مقالاتمقالات مختارة

الإسلام وأهل الذمة – الجزء الأول

الإسلام وأهل الذمة – الجزء الأول

بقلم معاذ السراج

في الفترات الأخيرة كثر الحديث عن المجتمع السوري وضرورة صياغة عقد وطني جديد, وما يتعلق بذلك من مسائل الهوية والعلاقة بين الدولة والمجتمع. ومع أهمية هذه المواضيع وضرورتها الأكيدة, إلا أنها الأحاديث والحوارات التي تدور حولها, وعلى كثرتها واتساعها, تكاد تخلو من مسائل على درجة من الأهمية, كالإحاطة بالسياق التاريخي لتكوين مجتمعات بلاد الشام, والعوامل التي ساهمت في تأسيس العلاقة بين سكانها, والقواعد التي قامت عليها تلك العلاقة, والتطورات التي رافقت هذه المسائل خلال العصور المختلفة.

ويصبح الأمر أكثر إشكالية حين نرى بعض الكتاب والباحثين يلقون باللوم والتقصير دائما على مجتمعاتهم نفسها, أو على التراث والتاريخ والدين وما إلى ذلك, متجاهلين الواقع الفعلي لهذه المجتمعات فضلا عن تاريخها الجيد فيما يتعلق بالشأن الاجتماعي بصورة عامة, مع أن الأمر لا يخلو من الخلل والانحراف الذي يصيب المجتمعات في أوقات ضعفها وتراجعها, على نحو ما يحدث في بعض بلدان الشرق الأوسط اليوم, ومنها سورية التي تشهد كوارث ومآس إنسانية لا مثيل لها منذ ثورة 2011.

في هذه المقالة سنتناول بإيجاز التطورات التي مرّت بها مجتمعات بلاد الشام بعد الفتح الإسلامي, والعوامل الدينية والأخلاقية التي أثّرت في التكوين الجديد لهذه المجتمعات, وآراء المؤرخين والباحثين في هذه المسألة. وسيكون المدخل الموضوعي هو التغييرات التدريجية التي طرأت على التركيبة الاجتماعية والدينية في بلاد الشام بعد الفتح وانتشار الإسلام خارج جزيرة العرب.

  • تطور البنى الاجتماعية في بلاد الشام بعد الفتح الإسلامي

في كتابه “تطور المجتمعات الإسلامية في بلاد الشام في القرن الأول الهجري”, يتناول الدكتور شكري فيصل التحولات التدريجية التي طرأت على مجتمعات بلاد الشام خلال القرن الأول الهجري, وأفضت إلى حالة من التجانس الديني واللغوي والثقافي والاجتماعي, وخلال الفترات التالية كان الإسلام في طريقة ليصبح الدين السائد في تلك المجتمعات, واللغة العربية هي اللغة الرسمية للمجتمع والدولة, وحتى التقاليد والعادات كانت تسير نحو الاستقرار على نموذج جديد في ظل حكم الإسلام. ولاشك أن تلك التحولات الراسخة لم تكن لتحصل دون عوامل أساسية أحدثت تأثيرا عميقا في كل شأن من شؤون حياة تلك المجتمعات, وعلى رأس هذه العوامل الشريعة الإسلامية, والأخلاقيات التي اصطبغت بها سياسة الفاتحين, وانصاع لها قادتهم ورؤساؤهم, فأنتجت ذلك الأسلوب الراقي في معاملة غير المسلمين من رعايا الدولة, المتمثل بما بات يُعرف “بعقد أهل الذمة”, بشهادة كثير من المؤرخين.

وإذا كان التسامح الذي اتسمت به سياسة الفاتحين الأوائل, عاملا رئيسيا في إشاعة الثقة لدى السكان المحليين والاطمئنان إلى الحياة الجديدة في ظل حكم الإسلام, بجوانبها الدينية والثقافية والاجتماعية, فإن سعي المسلمين الأوائل الحثيث, نحو تحقيق المثل الأعلى في الأخوة الدينية والإنسانية, كان عاملا لا يقل تأثيرا ومضاء في جذب أولئك الأقوام بقوة نحو عقيدة الإسلام والاطمئنان لشرعته, خاصة إذا ما قيس الأمر بما كان عليه الحال تحت حكم البيزنطيين الذين هيمنوا على المنطقة لقرون خلت.

سياسة الفاتحين المسلمين فتحت الأبواب على مصاريعها أمام أفواج كثيرة من دخلوا تحت راية الإسلام, ليتبوؤوا أرفع المناصب كعلماء وفقهاء وقضاة, وقادة عسكريين وسياسيين. وقد حفل تاريخ الإسلام بأسماء لا تُحصى من أمثال هؤلاء على مر العصور. ومن بينهم رموز تاريخية كثيرة, هي موضع رمزية خاصة لدى المسلمين جميعهم من العرب ومن غيرهم. وتبدو أهمية هذا الأمر جلية, حين نتذكر ما كان عليه العرب في جاهليتهم من تعصب قبلي شديد, واعتداد عجيب بالنفس وبالنسب, لكن سنوات أو عقود قليلة من الزمن في ظل عقيدة الإسلام, كانت كفيلة  بالتخفيف من غلواء تلك النعرة الجاهلية, والتوجه نحو المثل العليا والأخوة الدينية والإسلامية, ومن ثم قابلية التعايش والاختلاط بالأقوام الآخرين والارتباط بهم بعلاقات الولاء والنسب والمصاهرة, مما كان له أكبر الأثر في سرعة تطور البنى الاجتماعية الجديدة والتوجه الحثيث نحو الاندماج والاستقرار.

ويُشار في هذا الصدد إلى التسامح الكبير والسمو الخلقي  الذي ظهر عليه الفاتحون المسلمون, والذي بدا ملفتا للأنظار في تلك الفترة من القرن السابع الميلادي, ويمكن الحكم على جديته وصدقه من خلال العهود التي اُعطيت للسكان المحليين, وضمنت لهم حماية أرواحهم وممتلكاتهم, وحرياتهم الدينية والاجتماعية, مقابل دفع الجزية والخضوع لأحكام الشريعة. لكن التسامح وحده لا يبدو كافيا لتفسير تلك السياسة ومن مختلف جوانبها, ولابد من الإقرار في النهاية بأهمية أحكام الشريعة التي تعتبر العامل الأول في التأثير على سياسة الفاتحين وأخلاقهم.

ذلك أن أحكام الشريعة إنما بُنيت بالأساس على ثوابت الكتاب والسنة, ولم تُبن على المتغيرات الظرفية كالحروب والسياسة وطباع الناس, الأمر الذي وضع المحددات الأساسية للنهج الذي سار عليه الفاتحون الأوائل, وتمسكت المذاهب الإسلامية فيما بعد, ونشأت من خلاله أحكام أهل الذمة, التي أفردت لها أبواب خاصة في الفقه الإسلامي, وخصها العلماء والمفكرون بكتب ومصنفات لا حصر لها.

وسنعرض في الفقرات التالية للخطوط العريضة في معاملة غير المسلمين, بعيدا عن الخوض في جزئياتها وتفاصيلها الكثيرة  التفاصيل والجزئيات التي تكفلت كتب الفقه بشرحها وتوضيحها.

–       عقد أهل الذمة بين الحقوق والواجبات:

في عهد أهل الذمة, يصير غير المسلم في ذمة المسلمين وأمانهم على وجه التأبيد, ويُعرّف الذمي بأنه كل من يقيم في دار الإسلام من غير المسلمين ممن أُعطي عهدا يأمن فيه على ماله وعرضه ودينه على التأبيد مقابل أداء الجزية, والتزام ما يتعلق بهم من أحكام الشريعة. وبموجب هذا العهد تتحدد الحقوق والواجبات التي يلتزم بها كل طرف تجاه الآخر. ويلتزم فيه المسلمون بكل ما من شأنه تيسير الحياة لهم بين ظهرانيهم. ويمثل عقد أهل الذمة بهذه الصورة نموذجا فريدا وغير مسبوق في معاملة الدول لمخالفيها في العقيدة.

وتحفل كتب الفقه والسير بالكثير من النصوص الدينية والتاريخية ووصايا النبي صلى الله عليه وسلم, والخلفاء والأمراء من بعده لقوادهم وعمالهم, والتي وضعت الأسس والقواعد الأولى في معاملة أهل الذمة.

يقول الأستاذ حسين العودات في كتابه “العرب النصارى”: “احترم الإسلام أيام الرسول والخلفاء الراشدين حرية الفكر والمعتقد لأهل الكتاب انطلاقا من النص القرآني “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”.. وأضاف: “ما عدا بعض الاستثناءات فقد كان للكتابي من رعايا الدولة كامل الحقوق الأخرى في المجال السياسي التي للمسلم. فله الحق أن يكون وزير تنفيذ أو موظفا كبيرا, بل حرض الرسول صلى الله عليه وسلم على استخدام أهل الكتاب في أعمال الدنيا والاستفادة من خبراتهم المتراكمة فقال: “… وهم – أي الأقباط – أعوانكم على عدوكم وأعوانكم على دينكم, قالوا كيف يكونون أعواننا على ديننا يا رسول الله؟ قال: يكفونكم أعمال الدنيا”.

ونقل الأستاذ حسين العودات ما جاء في وصية أبي بكر للجيوش: “… وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له”, وقال بأن سماح الرسول صلى الله عليه وسلم لوفد نجران بالصلاة في المسجد هو اعتراف بمبدأ حرية المعتقد. وقد جاء في النص الذي أورده ابن العبري لمعاهدة نجران أنه إذا وجدت امرأة نصرانية في بيت مسلم فليس له أن يحملها على ترك دينها, ولا يمنع صيامها وإقام صلاتها والتقيد بقواعد عقيدتها. وما ورد في صلح أبي عبيدة مع أهل دمشق من أنه تعهد لهم بأشياء من بينها “.. أن تُترك كنائسهم وبيعهم”, وفي خطاب خالد بن الوليد الموجه لأهل عانات: “.. على ألا يُهدم لهم بيعة ولا كنيسة وعلى أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاؤوا من ليل أو نهار إلا في أوقات الصلوات, وعلى أن يُخرجوا الصلبان في أيام عيدهم”, ومثل هذا ما صالح عليه عمر رضي الله عنه أهل القدس, ورفضه دعوة البطريرك للصلاة في الكنيسة حتى لا تتخذ ذريعة للاستيلاء عليها.. ومنها كتاب أهل ايلة: “.. ولا يحل أن يُمنعوا ماء يردونه, ولا طريقا يردونها من بر أو بحر..”, وكتاب عمر إلى أبي عبيدة بعد صلحه مع بعض مدن الشام, منع فيه استرقاقهم وسبيهم, وأعطى حق الملكية لهم ولأولادهم من بعدهم. وأبقيت الأرض لأصحابها في خيبر والبحرين ومقنة ونجران مقابل دفع جزء من الغلة, كما أن عمر بن بن الخطاب منع بيع أرض الخراج.

وذكر مؤرخون مسيحيون أن الأقباط أنشأوا الكنائس بعد الفتح الإسلامي, بعد أن كانت ممنوعة, ورمموا ما تهدم منها, وقال يوحنا النقي, وكان معاديا للإسلام: “إن عمرو بن العاص لم يضع يده على شيء من ملك الكنائس, ولم يرتكب شيئا من النهب والسلب, بل إنه حفظ الكنائس وحماها حتى آخر ولايته”.

وفي الحالات التي تنحرف فيها معاملة غير المسلمين عن الجادة التي رسمت لها منذ صدر الإسلام, فإن ذلك في الغالب لا يكون لأسباب دينية صرفة, وكثيرا ما يرجع إلى تصرفات الخلفاء والولاة, أو الظروف التي تمليها أوضاع معينة لا دخل للدين بها. ومن الإنصاف القول بأن تصرفات الولاة والخلفاء لا تُعتبر حجة على الشريعة, بل العكس هو الصحيح, فالشريعة هي الحجة والمرجع بإجماع العلماء والفقهاء على مر العصور. وتُحدثنا المراجع التاريخية عن وقائع كثيرة اضطر فيها الولاة والخلفاء والسلاطين للتراجع عن قراراتهم تجاه أهل الذمة والانصياع لأحكام الشريعة وأقوال العلماء, كما وقع في حادثة الوليد بن عبد الملك ومسجد بني أمية بدمشق, وكما وقع في حادثة إجلاء الذميين من أهل قبرص, ومحاولة السلطان سليم العثماني إرغام رعايا الدولة على الدخول في الإسلام أو الجلاء عنها, وغير ذلك من الحالات.

على أن بعض المؤرخين الغربيين أرجع سوء العلاقة في بعض الأحيان إلى “سخط شائع أثاره السلوك الخشن المتعجرف الذي يسلكه الموظفون المسيحيون, أو إلى سورات من التعصب حملت الحكومة على القيام بنوع من التعسف تتنافى مع الروح العامة التي ظهر بها الحكم الإسلامي. ولكن مصير هذه الأعمال التعسفية قد آل إلى الزوال في أسرع وقت” كما ورد في كتاب “الدعوة إلى الإسلام” لتوماس أرنولد.

وقد سجل المؤرخون حالات كثيرة يتدخل فيها العلماء أو الخلفاء لإصلاح الأخطاء التي يرتكبها الخلفاء أنفسهم, أو الولاة الذين يمتنعون عن تنفيذ الشرائع, ويواصلون تقاضي الجزية من النصارى الذين أسلموا, والذين يتقاعسون عن حض النصارى على الإسلام خشية تناقص الخراج, وقد حدث هذا في الحيرة, كما ورد في كتاب الخراج لبي يوسف, وفي مصر أيام الخليفة عمر بن عبد العزيز, وقد بعث الخليفة عمر بن عبد العزيز في الحالين يأمر بوضع الجزية عمن أسلم, في كتاب شهير قال فيه: “فضع الجزية عمن أسلم, قبحك الله, فإن الله إنما بعث محمدا صلى اله عليه وسلم, هاديا ولم يبعثه جابيا”. وقد علق أحد المؤرخين على هذه الوقائع بالقول: “فأين نحن من إجبار النصارى على الإسلام بحد السيف, على ما أشاع كثير من المبشرين, وأين نحن من أوضاع النصارى في الدولة البيزنطية نفسها”.

وهنا تجدر الإشارة إلى أهمية الدوافع المعنوية والأخلاقية في سياق الحديث عن العقد الوطني أو الاجتماعي وما يكفل دوام تطبيقه في مختلف الظروف والأحوال, لاسيما حين تسود الفوضى, ويعم الاضطراب, وتضعف القوة الرادعة, ويختل الالتزام بالقانون والخضوع له, الأمر الذي لا يتوفر إلا في ظل الدين وما يمثله من قيم وأخلاق, وهو الجانب الذي يميز معاملة أهل الذمة في الإسلام, ويرجعها إلى ثوابت لا تتأثر بتغير الظروف والأحوال, ولا يستطيع حاكم أو خليفة أن يتجاوزها تحت أي ذريعة.

  • أحكام أهل الذمة في نظر المؤرخين:

يُصنّف عقد أهل الذمة على أنه من أوثق العهود وأمتنها في الشريعة الإسلامية, فهو أولاً يقوم على أساس ديني وأخلاقي, لا اعتبار فيه للجنس أو اللغة أو الموطن, ثم إنه بعد ذلك مما تفردت به الشريعة الإسلامية وأقرته لأول مرة في تاريخ البشرية, وفرضته على معتنقيها ورعاياها في ذروة انتشار الإسلام, وقوة دولته وتمكّنها.

وقدر بعض المؤرخين كثيرا ما للإسلام من أسبقية في هذا الجانب, وأشاروا إلى ذلك في كتبهم ومؤلفاتهم. فقد نقل الأستاذ جميل بيهم في كتابه “فلسفة التاريخ العثماني” عن الدكتور إنريكو إنسباتو قوله: “كل شيء في الإسلام مستند على العهد والعقد, ولا نستثني من ذلك أصول الدين نفسها, مازال الدين هو عهد بين الإنسان وربه. وكذلك فإن البيعة بين الرعية والخليفة هي من قبيل العهد. وكذلك فإن العلائق بين المؤمنين وسواهم هي أيضا قائمة على التعاهد..”

وممن تناول هذه المسألة د. إدمون رباط الذي وصف عقد أهل الذمة “بالابتكار العبقري”, الذي أنتج هذه السياسة الإنسانية (الليبرالية), وقال: “للمرة الأولى في التاريخ انطلقت دولة, هي دينية في مبدئها, ودينية في سبب وجودها, ودينية في هدفها ألا وهو نشر الإسلام من طريق الجهاد بأشكاله المختلفة, من عسكرية ومُثُلية وتبشيرية, إلى الإقرار في الوقت ذاته بأن من حق الشعوب الخاضعة لسلطانهم أن تحافظ على معتقداتها وتقاليدها وتراث حياتها, وذلك في زمن كان يقضي المبدأ السائد فيه بإكراه الرعايا على اعتناق دين ملوكهم”.

وأورد جميل بيهم أقوال جمهور كبير من المؤرخين الغربيين المنصفين, نذكر من بينهم على سبيل المثال غوستاف لوبون الذي قال: “إن محمدا صلى الله عليه وسلم, رغم ما يُشاع عنه على وجه عام, ظهر بمظهر الحلم الوافر, والرحابة الفسيحة إزاء أهل الذمة”. ومنهم “فان دانبرج” الذي يقول: “كل الحريات الشخصية والعمومية ولاسيما حرية الدين مكرسة للذميين.. أي في الإسلام”, ونقل كذلك عن م. هوداس قوله: “يتمتع الذميون بحظ وافر: فهم أحرار في مزاولة دينهم يحتفظون بقوانينهم الخاصة. ولما لا يكون علاقة ما لمسلم, يُقضى بينهم في خصوماتهم الجزائية والحقوقية بواسطة واحد منهم مفوض من السلطة”.

وفي كتابه “الدعوة إلى الإسلام” يؤكد د. توماس أرنولد أن ثقة المسيحيين بأن العرب سيحترمون حقوقهم الشخصية, وسيتركون لهم الحرية العامة في إقامة شعائرهم الدينية. جعلت مدنا ومقاطعات بأكملها تقبل بحكمهم وتسعى إلى التفاهم معهم حتى قبل أن تقع هزيمة الروم النهائية, وقال: “إن المسيحيين في السواد أذعنوا دون أي معارضة, وقبلوا السيادة الجديدة دون شرط ولا قيد. ومن المحتمل أن يكون هذا قد تم في سورية أيضا بالنسبة إلى كثير من المناطق النائية عن طريق المواصلات الكبرى”.

وأما غوستاف لوبون فقد بيّن إلى أي حد أثّر عدل العرب في مصر وشمال إفريقيا حتى جعل أهلها يختارون “لغة الفاتحين ودينهم”, وقال: “إنها لنتيجة لا تحصل قط بالقوة, ولم ينلها قبل العرب شعب من الشعوب التي تغلبت على مصر”.

ونقل د. حسين مؤنس في مقدمة كتابه “فجر الأندلس” عن مؤرخين مسيحيين قولهم بأن أوربا غزت شمال إفريقيا على مدى آلاف السنين لكنها لم تتمكن قط من بسط نفوذها المعنوي على القارة أو التغلغل في أعماقها, وباستثناء قرطاجة والاسكندرية لم يتركوا معالم تدل على تأثير جدي للأوربيين في إفريقيا حتى ظهور الإسلام, الذي احتاج فقط إلى بضع عشرات من السنين لكي ينتشر في شمال القارة ووسطها, ويُحدث تأثيرات دينية عميقة, وتحولات جذرية في اللغة والتقاليد والعادات, ويؤسس له العديد من الحواضر والمدن الكبيرة, وليس هذا وحسب, حتى إن البربر من سكان إفريقيا كانوا جنبا إلى جنب مع العرب الذين توجهوا لغزو إسبانية أو الجزيرة الأيبيرية.

والذي يعنينا هنا بشكل أساسي هو تأثير الشريعة أو العامل الديني في سياسة الفاتحين من جهة, وفي الاستجابة المدهشة من قبل غير المسلمين.

في كتاب “فتوح البلدان” روى البلاذري الواقعة التي أجلى فيها الوليد بن يزيد من كان بقبرص من الذميين وأرسلهم إلى الشام مخافة حملة الروم, فقال: “فغضب على ذلك الفقهاء وعامة المسلمين واستعظموه.. فلما ولي يزيد بن الوليد بن عبد الملك ردّهم إلى قبرص فاستُحسن ذلك من فعله ورأوه عدلا”.

وذكر جورجي زيدان المؤرخ المعروف, أن المسلمين لما دُعوا للاجتماع في اليرموك وكانت حمص في ذمتهم, أجمعوا على رد ما كانوا أخذوه من الجزية إلى أهلها, وقالوا: “قد شُغلنا عن نُصرتكم والدفع عنكم, فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه, ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم”.

ووقع كذلك أن السلطان سليم الأول العثماني, حين قرر ألا يُبقي بين ظهراني المسلمين إلا من أقر بالشهادتين, وأن يجعل بلاده كلها صافية للإسلام وحده, إلا أن علماء الدين وقفوا بوجهه, وحاججه شيخ الإسلام  زنبيلي علي أفندي بغير محاباة قائلا: “ليس لك على النصارى واليهود إلا الجزية, وليس لك أن تُزعجهم عن أوطانهم”. فرجع السلطان عن عزمه امتثالا لحكم الشريعة.

ويذكر مؤرخون مسيحيون كذلك, أن إكليروس الكنيسة القبطية, الذي كان متخفيا كله في الصحارى, هربا من المذابح البيزنطية, عاد إلى الظهور مجددا وممارسة معتقداته بحرية كاملة بعد أن جاء الفتح العربي الإسلامي. وذكر هؤلاء المؤرخون أن عمرو بن العاص عندما فتح الاسكندرية للمرة الثانية (بعد أن تمكن البيزنطيون من استردادها لبعض الوقت), وزّع من بيت المال على الأقباط أمولا طائلة, لتعويضهم من العقوبات التي أنزلتها بهم الحكومة البيزنطية, لمعاونتهم العرب في فتح مصر.

وفي تعليقه على سياسة الفاتحين في الأندلس يقول غوستاف لوبون: “إنهم علّموا أو جرّبوا أن يعلّموا الشعوب النصرانية أثمن الفضائل البشرية: وهي الرحمة. وبلغ من حسن معاملتهم للبلاد المفتوحة أن سمحوا لإكليروسها بعقد مجمعي إشبيلية (782م) وقرطبة (825م) فضلا عن أن الكنائس الكثيرة التي شُيّدت في عهد العرب هي شهادات دامغة على حسن رعايتهم الأديان التي كانت تحت قانونهم”.

وبالعودة إلى التحولات التدريجية التي أحدثها انتشار الإسلام والتي أشرنا إليها في بداية المقالة, نورد ما كتبه توماس أرنولد: “إن انحلال الكنيسة في بطء شديد لدليل على التسامح الذي لابد أن تكون قد عوملت به هذه الكنيسة. فقد وجد بعد الفتح الإسلامي بثلاثمائة سنة تقريبا ما يقرب من أربعين أسقفية كانت لا تزال باقية هناك, وفي سنة 1053 حزن البابا ليو التاسع على أنه لم يكن هناك إلا خمسة أساقفة يمثلون الكنيسة الإفريقية التي كانت من قبل تتمتع بالشهرة والازدهار”.

وأضاف: “يجدر أن نتبين أن عدد الأهالي المسيحيين في شمال إفريقية في نهاية القرن السابع الميلادي كان قليلا جدا وهذه حالة تجعل استمرار بقائهم في ظل الحكم الإسلامي أقوى دلالة على انعدام وسائل العنف والإكراه في التحول إلى الإسلام..”

ونقل أرنولد عن ابن خلدون (فيما كتبه حول نهاية القرن الرابع عشر) عن بعض قرى ولاية قسطيلية (وهي توزر الحديثة في تونس), والتي لازال يسكنها بعض الأهالي المسيحيين الذين كان أسلافهم قد عاشوا هناك منذ الفتح العربي.

ونختم بالقول إن وجود هذا الكم الكبير والمتنوع من التجمعات الدينية والمذهبية التي تنتشر في غرب العراق وشماله, وفي الجزيرة السورية وسهول حماة وحوران وفي معظم المدن السورية, والتي لاتزال تحافظ على عقائدها وعاداتها وتقاليدها ولغاتها, لدليل أكيد على ما ذهب إليه أولئك العلماء والمؤرخون, من التأثير الحاسم للعامل الديني في حماية غير المسلمين وحفظه لحقوقهم وحرياتهم.

في الجزء التالي من هذه المقالة سنتناول تاريخ العلاقة مع غير المسلمين ونماذج من هذه العلاقات في أطوار مختلفة من التاريخ الإسلامي.

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى