الحياة الإنسانية بكل جوانبها، وتحقق الإنسان أنه ليس في حاجة أن يرفض الدين من أجل العلم، أو يتخلى عن نضاله في سبيل حياة أفضل من أجل الدين.. إن الأهمية البالغة للإسلام تكمن في حقيقة أنه لم يغفل وجود المعاناة، وضرورة النضال ضد المعاناة وهذا هو المحك الحاسم في التاريخ الإنساني.
في الوقت الذي يؤكد فيه الإسلام على عظمة الإنسان وكرامته ويبدي واقعيةً شديدة، تكاد تلغي البطولة عندما يتعامل مع الإنسان كفرد، فالإسلام لا يتعسف بتنمية خصال لا جذور لها في طبيعة الإنسان، إنه لا يحاول أن يجعل منّا ملائكة، لأن هذا مستحيل، بل يميل إلى جعل الإنسان إنسانًا.
في الإسلام قدر من الزهد، ولكنه لم يحاول به أن يدمر الحياة أو الصحة أو الفكر أو حب الاجتماع بالآخرين أو الرغبة في السعادة والمتعة، هذا القدر من الزهد أُريد به توازنًا في غرائزنا، أو توفير نوع من التوازن بين الجسم والروج.. بين الدوافع الحيوانية والدوافع الأخلاقية. وهكذا من خلال الوضوء والصلاة واليام وصلاة الجماعة والنشاط والملاحظة والنضال والتوسط- يواصل المسلم عمل الفطرة في تشكيل الإنسان. لا مكان هنا لمقاومة الطبيعة. والاستمرارية قائمة حتى عندما لا تتطابق الغايات.
…يطلب الإسلام من الإنسان أن يتحمل مسؤولياته كاملة، ولا يفرض على الناس مثالية الفقر والزهد والمعاناة، ولا يحرم الإنسان تذوق ملح الأرض وماء المحيط المالح، بل يفترض في الإنسان أن يحيا حياة كاملة مليئة.. الحياة في الإسلام يحكمها عاملان متكاملان: أحدهما الرغبة الطبيعية في السعادة والقوة، والثاني الكمال الأخلاقي (أو الخلْق الدائم للذات) هذان العاملان يتعارضان، ويطرد أحدهما الآخر في إطار المنطق النظري فقط، ولكنهما يتآزران بطرق عديدة في حياتنا وأمام أعيننا، وهذه إمكانية منحت فقط للإنسان، ومن خلالها يتم الحكم عليه. ولكن كان الإنسان أكثر شيء جدلًا.
إن القضية الرئيسة [في الإسلام] قضية الإنسان مع نفسه، اتساقُ مُثله العليا مع رغباته المادية والاجتماعية والفكرية، ذلك لأن الصراع في هذا المجال الحيوي مصدر أساسي للأمراض العُصابية، يضاف إلى المصدر الآخر، أي الصراع بين الإنسان وبيئته.
(المصدر: مجلة المجتمع)