الإسلام في الفلبين: كل ما يجب أن تعرفه كمسلم عن مسلمي المورو؟
إعداد د. ليلى حمدان
هناك في جنوب شرق آسيا وتحديدًا في جزء من أرخبيل الملايو الذي يضم إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة تقع الفلبين، حيث سجل التاريخ واحدة من أروع قصص الثبات للمسلمين وبطولات المقاومة الباسلة ضد الحملات الإسبانية والبرتغالية التي عملت على نشر النصرانية بقوة البنادق والمدافع واحتلت البلاد لأكثر من 3 قرون ونصف. لتنتقل الفلبين بعد ذلك لقبضة الاحتلال الأمريكي الذي لم يخرج منها حتى رسخ اللغة الإنجليزية كلغة رسمية وزرع ثقافته بين الأجيال.
تاريخ يستوجب تسليط الضوء عليه في قصة الإسلام في الفلبين، لنستخلص الدروس والعبر ونستفيد من تجارب المسلمين المنسيين.
تجدون في هذا البحث النقاط التالية:
- المسلمون في الفلبين
- من أين جاءت تسمية مسلمي المورو؟
- تاريخ الإسلام في الفلبين
- نهضة المسلمين في الفلبين
- الغزو الإسباني للفلبين يتفاجأ بالمقاومة الإسلامية
- لابو لابو القائد المسلم الذي لم ينصفه التاريخ
- تفاصيل عودة الغزو الإسباني بعد قرابة نصف قرن
- عجز إسبانيا وتسليمها الفلبين ليد الأمريكيين
- الاحتلال الياباني يعقبه استقلال جزئي
- الجبهة الوطنية لتحرير مورو
- همة المسلمين في الفلبين لا تفتر
- الحقد الصهيوني ينال من الفلبين
- نحن لا نستسلم ننتصر أو نموت
- جبهة تحرير مورو الإسلامية
- واقع المسلمين في الفلبين اليوم
المسلمون في الفلبين
يصل عدد المسلمين في الفلبين إلى نحو 13 مليون نسمة ويتواجدون جنوبًا في جزيرة ميندناو وأرخبيل صولو وجزيرة بالاوان ويتناقص عددهم في الجزر الوسطى والشمالية أين تعيش أغلبية من النصارى الكاثوليك والبروتستانت والبوذيين والوثنيين.
ويعتبر الإسلام أول ديانة سماوية طرقت أبواب الفلبين التي كانت تسودها الوثنية، وانتشرت دعوة الإسلام بشكل مبهر بين السكان فأخرجتهم من ظلمات الكفر والضلال إلى أنوار الإيمان والهداية، ولولا حملات الاحتلال الغربي التنصيرية، لأسلمت أغلب البلاد، ومع ذلك بقي الإسلام صامدًا أمام محاولات القضاء عليه التي تعددت أساليبها البشعة.
من أين جاءت تسمية مسلمي المورو؟
وأطلق الإسبان اسم “المورو” على المسلمين في الجزر التي كان حكامها مسلمون، وهو اسم أطلقوه على المسلمين في المغرب ومن ثمة أطلقوه على كل مسلم وجدوه في مدغشقر وسيلان وجنوب شرقي آسيا وكل مكان.
ومانيلا هي عاصمة الفلبين اليوم، وتقع في غرب جزيرة لوزون، وكانت عاصمة السلطان رجا سليمان، أثناء حكمه الإسلامي لكن احتلها القائد الإسباني لوبيز عام 979 هـ (1571م) فأعاد بناءها على أسس نصرانية وغير اسمها من أمان الله إلى مانيلا.
ويجدر الإشارة إلى أن رجا سليمان الذي استشهد في معركة صد الاحتلال، هو سليل الدعاة والأشراف العرب الذين قدموا إلى الفلبين لنشر الإسلام منذ القرنين الثامن والتاسع هجري.
وتضم الفلبين 7100 جزيرة، عدد كبير منها غير مأهول، ولوزون هي أكبر جزرها في القسم الشمالي بمساحة 150 ألف كم مربع، تليها جزيرة ميندناو في القسم الجنوبي بمساحة 140 ألف وهي جزيرة من أرخبيل صولو الذي يضم عددًا من الجزر، بينما تصل مساحة ما يقرب من 500 جزيرة لمساحة لا تتجاوز الواحدة منها 2.6 كم مربع.
وترجع الروايات التاريخية اكتشاف جزر الفلبين خلال الرحلات الاستكشافية البحرية التنصيرية التي قادها الإسبان والبرتغاليون، وتحديدًا رحلة الرحالة البرتغالي فرديناند ماجلان الذي وصلها في أسطول إسباني.
لكن في الواقع فإن ماجلان وصل إلى هذه الأرض بعد أن سبقه إليها المسلمون منذ القرن الثالث الهجري (حوالي عام 270 هـ – 884م) حيث حطوا رحالهم فيما عرف بـ “بنجسا مورو” أو “جزر المهراج” وهو الاسم الذي أطلقه المسلمون على المناطق التي يعيشون فيها جنوب الفلبين، والتي تشكل مساحة 37% من جملة أراضي البلاد.
تاريخ الإسلام في الفلبين
ووصل الإسلام إلى الفلبين عن طريق التجار العرب والدعاة القادمين من الصين وسومطرة ومن حضرموت وشبه جزيرة مالايو، لتنتشر دعوته إلى غاية حدود “مانيلا” قبل أن يطأ الإسبان هذه الأرض التي وصلوها في عام 940هـ – 1521م. بذل خلالها المسلمون النفس والنفيس في سبيل نشر الإسلام وتبليغ الأمانة، لا يرجون من أهل الفلبين جزاءً ولا شكورًا.
يقول محمود شاكر يصف كيف وصل الدعاة للفلبين لنشر الإسلام: “وكانت المراكب تقطع الطريق البحرية في خمسة أشهر كاملة تتعرض خلالها للأعاصير المهلكة والأمواج العاتية ووحوش البحر المفترسة وهجمات القراصنة الغادرة والدعاة المسلمون يقتحمون هذه الأخطار ويتجشمون تلك المصاعب بصبر وشجاعة لا نظير لها في سبيل مهمتهم التي يعملون لها وهي نشر الإسلام. خمس أشهر كاملة يتحملونها في سبيل وصولهم إلى مهمتهم وخمسة أخرى مثلها في طريق عودتهم، إضافة إلى ما يقضون هناك من وقت يعملون فيه بالدعوة التي خرجوا من أجلها، والتي دفعتهم إلى تلك الأصقاع النائية والتي ذللت كل الأخطار التي يتعرضون لها في سبيل مهمتهم”.
وبفضل هذه التضحيات وهذه الهمم المسابقة، انتشر الإسلام في إندونيسيا وحكم المسلمون تلك الأرجاء وامتد نفوذهم إلى الجزر الشمالية من بورنيو في إندونيسيا إلى أرخبيل صولو وجزيرة ميندناو في الفلبين.
وتذكر المصادر التاريخية العديد من أسماء المسلمين الذين وصلوا لأرض الفلبين في وقت مبكر جدًا، لنشر رسالة الإسلام، ومن ذلك وصول 3 رجال من العراق في عام 310 هـ، هم محمد بن يحيى وأحمد عبد الله ومحمد بن جعفر، وقضى الثلاثة نحبهم في سبيل الدعوة لله في عام 314 هـ وتلاهم في عام 317 ه أحفاد أحمد بن عيسى بن محمد النقيب بن علي الرضا بن جعفر الصادق، وقد لقب أحمد بالمهاجر، إذ انتقل من العراق إلى اليمن وانتقل أحفاده منها إلى الهند، ومنها إلى جنوب شرقي آسيا واستقروا أخيرًا في جزر الفلبين.
وفي عام 679 هـ أقام بأرخبيل صولو، أحد الفقهاء وهو الشريف كارم المخدوم، والمخدوم لقب يعني الداعية أو الواعظ، فأسس مسجدًا هناك في توبيخ أندينغان من جزر صولو، فكان هذا المسجد حجر أساس في انتشار الإسلام.
وجدير بالذكر أن من بين الجاليات المسلمة التي وصلت لنشر الإسلام في الفلبين واستقرت في أرخبيل صولو وقامت بينهم وبين سكان البلاد علاقات تزاوج ومصاهرة، كان إسحاق بن أولياء المخزومي؛ نسبةً إلى قبيلة حليمة السعدية المخزومية، مرضعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان ذلك في سنة 804 هـ – 1384 م.
ويتناقل الفلبينيون المسلمون بينهم رواية عن وصول الإسلام لبلادهم عن طريق 7 إخوة في الله من العرب، قدموا من الجزيرة العربية، من أشهرهم رجل يدعى أبو بكر، وهو أول من أسَّس مملكة إسلامية في جزيرة صولو، حكمها أحفاده من بعده. ومنهم سيد علي الذي نشر الإسلام في جزيرة تاوي تاوي إحدى جزر أرخبيل صولو.
ولقي المسلمون الذين قدموا من الصين إلى الفلبين دعم إخوانهم في إندونيسيا وماليزيا في القرن التاسع الهجري، وأدى هذا التعاون في القرن العاشر إلى تأسيس تحالف بين المسلمين في جزر سيليبس والمولوك وصولو وميندناو ضد الغزاة الإسبان والبرتغاليين. حيث تحولت المواجهة مع الصليبيين من قلب العالم الإسلامي وبلاد الأندلس -بعد سقوط الأخيرة- إلى الشرق الأقصى آنذاك.
ومع اختلاف الروايات في تاريخ دخول الإسلام للفلبين اتفقت جميعها أنه كان قبل وصول ماجلان إلى هذه البلاد، كما أن بعض الباحثين يتفق مع أن الإسلام دخل مبكرًا جدًا، لأن الحالة التي كان عليها الإسلام في القرن الخامس الهجري لابد أن يكون قد سبقها الإسلام بكثير.
نهضة المسلمين في الفلبين
وتمكن المسلمون من الحكم وإقامة السلطنات والممالك الإسلامية كونهم كانوا أكثر مدنية ونشاطًا وتنظيمًا ويحملون منظومة حياة في دينهم، ويحملون معها عزة الإسلام.
وقد شهدت بنجسا مورو حضارة إسلامية زاهرة، وتأسست هناك ممالك إسلامية عملت على دعم مسيرة المدّ الإسلامي في 26 منطقة في جنوب الفلبين والجزر الواقعة في أرخبيل صولو.
وانتشر الإسلام بشكل كبير وعظم في نفوس السكان في سنة 804هـ – 1384م وخاصة في أرخبيل صولو وجزيرة مندانا وجزر بيساياسي، وجزيرة لوزون شمال الفلبين، وظهر أثر هذه المكانة بتأسيس إمارات وسلطنات إسلامية شهيرة امتد ملكها 137 سنة، من سنة 804 هـ إلى 941 هـ، لتكون أول مجتمع إنساني منظم في هذه المنطقة وكان منها:
- سلطنة صولو الإسلامية التي قادها سلطان رجا باغنداء والشريف أبو بكر.
- سلطنة منداناو الإسلامية التي قادها الشريف محمد بن علي.
- سلطنة راناو الإسلامية التي قادها أحفاد محمد علي كابونسوان.
- مملكة سيبو الإسلامية التي قادها الملك هومابون.
- إمارة ماكتان الإسلامية التي قادها الأمير لابو لابو.
- إمارة بوهول الإسلامية التي قادها الأمير سيكاتونا.
- إمارة كافيل الإسلامية التي قادها الأمير كالانسياو.
- إمارة إيلويلو الإسلامية التي قادها الأمير داتوفو تئ.
- إمارة فاناي الإسلامية.
- إمارة مانيلا الإسلامية التي قادها الأمير سليمان.
- إمارة توندو الإسلامية التي قادها الأمير لاكاندولاء.
- إمارة فانجغاسينان الإسلامية التي قادتها الأميرة أوردوها.
وحقق الحكم الإسلامي الأمن والأمان واستقرت البلاد وانتهت فوضى قطاع الطرق والقرصنة، وأقيمت العدالة فازدهرت دعوة الإسلام ونهضته.
الغزو الإسباني للفلبين يتفاجأ بالمقاومة الإسلامية
لكن هذه الإمارات والسلطنات والممالك الإسلامية لم تهنأ بالأمن والاستقرار والحرية حيث أقضت مضاجعها حملات الاحتلال الإسباني الجشع في عام 940هـ – 1521م.
فسيطر المحتلون على البلاد، وفرضوا على سكان الفلبين الكاثوليكية بقوة الحديد والنار، لكن هذه السياسة ولدت مقاومة شرسة وطويلة لدى المسلمين في الجنوب الذين أعلنوا الجهاد العظيم تسقيه دماؤهم الزكية لـ 377 عامًا. كانت خلالها سفن المسلمين المسلَّحة تشن الهجمات على السُّفن الإسبانية، وتأسر الآلاف من الإسبان، وتبيعهم في سوق الرَّقيق، تمامًا كما فعل بهم الإسبان الذي سلطوا التنصير والاستعباد على أهل الفلبين.
وأمام هذه الصلابة، أدرك الإسبان استحالة القضاء على المسلمين، فاعترفوا عام 1252هـ – 1836م باستقلال سُلطانهم في صولو، ثم ما لبثوا أن عادوا واستولوا على البلاد عام 1291هـ – 1874م، فلجأ المسلمون إلى حرب العصابات ولم يتمكن الإسبان من بسط حكمهم في مناطق المسلمين إلا بشكل صوري، فكتب “بلتزار جير” -ممن اشتركوا في غزو الفلبين- إلى الحاكم الإسباني عام 1298هـ – 1881م ينصحه بقبول الواقع الإسلامي، وإلا فإن مصير النّفوذ الاستعماري هو الانهيار.
ورغم حجم العدوان الذي سلطه الإسبان على المسلمين بقيت الإمارات الإسلامية تحمل لواء جهاد الغزوات الصليبية الأوروبية، ولم يتمكن الإسبان من السيطرة سوى على بعض المناطق الساحلية وقليلٍ من المدُن.
لكن روح المقاومة والجهاد لم تكن تسري بين جميع المسلمين في الفلبين، فسرعان ما استسلم المسلمون في جُزر البيساياس وجزيرة لوزون لذل الاستعمار الإسباني بل تحول بعضهم إلى عملاء له، وقدموا خدمات العمالة والخيانة للإسبان المحتلين لقتال بقية المُسلمين في الجنوب.
وهكذا لا يتمكن احتلال من بلد حتى يمهد له فصيل خائن عميل من كل أمة.
وتأزم حال المسلمين وضعف أكثر بعد سيطرة هولندا على جزر الهند الشرقية، وسيطرة الإنجليز على ماليزيا، فتمكن الأوروبيون من عزل المسلمين في الفلبين عن بقية العالم الإسلامي بالقرصنة البحرية. ونجحوا في عرقلة انتشار الإسلام شمالًا، وتعطلت حركة الدعوة الإسلامية.
ويفسر المؤرخون اهتمام الإسبان بهذا الجزء من آسيا، لشعورهم بنشوة النصر في الأندلس، حيث خرجت أساطيل الإسبان والبرتغال إلى الشرق بعد أن أجهز النصارى على المسلمين في الأندلس في عام 898هـ – 1492م، وكان ذلك بعد أن مال سلاطينهم إلى الرفاهية والتخاذل وترك الجهاد، فانطلقت الأساطيل تطارد المسلمين واختار البرتغاليون التحرك حول إفريقيا بعد الاستفادة من الجاسوسية اليهودية وعملها في دولة المماليك في مصر، ثم توجهوا نحو الشرق فوصلوا إلى الهند ومالاقا وسنغافورة وبعض الجزر الأندونيسية، بينما توجه الإسبان غربًا على أمل الوصول إلى شرقي بلاد المسلمين من هذه الطريق وفق نظرية كروية الأرض التي كانت لا تزال محط نظر آنذاك وكان ماجلان مقتنعًا بها، وبالفعل لقي مشروع ماجلان قبول ملك إسبانيا فخرج إلى المحيط الهادي وسار فيه مدة ثلاثة أشهر وعشرين يومًا حتى نقصت مؤنه وفتك المرض بطاقم الملاحيين معه، ثم وصل بهم المسير إلى الفلبين عام 927هـ، وكل ظنهم أنهم قد وصلوا إلى جزر التوابل “جزر المولوك في إندونيسيا” لكن تبين لهم أنهم نزلوا في أرض جديدة فأطلق عليها ماجلان اسم “سانت لازار”.
وماجلان قائد الحملات التنصيرية الإسبانية قس برتغالي فر من بلاده بتهمة السرقة، ليحتضنه في عام 1517م الملك شارل إمبراطور إسبانيا فعهد إليه بمهمة اكتشاف المناطق الواقعة تحت النفوذ الإسباني في وقت كانت فيه البرتغال وإسبانيا في أتون منافسة شديدة لاكتشاف أراض جديدة وبسط النفوذ وإقامة مستعمرات بها، وفي الوقت الذي حظي فيه ماجلان باهتمام ورعاية الملك الإسباني كارلوس الخامس عده البرتغاليون خائنًا، بحسب تقرير لمجلة ناشونال جيوغرافيك الأميركية.
وكانت الفلبين آنذاك بشكل كيانات سياسية صغيرة على رأس كل منها حاكم يدعى “داتو” ويندمج بعضهم ببعض في كيانات أكبر يحكمها “راجا”. يدين قسم كبير منهم بالوثنية في حين يدين البقية بالإسلام.
لابو لابو القائد المسلم الذي لم ينصفه التاريخ
وفي القرن العاشر عرقل الإسبان والأوروبيون موجات الدعاة المسلمين، وقطعوا الاتصال بين المسلمين في الفلبين وبقية العالم، فتوقف انتشار الاسلام، وذبلت العلاقات الخارجية النشطة التي عرفتها البلاد خلال القرنين السابع والثامن هجري. وانحسر اهتمام المسلمين برد عادية الإسبان.
وما كان للإسبان أن يشكلوا خطرًا على المسلمين في الفلبين لولا أن وجد الغزاة من يمهد لهم الطريق لتوطيد أركان احتلالهم فقد اتفق ماجلان مع حاكم سيبو واسمه “هومابون” على أن يدخل الحاكم في النصرانية الكاثوليكية، مقابل أن يكون ملكًا على جميع الجزر تحت التاج الإسباني ويتولى هو تمكينه من هذه الجزر.
فانتقلوا من سيبو إلى جزيرة قريبة تقع شرقًا على مسافة عدة كيلومترات، هي جزيرة ماكتان، وكان يحكمها قائد مسلم مستعلٍ بإيمانه اسمه لابو لابو، ففاجأهم وسكان الجزيرة برفض الغزو الأجنبي ومقاومته بكل ما يملكون من قوة، فحنق عليهم الإسبان وطاردوا نساءهم ونهبوا طعامهم، وأضرموا النيران في أكواخهم وفروا هاربين.
وازداد عزم لابو لابو على مواجهة الإسبان ورفض الخضوع لهم، وجمع سكان الجزيرة للجهاد وأعد العدة المتاحة من مدي وسيوف وأسلحة بدائية، وحين رجع ماجلان من جديد بسفنه يستعرض أسلحته الحديثة وقوته للتخلص من لابو لابو وإخضاع بقية الجزر بتلقينهم درسًا بهذه الجزيرة.
قال ماجلان مخاطبًا بكبر وغطرسة القائد لابو لابو: “إنني باسم المسيح أطلب إليك التسليم، ونحن العرق الأبيض أصحاب الحضارة أولى منكم بحكم هذه البلاد”.
فرد عليه لابو لابو بإباء:
إن الدين لله، وإن الإله الذي أعبده هو إله جميع البشر على اختلاف ألوانهم.
ثم اشتعل القتال بين الطرفين، في معركة ماكتان فجر يوم 27 أبريل 1521م (928هـ) وانطلقت معه مشاهد البسالة والشجاعة المبهرة من المسلمين في الجزيرة مستلهمين الثبات من قائدهم فلم ترعبهم طلقات الرصاص ولا أعداد الأعداء ولا أحجام عدتهم وعتادهم، واشتبكت الصفوف، وجاءت اللحظة الحاسمة وتواجه لابو لابو مع ماجلان فقتله شر قتلة وانتصر عليه كما انتصر المسلمون على الجيش الإسباني فأبادوه إلا قلة قليلة تمكنت من الفرار بعد أن عاينت جدية سكان الجزيرة الأحرار، وتراجعت لا تلوي على شيء وتركت خلفها جثة قائدها بين أقدام قاتله البطل، وتقول بعض الروايات أن لابو لابو لم يكتف بقتل القائد الصليبي المغرور فحسب بل رفض تسليم جثته للإسبان، ولا يزال قبره شاهدًا على ذلك في الفلبين.
ولمداراة هذا العار الذي لحق ماجلان وقواته، حاولت روايات تاريخية كاذبة أن ترجع مقتل قائدهم الشهير، على يد بعض آكلي البشر في الجزيرة أثناء قيامه برحلة استكشاف جغرافية بريئة زعموا، بينما في الحقيقة قُتل هذا القس الحاقد أثناء محاولته غزو بلاد مسلمة أبى شعبها أن يركع إلا لله فجعله عبرة لمن يعتبر.
وبالفعل انسحب الإسبان بعد هزيمتهم الكبيرة التي لم تكن في حسبانهم وتابع نائب ماجلان “دل كانو” الطريق إلى جزيرة بورنيو وجزر المولوك، وعاد منها إلى إسبانيا عن طريق رأس الرجاء الصالح وقد تقلص عدد قواته وسفنه بشكل كبير عما خرج به أول مرة.
ولم تهدأ إسبانيا تدفعها الأحقاد والأطماع الجشعة فسارعت لجمع حملاتها لمعاودة الكرة، وبعثت مرة ثانية 4 حملات متتابعة لكنها نزلت على شواطئ جزيرة مينداناو فقتل أفراد الحملات جميعًا على أيدي المسلمين الأحرار.
وبعد إبادة حملات الإسبان المتوالية، مرت البلاد بفترة من الهدوء إلى أن استجمع الإسبان قواتهم من جديد ليبدأ الغزو الإسباني الحقيقي في عام 973هـ أي بعد 45 سنة من هزيمتهم على يد المسلمين، وكان الهدف من غزوهم توسعة رقعة الممتلكات الإسبانية وتنصير سكان البلاد التي يحتلونها.
وكان على رأس إحدى هذه الحملات “روي لوبيز” وهو الذي أطلق اسم “الفلبين” على هذه الجزر نسبة لـ “فيليب” أمير النمسا، والذي أصبح ملكًا على إسبانيا فيما بعد باسم “فيليب الثاني”.
وهكذا تمكنت مقاومة لابو لابو من منع الإسبان من غزو بلاده قرابة نصف القرن. ومع ذلك لم ينصف التاريخ هذا البطل الشجاع ولم يوليه المسلمون الاهتمام الذي يستحقه قائد تجرع من ترياق العزة فأبى أن يُساس من كافر.
وإن أي متبصر بتاريخ الفلبين ليجد من الإنصاف أن تسمى هذه البلاد على اسم قائدها البطل الحر، لابو لابو، وليس على اسم الملك الإسباني المستعمر فيليب وهو مطلب شريحة من الفلبينيين اليوم.
تفاصيل عودة الغزو الإسباني بعد قرابة نصف قرن
عندما رجع الإسبان بعد قرابة نصف قرن، اتخذ القائد الإسباني ميغل لوبيز جزيرة سيبو قاعدة للغزو وعمد لتشييد قلعة شديدة التحصين فيها، مكنتهم من الاستيلاء على مملكة رجا سليمان الإسلامية بعد قتال مرير طالت فصوله. وأنشأ الإسبان في أمان الله التي أصبحت مانيلا، مدينة أخرى أحاطوها بأسوار ضخمة، وأطلقوا عليها اسم “أنترامورس”؛ وأصبحت مقرًّا لحكومة الاحتلال ومحاكم التفتيش، التي رافقت التاريخ البشع والقبيح للنصارى الكاثوليك، يسومون فيها المسلمين سوء العذاب ولا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة. وهي المحاكم التي يدير سلطتها البابا مباشرة. تمارس الاختطاف والتعذيب والسجن والقتل حرقًا ونهب الأملاك. وبقيت هذه المحاكم كأعظم نقطة سوداء في تاريخ النصارى الأوروبيين.
لكن رغم إخضاع الإسبان للجزر الشمالية بشكل كامل إلا أنهم عجزوا وفشلوا في إخضاع الجزر الجنوبية، رغم محاولاتهم المستميتة التي قابلها صمود المسلمين الكبير مما دفع باليأس لقلوب الإسبان فانصرفوا عنها إلى مناطق أخرى من الفلبين.
وتنصر قسم كبير من سكان الفلبين على مذهب الكاثوليكية، وأسلموا زمام أمورهم للإسبان والسلطات الكنسية، بينما تمسك القسم الباقي بمعتقداتهم وانعزلوا في الجبال والمناطق النائية وأغلبهم من الوثنيين الذين لم يقبلوا النصرانية، أما القسم الثالث فهو قسم آمن بالله ربًا وبالإسلام دينًا فلم يهزم، وبقي يحكم أربع ممالك إسلامية في الجنوب، تعتمد على صيد البحر والتجارة والزراعة.
واستمرت المقاومة الإسلامية على رغم من أن عدوها هو من سطر الجرائم الفظيعة والمذابح الوحشية في الأندلس، ويملك من التفوق العددي والقوة الحربية والأسلحة الحديثة ما يهدد به الدول والحكومات لكنه عجز أمام الثلة المصابرة.
وبدل أن يتوارث المسلمون هذا التاريخ المشرّف صوروه إرهابًا وقرصنة وجريمة بحسب التأريخ الإسباني، فسمي المسلمون بالقراصنة ولا يلام الغرب على تحريف هذا التاريخ بل يلام المسلمون الذين نقلوا عنهم دون تبين أو نقد في وقت شحت فيه المصادر التاريخية ولم يدون هذا التاريخ مؤرخ مسلم في ذلك العصر لانشغالهم بالدفاع عن دينهم وأمتهم.
وانتهت مرحلة الاحتلال الإسباني والمقاومة الإسلامية صامدة ومستقلة عن حكم الاحتلال لتبدأ قصة كفاح جديدة مع الاحتلال الأمريكي.
عجز إسبانيا وتسليمها الفلبين ليد الأمريكيين
وفشل الإسبان في تحقيق الاستقرار التام وإحكام قبضتهم على الفلبين وتسبب الضغط المستمر على السُّكان في الانفجار، وأفضت سياسة الحديد والنار التي فرضتها النصرانية الكاثوليكية إلى تأجيج عداوة القبائل الفلبينية على اختلاف توجهاتها، حيث ترسخت لديها حقيقة أن الإسبان عدو محتل مشترك، واندلعت الثورة بين مختلف أطياف الفلبينيين في عام 1290هـ – 1893م، وعادت وتأَجَّجت مرة أخرى في عام 1314هـ – 1896م، فاضطر الحاكم العام الإسباني الجنرال “جوينالدو” إلى الفرار إلى “هونج كونج” في نفس العام.
وتدخل الأمريكان وبدأت العمليات المشتركة عام 1316هـ – 1898م، فتم تدمير الأسطول الإسباني، داخل خليج مانيلا، وانتهت الأزمة بتوقيع اتفاق بين الأمريكيين والإسبان يقضي بانسحاب إسبانيا من الفلبين وتسليمها للأمريكيين مقابل 5 ملايين دولار، وعاد جوينالدو من هونغ كونغ فأعلن استقلال الفلبين عن إسبانيا وتمت معاهدة باريس في العام نفسه.
ولم تتنازل إسبانيا عن الفلبين فحسب بل تنازلت أيضًا عن حكم كوبا وبورتوريكو لصالح الأمريكيين. وتشير بعض الروايات إلى أن هذا التنازل جاء بعد عدة معارك استعراضية بين الإسبان والأمريكان يدفعها اتفاق سري بين الطرفين انتشل الإسبان من قاع الفشل في الفلبين، ليدخل الأمريكيون البلاد بصفة البطل المنقذ، وبالفعل دخل الأمريكيون ودخلت معهم ثقافتهم وأهدافهم، وبدأت مرحلة أخرى من القهر للمسلمين والحماية والتشجيع للنصارى.
لكن الفلبينيون رفضوا معاهدة باريس والحكم الأمريكي، وأقاموا ثورة في عام 1319هـ وتمكنت القوات الأمريكية من إجهاضها، بينما استمر المسلمون في مقاومتهم لعقود أخرى تحت الحكم الأمريكي، فكان عصر الاحتلال الأمريكي عصر محاربة الممالك الإسلامية على نفس خطى الإسبان، وعزل مناطق المسلمين وفرض سياج من الجهل والتخلف والفقر عليهم مقابل تقريب النصارى وكسب موالاتهم ودعمهم وإعدادهم لاستلام حكم البلاد مستقبلًا.
الاحتلال الياباني يعقبه استقلال جزئي
وتخلل الاحتلال الأمريكي للفلبين احتلال ياباني قصير وذلك في عام 1360هـ– 1941م حيث كان العالم مع موعد مع الحرب العالمية الثانية، فاحتلت اليابان الفلبين في نفس العام وطردت القوات الأمريكية منها، ومع أن قائد القوات الأمريكية الجنرال دوجلاس ماك آرثر طمأن الفلبينيين من أن بلادهم في مأمن إلا أن ضربات اليابان على الأسطول الأمريكي في موقعة بيرل هاربر واقتحام القوات اليابانية جزيرة لوزون وعدة جزر أخرى من الفلبين أثار الذعر في صفوف الفلبينيين.
وقاتلت القوات الأمريكية ضد اليابان وكذلك فعل الفلبينيون بحرب العصابات التي انتهت بخروج اليابانيين في رجب عام 1364هـ – 1945م. ولا شك أن المقاومة الإسلامية لعبت دورًا مهمًا في طرد اليابانيين وهزيمتهم. وقد جندت القيادات الإسلامية خلال هذه المرحلة أربعين ألفًا من المقاتلين المسلمين الأشدَّاء الذين أثخنوا في اليابانيين.
وأمام هذه المساهمة وعدت الإدارة الأمريكية الفلبينيين بالحصول على استقلال للجزر الشمالية تحت اسم “الفلبين”، والجنوبية تحت اسم “بنجسا مورو”. لكنه وعد لم يتحقق بشكل كامل.
الجبهة الوطنية لتحرير مورو
فقد انتهت هذه المرحلة بمنح الأمريكيين الاستقلال للفلبين في عام 1946م دون الحديث عن مناطق المسلمين. وأبقت الولايات المتحدة على العشرات من القواعد العسكرية، كما فرضت قيودها على الاقتصاد الفلبيني والتي كان منها إمكانية الوصول إلى المواد والغابات والموارد الطبيعية الفلبينية الأخرى. أي بتعبير آخر لم يكن هناك استقلال تام كما وعد به الأمريكيون.
ويؤكد هذه الحقيقة ما لاحظه ريموند بونر والعديد من المؤرخين، حيث أكدوا على مواصلة الأمريكيين توجيه البلاد عبر عملاء وكالة الاستخبارات المركزية، أمثال إدوارد لانسديل، الذي لم يتردد في ضرب الرئيس الفلبيني رامون ماغسايساي جسديًا. بعد إلقائه خطابًا قال فيه أن العملاء الأمريكيين خدروا الرئيس الحالي وناقشوا اغتيال السيناتور كلارو ريكتو.
واستمر التأثير الأمريكي على الفلبين بشكل أو بآخر بعد احتلال استمر قرابة النصف قرن استطاع خلالها أن يحقق ما عجز عنه الإسبان في أكثر من 3 قرون ونصف وذلك باستخدام الخديعة والمكر، واستفاد الأمريكيون أقصى استفادة من الثروات الفلبينية، ولم يخرجوا من البلاد حتى أقاموا خلفهم حكومة محلية تخضع شؤونها الدفاعية والخارجية للولايات المتحدة.
ومع أنه استقلال جزئي إلا أنه حقق انفراجة بالنسبة للمسلمين وفتحت الأبواب أمام المدد الإسلامي ووصل الفلبين قوافل من الدعاة والمسلمين.
من جانبه تسبب إحباط المسلمين في الجنوب من تحقيق مطلب الاستقلال عن الفلبين بوطن مستقل يجمعهم بإسلامهم، وظهور حكومات موالية للأمريكيين تعلن العداء لكل ما يتصل بالإسلام، تسبب في بروز منظمات مسلحة كان أشهرها “الجبهة الوطنية لتحرير مورو”، التي أنشأت في عام 1968م، بقيادة نور ميسواري، وسلامات هاشم، لتبدأ مرحلة مقاومة جديدة ضد الحكومة الفلبينية هدفها الحصول على الاستقلال.
همة المسلمين في الفلبين لا تفتر
لقد شهدت مناطق المسلمين في عام 1373هـ – 1953م، نهضة إسلامية قادها الشباب الفلبيني المسلم المتعطش لأمجاد الإسلام، فأنشأت المدارس والمراكز التعليمية الإسلامية والهيئات وشهد المجتمع الإسلامي نهضة اجتماعية برعاية اتحاد مسلمي الفلبين.
وتمكن الأخير في عام 1381هـ – 1961م، من إنشاء مركز إسلامي بمسجد ومكتبة ومدارس ومنازل للطلاب، وبدأت ثمارها مع أول الدفعات لتخرج الطلاب.
لقد حمل الفلبينيون المسلمون حبًا لهذا الدين ولهذه الأمة انعكس بوضوح عند تطوعهم في القتال في مصر عام 1367هـ – 1948م، أثناء العدوان الصهيوني وفي عام 1378هـ – 1956م أثناء العدوان الثلاثي بمشاركة كل من بريطانيا وفرنسا، وهو ما أجج أحقاد الصهاينة تجاه الفلبينيين المسلمين.
الحقد الصهيوني ينال من مسلمي الفلبين
وكما يسجل التاريخ تغلغل الأذرع الصهيونية في مراكز صناعة القرار الأوروبية والأمريكية سجله أيضًا في مركز الحكم في الفلبين حيث كان مستشار رئيس الفلبين يهودي يدعى منسي، وآخر يسمى عمانويل اليسالدي جويز.
وتجلى المكر الذي تمت به مواجهة الصعود الإسلامي خلف قيادة واحدة، بأوضح صوره، أثناء حكم الرئيس الفلبيني الحاقد فرديناند إي ماركوس الذي انتخب رئيسًا عام 1965م واستمر يحكم البلاد بدكتاتورية وقمع مدعومين من الولايات المتحدة، حيث دفع ماركوس لأحد زعماء المسلمين آنذاك ويدعى محمد علي لإنشاء المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الذي سبب تفريقًا لصفوف المسلمين وتشتيتًا لكلمتهم.
وكشف ماركوس عن وجهه القبيح وحقده الدفين فجعل مناطق المسلمين في مرمى أهدافه، وأطلق عمليات الاستيلاء على أراضيهم في الجنوب بدعم الصهاينة الذين كان يعتمد على توجيهاتهم الخبيثة وخططهم في خلخلة الصف الإسلامي.
وأسس ماركوس في عام 1390هـ – 1970م، عصابة أطلق عليها عصابة الفئران، وهي عصابة سرية مزودة بأحدث الأسلحة، ألقيت إليها مهمة إرهاب السكان المسلمين في الفلبين لإجبارهم على مغادرة أراضيهم، ومع أن ماركوس نفى علاقته إعلاميًا بهذه العصابة إلا أنه في الواقع كان المؤسس والراعي لها ولإجرامها كما تأكد للمسلمين ذلك، وعلى نفس النهج أسست عصابة “الأخطبوط” المحترفة في الإجرام، وكان دورها شن الهجمات على المزارع وإرعاب المسلمين وإجبارهم على ترك أراضيهم ومساكنهم.
وإمعانًا في التضييق على المسلمين سن ماركوس قوانين تسمح بزواج غير المسلم بالمسلمة ونشر مظاهر الرذيلة والفسوق في مناطق المسلمين رغمًا عنهم.
وعلى إثر حملات الإرهاب الحكومية الممنهجة والقصوفات التي كانت تنطلق من خلال السفن الراسية في المياه بين الجزر، فر المسلمون من السواحل إلى عمق الغابات والأماكن النائية.
وتزامن هذا الإرهاب والعدوان بسن قوانين تشرعن سرقة الأراضي التي يعيش عليها المسلمون وتم وضع ملكيتها في يد النصارى الذين أصبحوا يحاربون لاسترجاعها بالقوة وفي أيديهم عقود لا أصل لها من الصحة.
وبهذا الشكل انطلق الزحف النصراني من الشمال إلى الجنوب، وحرقت المزارع وألقيت السموم في الآبار وقتلت الحيوانات وسلطت آلة الاغتيال والخطف والاغتصاب، وكل عدوان مشين قبيح على المسلمين وممتلكاتهم، وكانت بالفعل عملية إبادة بقرت فيها البطون، وخطفت فيها الأنفس، وشردت فيها الأسر بين الأدغال وفي الجبال يزيد في معاناتهم الجوع والبرد والمرض، وهتكت الأعراض ونهبت الأموال وقتل المسلمون بلا رحمة على يد الحكومة الحاقدة وقواتها المجرمة.
لقد وقع المسلمون في الفلبين في شراك حرب مسعورة لمجرد أنهم آمنوا بالله وحده لا شريك له، ولم يسلم منهم حتى من مد يده للحكومة حيث يذكر التاريخ في هذه حادثة احتيال الحكومة على أبناء الفلبين المسلمين، ودعوتها للشباب المسلم للالتحاق بمعسكر تدريب خصص لهم، ليستقبل أبناء المسلمين القاطنين في كوتاباتو لتأهيلهم للانضمام لقوات الحكومة، وانتقل بالفعل الشباب الذي يحسن الظن بالحكومة إلى معسكرها الذي أقيم في منطقة كوريجيدور، وبعد أن اجتمع 169 شابًا مسلمًا شرعت الحكومة في عملية إبادة جماعية لم ينجو منها سوى شاب مسلم واحد، يسمى جيبن أرولا، الذي فر مع أول لحظة شعر فيها بالخطر.
ويعجز القلم عن عد الجرائم التي سطرتها الحكومة الفلبينية الحاقدة بحق المسلمين في الفلبين، ولا عن وصفها، دون أن يتحرك للمجتمع الدولي طرف لكف آلة المذابح والمجازر المسلطة على القرى والبلدات ومعالم الحضارة الإسلامية على رأسها المساجد وسيف العنصرية والتفرقة في المعاملة ومحاربة الشعائر الدينية الإسلامية، ومطرقة سياسة الإفلات من العقاب مع كل مجرم ينال من المسلمين وممتلكاتهم، وسندان تواطؤ قوات الجيش والشرطة في هذه الجرائم والتي تهدف إلى تصفية المسلمين من أراضيهم في الجنوب وإبادتهم إبادة عرقية أو يرجعوا عن دينهم!
نحن لا نستسلم ننتصر أو نموت
وأدى هذا الظلم والعدوان الحكومي لتسلح المسلمين بالبنادق والمدي والعصي، التي كانوا يمتلكونها منذ حرب العصابات أثناء الحرب العالمية الثانية، فاشتاطت الحكومة غضبًا من هذا التسلح ووصفته بالتمرد، وهددت المسلمين بقتلهم جميعًا إن لم يستسلموا.
وكان المسلمون قد اجتمعوا في تجمعات كبيرة وتحصنوا في بلدة بابا لومان، وبرز بينهم قيادات طالبت بفصل المناطق الإسلامية كمينداناو وصولو وبالاوان، فأرسل ماركوس جيشه في عام 1391هـ – 1971م، وأطلق حربًا شعواء بالدبابات والطائرات، وعلى قلة عتادهم قتل المسلمون العشرات من جنوده وأسقطوا طائرة عمودية، ودمروا دبابة واحدة، واستمرت المعارك بشكل رسمي وقوي بين القوات الحكومية والمجاهدين المورو لعدة سنوات، رغم تباين القوى والأعداد، ولا يملك المجاهدون سوى الغنائم لكنهم صمدوا وقاوموا وأنزلوا ضربات متتالية بالحكومة وقتلوا أعدادًا كبيرة منها، فاضطر ماركوس للخضوع وإجراء مفاوضات مع جبهة تحرير مورو، في طرابلس في ليبيا أواخر عام 1396 – 1397هـ (1976 – 1977م)، وخرجت المفاوضات بإقامة حكم ذاتي للمسلمين في جنوب الفلبين، إضافة إلى إطلاق سراح جميع المسجونين السياسيين وعودة جميع اللاجئين وغيره من حقوق.
لكن هذه الاتفاقية لم تر النور ذلك أن ماركوس كان يضمر الشر والخيانة، وإنما أرد كسب الوقت ليجهز حملة أكبر وأنكى بعد أن تمكن من تحصيل المعلومات الاستخباراتية المناسبة وبالفعل لم يمض أكثر من 4 أشهر على التوقيع حتى أعلنت الحكومة عن تخليها عن الاتفاق، وعدم احترام أي من التزاماتها، وبدأت الأعمال العدوانية والوحشية من جديد، ومع ذلك تصدى المسلمون ببسالة لأول هجوم، وكبدوهم خسائر كبيرة، وغنموا أسلحتهم، وأعادت الحكومة الكرة بعد أسبوع فتضاعفت خسائرها.
وهاجمت قوات ماركوس في 17 شوال من عام 1397هـ – 1976م، بـآلاف الجنود من جديد بغطاء جوي، وقصفت قرية “سوباه بوكول” في شبه جزيرة “زامبوانغا”، بوابل من القذائف المحرقة وقذائف البوارج البحرية، فدمرتها تدميرًا كاملًا، وسقط أهلها قتلى، وبعد عشرة أيام، عاودت قوات ماركوس الكرة فأغارت على بلدة تيكتابول، في نفس المقاطعة في 24 شوال، 1397هـ – 1976م، أثناء اجتماع المسلمين للصلاة في المسجد، وقصفت البيوت والمساجد والمنازل والأسواق والمدارس عمدًا.
وزحفت قوات الحكومة على القرى والبلدات وهاجمت بالقنابل الحارقة والمحرمة دوليًا، وقتلت المئات من المسلمين وجرحت الآلاف إلى أن تدخلت قوات جبهة تحرير مورو وهي المقاومة التي نشأت من رحم الاضطهاد والقهر، فنشبت معركة بين الطرفين فأجبرت القوات الحكومية على التراجع وتمكنت قوات جبهة تحرير مورو من الصمود رغم كثافة القصف.
وسارعت قوات جبهة تحرير مورو بقيادة عثمان صالح فطوقت قوات ماركوس وأفنتها، عن آخرها بما فيها الجنرال باتيستا قائد القوات. مما أفزع قلب ماركوس لخسارة قائده المقرب، فأعلن عن مكافأة قدرها مائة ألف دولار لمن يأتي بعثمان صالح حيًا أو ميتًا، وسارت قوة برية كبيرة بأسراب الطائرات بقيادة الكولونيل بنيامين، لكنه قتل في نفس المكان الذي قتل فيه باتيستا، ولم يمض سوى 24 ساعة.
وخلال حكم ماركوس قامت الحكومة الفلبينيَّة بين 1965 إلى 1986م بارتكاب جرائم لا تعد ولا تحصى بحق المسلمين حيث لم تميز فيها بين شيخ وامرأة وطفل، واغتصبت آلاف المسلمات على أيدي الجنود الفلبينيين وشُرد الملايين من المسلمين وأحرقت مئات الآلاف من المنازل وممتلكات المسلمين، وتم تدمير عشرات القرى والمدن الإسلامية تدميرًا مروعًا، وسرقت معظم أراضي المسلمين الخصبة، وتم إعطاؤها للفلاحين الكاثوليك.. وهدمت المآذن وتحطمت جدران المساجد!
لكن المواجهة العسكرية استمرت بين المقاومة الإسلامية والحكومة التي كانت تعاني تصاعد حجم المعارضة ضدها، حيث أدى الغضب الشعبي في شوارع الفلبين إلى انتخابات مبكرة في عام 1986م. وتسببت الاتهامات بالغش والاضطرابات السياسية والتجاوزات في انتهاكات حقوق الإنسان في ثورة الشعب في فبراير 1986م انتهت بإزالة ماركوس من الحكم.
وبعد أن عاين حلفائه الأمريكيون جدية الوضع في البلاد، نصحه الرئيس رونالد ريغان من خلال السيناتور بول لاكسالت آنذاك بأن “يخرج بهدوء” خشية أن تتطور الأمور إلى مواجهة عسكرية بين القوات الموالية لماركوس والمعارضة له، وبالفعل فر ماركوس إلى هاواي. واستلمت الحكومة من بعده كورازون أكينو، أرملة زعيم المعارضة المغتال السيناتور بينينو (نينوي) أكينو الابن الذي واجه ماركوس بقوة.
جبهة تحرير مورو الإسلامية
تشكلت المقاومة الموروية المعروفة باسم جبهة تحرير مورو سنة 1387 هـ/1968م وذلك من فئات الشعب المسلم المضطهد ولكنها مرت بمراحل من الانقسام والاختلاف.
وظهر فيها قائدان أحدهما قائد التيار الوطني نور ميسواري، والثاني قائد التيار الإسلامي، سلامات هاشم. ونجحت الجبهة بتحالف التيارين وفق اتفاق بينهما -منذ تأسيسها- من توفير المقاومة للمسلمين في حرب الإبادة الطويلة التي شنها الجيش الفلبيني الصليبي على مسلمي مورو.
ويجدر الإشارة إلى أن عددًا من أعضاء الجبهة تلقوا تدريسهم في الأزهر بمصر، وتأثروا بأدبيات سيد قطب والمودودي، كما درس عدد منهم في جامعات أخرى في البلاد الإسلامية منها السعودية، بينما شارك عدد آخر منهم في الجهاد الأفغاني، ورجعوا بهذه الخبرات إلى الفلبين.
وعلى الرغم من تفوق سلاح الجيش الحكومي الفلبيني ومساندة الأمريكيين واليهود له إلا أن المسلمين حققوا عدة انتصارات كبرى أجبرت الحكومة النصرانية على الجلوس على مائدة المفاوضات.
لكن الدخول في خط المفاوضات تسبب في اضطراب كبير داخل الجبهة، حيث اتُّهم نور ميسواري بحرف الجبهة عن خطِّها الإسلامي والانحياز للحكومة، خاصة بعد تقريب الأخيرة له، وانفصل على إثر ذلك العلماء وعدد كبير من الأعضاء فأسَّسوا في عام 1977م “جبهة مورو الإسلامية” والتي ضمَّت 90% من رجال الجبهة السابقة، بقيادة سلامات هاشم.
وبحسب سلامات وأنصاره فإن السبب الأول للانشقاق هو تراجع ميسواري عن تبني الدعوة لتطبيق الإسلام، وتخلي الجبهة الوطنية عن مطلب الاستقلال والاكتفاء بالمطالبة بالحكم الذاتي.
وسارت الجبهة الإسلامية على سبيل الجهاد كما أرادت لكنها ما لبثت أن دخلت في المفاوضات مع الحكومة هي الأخرى، وكانت المفاوضات تسير بشكل متقطع ومتعثر بشكل كبير إلى أن وصلت إلى جولة المفاوضات تحت رعاية ماليزية، فرضيت خلالها بتأسيس منطقة حكم ذاتي تحمل اسم “بانجسا مورو” متنازلة بذلك عن مطلبها الأول في تأسيس دولة إسلامية مستقلة.
وتسبب هذا التنازل في انشقاقات جديدة في صفها على غرار الانشقاقات في صف الجبهة الوطنية لتحرير مورو التي أفضت لولادة الجبهة الإسلامية، وأسست الانشقاقات الجديدة جماعات جهادية مسلحة أشهرها جماعة “أبو سياف” التي ظهرت في عام 1991م.
وفي عام 2003 فقدت الجبهة مؤسسها التاريخي سلامات هاشم الذي كان يطلق عليه “أسد ميندناو” و”أسد الجهاد الفلبيني”، والذي يعد الأب الروحي للتيار الإسلامي في المقاومة الموروية، وتولى قيادة الجبهة منذ ذلك الحين الحاج مراد إبراهيم.
وتحولت بذلك الجبهة الإسلامية من التعبوية الجهادية إلى الخطاب الدبلوماسي السياسي، بعد الوصول إلى تسوية مع الحكومة عن طريق المفاوضات تخولها الحكم الذاتي متخلية بذلك عن مطلبها الأساسي بالاستقلال التام عن الفلبين.
من جانبها واصلت جماعة أبو سياف التي تحمل كنية مؤسسها وهو “عبدالرزَّاق جان جيلاني” مسارها العسكري إلى أن قُتل في 18 ديسمبر عام 1998م، فانقسمت الجماعة إلى جماعات تنتهج جميعها نهج القتال والمواجهة العسكرية، وتحمل نفس أدبيات جماعات جهادية عالمية كتنظيم القاعدة ومنها من أعلن البيعة لتنظيم الدولة.
وأصبحت بذلك الجبهة الإسلامية لتحرير مورو تواجه اليوم رفقاء الأمس، الذين لا يزالون يريدون إقامة دولة إسلامية مستقلة وتحاول بحسب زعيمها أن تصل إلى اتفاق معهم إلا أنها تواجه صعوبة في تحقيق ذلك لاختلاف الرؤى والمناهج.
ولا شك أن التدخل الأمريكي لإجهاض أي صعود إسلامي قد وضع هذه المنظمات الجهادية المسلحة في مرمى أهداف الولايات المتحدة. فأرسلت قوَّاتها للتعاون مع الجيش الفلبيني والحكومات المتعاقبة، لمحاربة هذه الجماعات كما فعلت من قبل مع جبهة تحرير مورو، ولا تزال المواجهة مستمرة تفتر تارة وتشتد أخرى مما يوحي بطول أمد الصراع.
وحصل مسلمو مورو اليوم بعد رحلة كفاح طويلة على الحكم الذاتي عقب استفتاء شعبي على قانون “بانجسا مورو”، أجري يومي 21 يناير/ كانون الثاني و6 فبراير/ شباط 2019، في جزيرة مينداناو الجنوبية.
وأدى مراد إبراهيم، رئيس الجبهة، اليمين الدستورية، في 22 فبراير/ شباط 2019، رئيسًا لوزراء الحكومة المؤقتة في “بانجسا مورو”، منطقة الحكم الذاتي في خمس مقاطعات ذات أغلبية مسلمة. فيما خرجت بقية المناطق التي كانت تحت حكم المسلمين من حساب الحكم الذاتي بسبب ارتفاع موجات التنصير ونزوج الغالبية النصرانية لأراضيها فتسببت في تغير ديموغرافي سحب من المسلمين أحقية حكمها.
ومع الحكم الذاتي لإقليم بانجسا مورو تبقى الحكومة المركزية في مانيلا تسيطر على الدفاع والأمن والسياسة الخارجية والسياسة المالية لمناطق المسلمين.
وهو حكم جاء في مقابل إعلان جبهة تحرير مورو الإسلامية عن استعدادها للتخلي عن مطالبتها بدولة إسلامية مستقلة وإيقافها نشاط قوات الجبهة. حيث يجري تسليم أسلحة المقاتلين لتكتمل العملية عام 2022م وتتحول الجبهة إلى كيان سياسي خاضع لقانون الأحزاب.
ولا تزال جبهة تحرير مورو الإسلامية تطمح إلى مرتبة قريبة من الفيدرالية؛ لكن تواجهها عقبات في سبيل تحقيق ذلك.
واقع المسلمين في الفلبين اليوم
واقع المسلمين اليوم رغم رحلة الكفاح الطويلة المريرة لا يزال مؤسفًا، فمناطق المسلمين التي تعتبر أغنى المناطق في الفلبين، يعيش سكانها في فقر وضعف لافت وتشتكي حكومة الحكم الذاتي من قلة الموارد وعدم تحصيل مساعدات من الحكومة الفلبينية التي بيدها الميزانية، مما يظهر أثره على المستوى الحضاري لمناطق المسلمين وبنيتهم التحتية واقتصادهم ونهضتهم التي تعثرت طويلًا بفعل الحروب.
هذا النقص المادي يضاف إليه نقص في المواد الدعوية والعلمية حيث لا تزال حركة الدعوة الإسلامية في البلاد ضعيفة وغير مؤهلة لاستيعاب حاجة الفلبينيين لمعرفة الإسلام في وقت تسلط فيه الحكومة الفلبينية كل ما يدخل في فلك محاولات التنصير المستمرة واستغلال الخلافات المذهبية والسعي بالفتن في الصف الإسلامي ونشر البدع ومظاهر الرذيلة والفسق والفجور لفتنة شباب المسلمين. وهي حيلة الحكومة بالغزو الفكري بعد فشل الغزو العسكري.
ومع ذلك يظهر الفلبينيون المسلمون اعتزازًا بدينهم ولا يزالون يحافظون على شعائره بينما تظهر بين الفلبينيين النصارى قابلية كبيرة لاعتناق الإسلام حيث تسجل الإحصاءات أن الجالية الفلبينية تمثل أكثر من 50% من المقبلين على الإسلام والمعتنقين له في بعض البلاد العربية خاصة دول الخليج. وتواترت شهادات الدعاة على أن الفلبينيين يقبلون على الإسلام بسهولة، نظرًا لصلتهم التاريخية بالإسلام.
ويبقى الإسلام المتجذر في قلوب المسلمين أقوى من أن تقتلعه القوة العسكرية أو القصوفات والحروب، ولكن أخطر ما يمكن أن يتربص به هو دعوات الانحراف والفتنة وتشويه أصول الدين فبها يتم إخماد جذوة الإسلام وطموحات نهضة الحضارة الإسلامية عند الجماهير.
فلابد من حفظ الإسلام في الفلبين بتقوية الحركة الدعوية ودعم المسلمين بدعم تجارتهم وقوتهم الاقتصادية ومعايشة همومهم وأخبارهم وتفعيل قضاياهم على المنصات الإعلامية وربط الجسور بين الناشطين وطلبة العلم والعلماء والإعلاميين والمؤثرين لحفظ الوصال الإسلامي مثمرًا كما حرص على ذلك أسلافنا في القرون السابقة رغم الفارق الهائل في الوسائل المتاحة لهم آنذاك والمتاحة في عصرنا.
ومن يتأمل قصة الإسلام في الفلبين يتراءى له كلمات الخطيب الإدريسي حين قال:
إنّ الإسلام إذا حاربوه اشتدّ، وإذا تركوه امتدّ، والله بالمرصاد لمن يصدّ، وهو غني عمّن يرتدّ، وبأسهُ عن المجرمين لا يُردّ، وإنْ كان العدو قد أعدّ فإنّ الله لا يعجزه أحد، فجدِّد الإيمان جدِّد، ووحِّد الله وحِّد، وسدِّد الصّفوف سدِّد.
وكانت هذه قصة الإسلام في الفلبين، حتى لا يغيب عنا هذا الجزء من أمتنا الإسلامية، فنستفيد من ميراث تجاربهم وطول كفاحهم في صناعة نهضة أمة واحدة.
(المصدر: موقع تبيان)