مقالاتمقالات مختارة

الإسلام الحركي التجربة والنتائج وتوقعات المستقبل!

الإسلام الحركي التجربة والنتائج وتوقعات المستقبل!

بقلم علاء سعد حميده

هذه الدراسة تتناول الظاهرة بعمق يتجاوز مناطق الاختلاف المتنوِّعة مع تنظيماتها متعددة الأسماء، مختلفة الأولويات والمناهج.. لأنها تبحث في  الأفكار الكامنة الدافعة والمحركة أكثر مما تبحث في الممارسات.. فتصويب الممارسة لن يُصلح فكرًا معوَّجًا أو ناتئًا أو معيبًا.. بينما إصلاح الفكرة يضمن لاحقًا تصويب الممارسة والسلوك.. فالفكرة تسبق الإجراء، والنظرية تلد التطبيق فهي أُمّه! والخلاف الجذري لا يكون مع آلية الممارسة ولكن يكون مع الأُمهات وهي الأفكار المحرِّكة.. وليس مع فصيل تنظيمي بعينه وإن بدا صاحب حصة كبيرة من كعكة الظاهرة.. وإنما مع الظاهرة برمتها.

التعريف:

هو الحركة بالإسلام من أجل الوصول إلى تأسيس الدولة وفق النموذج المعرفي للمسلمين السُنة للدولة المسلمة التاريخية على عهد الخلافة الراشدة، وتعريف المسلم الحركي أو المسلم الإسلامي –في النموذج الإدراكي للإسلاميين- هو المسلم العامل عملا منظمًا لإقامة مشروع الدولة الإسلامية تلك .

منطلقات النشأة وحتمية عودة الخلافة

يُعد سقوط السلطان العثماني أو الخلافة العثمانية هو المنطلق الأهم على الإطلاق لنشأة الإسلام الحركي أو الحركة الاسلامية، فهي قد نشأت كرد فعل أولي وعاجل لسقوط الخلافة تحت مبرر تنحية الإسلام – ولو اسمًا- عن منصة الحُكم والتوجيه السياسي، إعمالا لمقولة الخليفة الثالث ذو النورين: “إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”. فكان الهدف الرئيسي للحركة هدف سياسي بامتياز .. هذا المبرر لا يصمد أمام الواقع ولا التاريخ.. فالحقيقة التاريخية تؤكد أن سقوط السلطان العثماني سبقه بأربعين عامًا احتلال بريطانيا لمصر قلب العروبة والإسلام، وقبل هذا التاريخ كانت فرنسا تحتل الجزائر والمغرب العربي، وقبل هذا السقوط كانت فلسطين تحت الانتداب البريطاني، والشام والعراق مقسّم بين بريطانيا وفرنسا،

لم تمنع سلطة السلطان العثماني إذن سقوط الأقاليم المسلمة.. كما لم تمنع الخلافة العباسية قبل قرون سقوط بغداد في أيدي المغول ولا سقوط القدس في أيدي الصليبيين.. بل وفي أول القرن الرابع الهجري وفي ظل حُكم الدولة العباسية سقطت مكة المكرمة، وسُرق الحجر الأسود، ونُقل إلى البحرين، وعُطِّلت فريضة الحج الركن الخامس في الإسلام لاثنتين وعشرين سنة، وقُتل المحرِمون من حُجّاج بيت الله الحرام وهم حُرم بالآلاف في البيت الحرام، وفي الزمن الحرام، على يد القرامطة !!

فلم يكن الناهض بالإسلام في إثر كل كبوة سياسية هي قوة الخلافة وسلطانها وإنما قوة الأمة – مؤسسات المجتمع المدني- إن المقاومة التي بذلها طُلاب الأزهر وأولاد البلد وعوام الناس للحملة الفرنسية فاقت في نتائجها بمراحل مواجهة المماليك للحملة التي لم تلبث ساعة من نهار.. كما فاقت في عنفوانها مواجهة الجيش العثماني الذي لم يصمد في المواجهة كما صمدت ثورة الأزهر الثانية التي منعت جيش فرنسا من استعادة السيطرة على القاهرة لمدة أسبوعين كاملين .

إن الذين يعزون كبوة المسلمين إلى الإعلان الرسمي لسقوط الخلافة فقط، إنما يتجاهلون قرونًا طويلة من الاستبداد السياسي، وتعطيل فريضة الشورى، ونحو ستمائة عام من حكم العسكر المماليك لقلب الأمة في مصر والشام تحت زعم خليفة عباسي لم يعدُ أن يكون بهلولا أو شبه بهلول، يقيمه العسكر إن أرادوا ويخلعوه إن شاءوا .. بل يتجاهلون الخصومة القديمة شبه المستديمة بين سلطة الخلافة والعلماء وقادة الإصلاح في الأُمة على مدى التاريخ، كإعدام سعيد بن الجُبير – زمن الأمويين -وسجن الإمام أبي حنيفة  وسحل الإمام مالك وجلد الإمام أحمد بن حنبل  –زمن العباسيين- وموت الشيخ ابن تيمية في سجنه، ونفي سلطان العلماء العز بن عبد السلام من الشام إلى مصر! هكذا كان حال السلطة في كثير من فترات التاريخ!

الحركة الإسلامية إذن قامت على مغالطة تاريخية واضحة لا تصمد أمام أي بحث موضوعي مُنصف، وعلى كثير من المشاعر العاطفية التي تحن لأمجاد الماضي وتتألم للواقع الحزين، كما عبر عنها الشاعر  في قوله:

تُرى هل يرجع الماضي فإني  :::    أذوب لذلك الماضي حنينا

هذه المغالطة التاريخية أدّت إلى خطأ في تحديد الهدف إذ جعلت الهدف الكبير هو وصول الحركة الإسلامية إلى السلطة، بدلا من أن يكون الهدف الأسمى هو تمكين الأمة في مقابل السلطة.. وخطيئة في التأسيس إذ أسست تبعًا لهذا الهدف تنظيمات شمولية كمحاكاة للدول القائمة، كأنها حكومات ظل يؤول إليها الأمر في حال الوصول للسلطة..

مما يعني تحوّل التنظيمات إلى دول داخل الدول، أو كيانات موازية للدول، الأمر الذي يتنافى مع قواعد علم السياسة والاجتماع.. ثم فشل مريع في التطبيق، وكارثية في النتائج في كل المحطات التي لامست فيها الحركة الإسلامية السُنية السلطة، أو اقتربت منها، أو شاركت فيها على

اختلاف مسميات تنظيماتها، كما في أفغانستان والسودان والجزائر -قبيل العشرية السوداء- واليمن ومصر، وما زالت تجربة تونس رغم تطورها لم تحقق نجاحًا بارزًا بعد.

التجربة:

بعيدًا عن الدوافع الكامنة وراء نشأة الحركة الإسلامية وسواء كان الهدف منها إحياء نظام الخلافة أو تحكيم الشريعة أو بسط سلطة الإسلام السياسية.. فإن التاريخ يقول أن الحركة نشأت في ظل احتلال أجنبي لكثير من بلاد العالم الإسلامي، وحملات تغريبية، ومحاولة ثُلة من المثقفين المسلمين الدعاية لنظريات تغريب الحياة، وكذلك ضعف وجمود المؤسسات الدينية عن مواكبة الأحداث، مما جعل المجتمعات المسلمة تتفشى فيها ظواهر مخالفة لقيم الإسلام.. فبعثت الحركة الاسلامية في قطاع عريض من الشباب روح الحماسة للإسلام وهديه ومظاهره، فحدث تطور إيجابي على مستوى الظواهر الاجتماعية.. وشاركت الحركة الإسلامية حركات التحرر الوطني العمل على إخراج المحتل.. ووضِعت قضايا الإسلام والقيم والأخلاق الإسلامية داخل دائرة الضوء وبؤرة الأحداث.. كما ساهمت في جوانب تربوية وإصلاحية ومشاريع خيرية ونفعية للمجتمع.

عاب هذه الجهود الرائعة والنتائج المبشرة، الجنوح الدائم المغروس في أصل الفكرة إلى الوصول للسلطة، مما أدخل الحركة الإسلامية في صراعات شبه مستدامة مع حكومات وأنظمة كل دول المنطقة تقريبًا، كما أنتج هذا الصراع السياسي والقمع الحكومي نوعًا من رد الفعل العكسي لدى بعض تنظيمات الحركة فجنحوا إلى العنف.. مما أنتج لاحقًا قسمين كبيرين للحركة الإسلامية أو الإسلام الحركي، قسم عام يمارس العمل السياسي وينافس على السلطة دون اللجوء إلى العنف، وإن كان يرفض الانضواء الكامل تحت قواعد العمل السياسي المنظم، وقسم عام حركي عنيف يرى في العنف وسيلة للخلاص ويعتبره جهادًا مشروعًا في سبيل الله!!

بيد أنّ كل نجاح لافت قدَّمته تجربة الحركة الإسلامية أو الإسلام الحركي، كان على مستوى الثقافة الدينية – مع التحفظ على المضمون الحضاري لهذه الثقافة واقتصارها في الغالب على ثقافة العبادات والهدي الظاهر-وكذلك على مستوى العمل الخيري والظواهر الاجتماعية.. قابل هذا النجاح اللافت فشل متكرر للعمل السياسي على طول الخط.. فنجحت تجربة الحركة الإسلامية نسبيًا في مجال الإصلاح الاجتماعي الذي تجاهلته أساسا في مبررات النشأة والأهداف العامة المعلنة- إذ يُعتبر إصلاح الفرد فالأسرة فالمجتمع لدى الإسلام الحركي وسيلة للوصول للحكومة الإسلامية وليست غايات في حد ذاتها-وفشلت في المجال السياسي للوصول للسلطة التي قدّمته كمبرر نشأة وهدف الوجود!! ليس هذا فحسب، بل أن كل فشل سياسي شهدته تجارب الإسلام الحركي عاد وخصم من رصيد النجاح الاجتماعي النسبي الذي تحقق، لعدة اعتبارات منها القمع الشديد الذي تمارسه السلطة بعد المواجهات الصعبة مع الحركات الإسلامية والتي تطال الجذور الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية، وكذلك لتنكر بعض أبناء الحركة ذواتهم للمبادئ التي آمنوا بها بسبب الانتكاسات التي طالت حراكهم السياسي، ولانتعاش الأصوات المناهضة للإصلاح الاجتماعي وفقا للجذور المسلمة للأمة في غمرة حرب السلطة على جماعات الحركة الإسلامية، فيظنون أن معهم ضوءًا أخضر لضرب ثوابت الإسلام ذاته، في هذه الأجواء تفقد الإصلاحات الاجتماعية النسبية رصيدها، لتبدأ دورتها من جديد في ظروف سياسية أخرى أكثر ملائمة.. وهكذا دواليك في الفراغ المطلق!!

ومن الإنصاف أيضًا القول بأن النجاح النسبي لتجربة اللإسلام الحركي في الجانب الاجتماعي توقف إلى حد بعيد عند الجانب التعبدي وقضايا الهدي الظاهر، لكنه لم يتحول إلى ممارسة سلوكية حياتية في قلب المجتمع.. انتشر الحجاب ثم تقلَّص إلى غطاء رأس ساد الأغلبية الغالبة من نساء المجتمعات العربية والمسلمة، فهل نقص الغش التجاري مثلا بنفس نسبة انتشار غطاء الرأس؟. وهل زادت نسب إتقان العمل؟ وهل قلت نسب الرشوة والمحسوبية والوساطة بين موظفي الدولة؟، وهل انصلح حال التعليم ومؤسساته إذ ساد بين منتسبي هيئاته ومنتسباته ذوي التدين الاجتماعي الظاهري؟ وهل أصبحت مؤسسات المجتمع أكثر شفافية وأقل فهلوة؟ ففي الزمن الذي انتشرت فيه مظاهر الصحوة الإسلامية استشرى كذلك الفساد بكل أنواعه في كل أركان الدول والمجتمعات، حيث أثرت الحركة في الشكل لكنها لم تحقق نجاحًا يًذكر على مستوى المضمون!

فعلى التوازي من انتشار مظاهر الإسلام الحركي انتشرت ظواهر عديدة موغلة في السلبية والانحطاط مثل الإدمان والتحرش والتنمر وثقافة المهرجانات! لم يكن الإسلام الحركي بالقطع مسؤولا عن ظهورها، لكنه لم ينجح في المقابل في احتواء تفشيها..  إن توقف انتشار مظاهر الإسلام الحركي عند حدود الشعائر والهدي الظاهر دون البعد الحضاري للاسلام، يؤشر إلى مؤشرين: الأول سطحية خطاب الإسلام الحركي ذاته والاكتفاء بداوائر العقيدة والعبادات والهدي الظاهر دون المساس بدائرة الأخلاق والسلوك والإنتاج الحضاري التراكمي، والثاني الاكتفاء بالعمل في المجالات التي تدفعه السلطات الحاكمة للعمل فيها دفعًا، ولو عن طريق الإيحاء بالممانعة، مما يجعل التيار الحركي يخرج منتشيًا بالانتصار الوهمي في قضية شكلية –مهمة ربما لكنها لا تمس عصب بناء مجتمع قوي وفاعل بمؤسسات أهلية صامدة وقادرة على إدارة الأزمات الحياتية-

الجذور التاريخية في المذهب السني:

إن الباحث المدقق في تاريخ المسلمين لن يجد مثيلا مشابهًا للإسلام الحركي الذي نشأ لأول مرة في التاريخ فكرة ودعوة وتنظيمات مجنَّدة على الأرض في الربع الأول من القرن العشرين الميلادي، النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، وأسباب عدم وجود نسخ أو تجارب سابقة من الإسلام الحركي واضحة، وتتلخص في أن السلطة الاسمية للإسلام لم تنفصل عن سلطة الحكم قبل ذلك التاريخ.. فاقتصر كل الحراك في المجتمعات المسلمة عبر التاريخ على نوعين من الحركات، حركة إصلاحية عملت دائمًا على تصحيح مسار الأمة وتجديد ما ضعف في نفوس الناس من أمور الدين، وإحياء العلم الشرعي، والسنن والأخلاق الإسلامية.. وحراك سياسي محض للمنافسة على سلطة الحكم، عادة كان يأخذ البعد القبلي أو القومي، فبنو العباس يثورون علي بني أمية لانتزاع الحكم، أو يحاول الترك أو الصفويين إقامة دول ممثلة لهم، أو بُعد مذهبي كما حاول الشيعة إقامة دول لهم كالقرامطة والفاطميين وهكذا..، ولم يعرف تاريخ المسلمين صراعًا أيدولوجيًا على الحكم قبل القرن الفائت!

نشأ الإسلام الحركي كتجربة جديدة ليس لها سابقة في تاريخ المسلمين السُنَّة.. لكن الإسلام الحركي تأثر بدعوات المصلحين الذين سبقوا نشأته مباشرة أو سبقوه بدعواتهم الإصلاحية ثم عاصروا نشأته مثل جمال الدين الافغاني والإمام محمد عبده ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب وغيرهم، لقد أثرى هؤلاء الأربعة الحركة الثقافية والعلمية والإصلاحية في السياسة والاجتماع، وكانت لهم جهودهم المشهودة عبر الخطابة والصحافة، ومنهم من اهتم بالإصلاح السياسي، ومنهم من اهتم بالتربية والتجديد الديني، ومنهم من جعل هدفه نشر العلم الديني والتراث.. واتفقوا جميعا على ضرورة التغيير والتجديد والإصلاح على أساس مبادئ وقيم الإسلام.. ربما جنح رشيد رضا ومحب الدين الخطيب إلى تكوين الجمعيات السرية كنموذج متقدم لما ستقوم عليه تنظيمات الإسلام الحركي لاحقا .. لكن العجيب في الأمر أن أئمة الإصلاح الأربعة لم يكونوا من أنصار  الامبراطورية العثمانية، لقد نُفي الإمام محمد عبده في عهدها، كما حددت إقامة جمال الدين الأفغاني في الأستانة حتى توفي بها، أما رشيد رضا فكان عضوا في مجلس شورى الثورة العربية ضد السلطنة العثمانية ، وأما محب الدين الخطيب فكان رئيسا لتحرير مجلة القبلة الناطقة بلسان الثورة العربية ضد العثمانيين .. ومما لا شك فيه أن هؤلاء جميعا كانوا مع الوحدة العربية، والأخيرين منهم كانا يميلان إلى نشأة خلافة عربية تقود العالم المسلم، لكن هذا يتناقض تماما مع قيام تلامذتهم بتأسيس الحركة الإسلامية وتنظيماتها كأول رد فعل عملي على سقوط السلطنة التي عمل أساتذتهم على تقويضها!!

غير أن المهم ذا الدلالة هنا أن النسخة السابقة لنشأة الإسلام الحركي مباشرة كانت نسخة إصلاحية، ولم تكن حركية إسلامية، وما يعنينا هو البحث في الفروق الجوهرية بين الحركة الإصلاحية والحركة الإسلامية:

وجه المقارنة  الحركة الإصلاحية الإسلام الحركي

أولا: من حيث التأصيل الشرعي الإصلاح مطلب من مطالب القرٱن والسنة (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) سورة هود 88.. مصطلح معاصر لا أصل سابق له.

ثانيا: من حيث تاريخ المسلمين حركة الإصلاح والتجديد استمرت خلال ثلاثة عشر قرنا من التاريخ الحركة الإسلامية عمرها قرن من الزمان بغير سابقة تاريخية.

ثالثا: من حيث الهدف الكبير  تمكين الأمة التمكين في السلطة أو استعادة الخلافة أو إقامة الدولة.

رابعا: أسلوب العمل علني منفتح على المجتمع لصنع تيار عام تعتمد العمل السياسي والتنظيمات العلنية والسرية.

خامسا: من حيث ممارسة السياسة تبدي رأيها في قضايا الشأن العام تنافس على السلطة.

ساسا: البيئة الافتراضية للعمل تعمل في إطار مجتمع مسلم لتجديد وإصلاح ما اعتراه الخلل من مبادئه وقيمه وأخلاقه وممارساته تفترض مجتمعا مسلما يعيش في المرحلة المكية بلا سلطة ولا دولة والإسلام نفسه يمارس على المستوى العقائدي والتعبدي ويغيب عن منصة الحكم والتشريع.

سابعا: من حيث العلاقات بين الأفراد داخلها تيار عام متآخٍ على فكرة واحدة وهدف واحد علاقات تنظيمية تقوم على مبادئ القيادة والجندية والسمع والطاعة.

ثامنا: من حيث النظر للذات والآخر  تنظر لروادها باعتبارهم دعاة محتسبين وللآخر كونه اجتهاد إصلاحي متمم ومكمل للجهود الإصلاحية تنظر لنفسها نظرة الصف المتميز المسلم العامل للإسلام بينما الآخر إما مسلم غير عامل للإسلام أو مسلم ينتمي لفصيل  يعمل لجزء من الإسلام ويترك العمل  لجزء ٱخر، فالسلفيون ينتقدون على الإخوان عدم عنايتهم بالهدي الظاهر، والإخوان يعيبون على السلفيين عدم عملهم لشمولية الدين، والجهاد يأخذون على الفصيلين تركهم للجهاد المسلح وهكذا.. كما ينظرون لآخر مخالف باعتباره معادي للفكرة الإسلامية أو المشروع الإسلامي.

تاسعا: من حيث التخصص يوجد إصلاح أخلاقي مجتمعي تربوي، وهناك إصلاح سياسي، وإصلاح اقتصادي، وإصلاح علمي، وعلى كل تخصص إيجاد آلياته تطرح شمولية الدعوة وشمولية التنظيم وشمولية العمل.

شبهة: ‏

لقد آن لأبناء الحركة الإسلامية المتعصبين لفكرة الخلافة، المؤمنين بأن الإسلام لا تقوم له قائمة إلا بشرط إقامة الخلافة؛ آن لهم أن يقولوا: نحن نروم الخلافة الصالحة العادلة وليست الخلافة الضعيفة المستبدة.. والرد عليهم أن هذا لم يتحقق في تاريخ المسلمين إلا أقل الأزمان، ومع ذلك ظل الإسلام بأمته باقيا وظافرا وظاهرا ومستفيقا من كبواته، لأن الأمة في الإسلام أهم من السلطة، والمجتمع أقوى وأبقى من الدولة!

وحق لهم أن يتساءلوا منكرين: هل تبشرون بإسلام بلا سلطة؟ إسلام منزوع السياسة؟! فمن يطبِّق احكام الله في الارض؟ والحقيقة أنها دعوة للإسلام الذي دعا له الأئمة الكبار أبو حنيفة ومالك والشافعي واحمد والليث بن سعد، وغيرهم من أعلام الأمة، وأئمة الإصلاح الذين لم ينافسوا على سلطة، ولم يطلبوها، وأوقفوا حياتهم لإحياء الأمة.. وسيقولون: إنهم لم يطلبوا السلطة لأن سلطة الإسلام كانت متحققة في الخلافة.. ونتسائل: ألم تكن خلافة جائرة؟ ولمَ يُعتبر عمر بن عبد العزيز فلتة من بين خلفاء بني أمية بصلاحه إذا كانوا كلهم عادلين صالحين؟! وهل تبنَّى فتنة خلق القرآن إلا خلفاء بني العباس؟!

لم تكن سلطة الإسلام حقيقية وكاملة في عصور الأئمة بيد أنهم ميزوا بذكاء وحكمة بين طلب السلطة وبين ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتناول الشأن العام، فأفتوا بحرمة ما وجدوه حراما واُبتلوا لذلك من الحكام المستبدين، فلم يتحول اهتمامهم الطبيعي بالشأن العام إلى منافسة أو نزاع على السلطة، ولم يتحول ظلمهم على أيدي الحكام إلى عداوة مستديمة!

ثمة إشكالية حقيقية نشأت مع شكل الدولة القُطرية الحديثة ونظامها السياسي المستمد من قواعد سياسية عالمية، لم يشارك علماء الشرع الاسلامي في صياغتها، مع انتشار ثنائية التعليم، وانقسامها إلى تعليم شرعي تخصصي مثل التعليم الأزهري في مصر، والتعليم العام الذي تنزوي فيه المناهج الشرعية كما وكيفا، مع عدم تأثيرها في مجموع درجات الطالب، وغيابها تماما عن التعليم الجامعي.. ناهيك عن المد الثقافي الغربي والشرقي.. مما أنتج نخبا ثقافية مسلمة العقيدة، لكنها ضعيفة في الثقافة الشرعية.. وعادة ما تفرز هذه النخب أنظمة الحكم في الدول المسلمة المعاصرة.. مما يبرر مطالبة الحركة الإسلامية بممارسة السياسة التنافسية على السلطة، لسد فراغ الثقافة الشرعية لدى غالبية السياسيين المسلمين، الأمر الذي يبدو مقبولا مع طرح السؤال الأهم: على أي قواعد تريد الحركة الإسلامية ممارسة السياسة؟ هل على القواعد السياسية العالمية المعمول بها في العالم كله؟ أي على أساس أحزاب سياسية تنافسية تقبل بقواعد التداول السلمي للسلطة، وتؤمن بتعددية الاجتهادات الوطنية والسياسية، وتقبل بالأرضية الوطنية المشتركة، ولا تكفر الآخر أو تشيطنه سياسيا وعقائديا، ولا ترى نفسها مالكة الحقيقة الحصرية، ولا صاحبة أي امتياز إضافي في الوطن؟.. وهل تقبل بقواعد المواطنة والانتماء للدولة القُطرية؟ إذا كانت الإجابة بنعم.. فعلى الفصائل السياسية داخل الحركة الإسلامية أن تنعزل انعزالا تاما عن التنظيمات الحركية الشمولية والدعوية، وتتفرغ لممارسة العمل السياسي بقواعده المعمول بها، عبر أحزاب مدنية وطنية واضحة المعالم والتفاصيل والبرامج والممارسات بلا أي امتدادات أُممية، ووفق الضوابط الحزبية التي تنطبق على الجميع.. وتطرح شعارتها التنافسية وفق برامج سياسية لا دينية، فهي ليست الأفضل لأنها إسلامية، ولا لأن مؤسسيها أكثر تدينا أو أكثر ممارسة للشعائر التعبدية.. فالبرامج والشعارات يجب أن تكون واقعية تمس مشكلات الناس الحياتية.. ولا يتم تحميلها بأي حمولة دينية.. السياسة علم ومهنة وإدارة، وكما أنك في شركتك التجارية لا ترفع شعارا يقول: نحن الأفضل لأننا الأكثر التزاما بالإسلام، ولكنك ترفع شعارا يقول: الأفضل لأننا نتقن العمل، ونملك المصداقية، ونتعامل بشفافية، ونقدم ضمانا حقيقيا على المنتج، وأسعارنا تنافسية.. هذه هي لغة التجارة والمنافسة التجارية والعمل الاقتصادي.. رغم أن كل شعار تجاري من هذه الشعارات مبعثه القيمي هو تقوى الله، فالإتقان والإحسان والصدق وعدم الغش والخداع في البيع كلها قيم إسلامية أصيلة، بل هي قيم سماوية أصيلة.. لكن التاجر يحولها إلى واقع عملي يراه الناس ويلمسونه دون أي حمولة دينية، وإلا تحول السوق التجاري إلى متاجرة بالدين كالمنفق سلعته بالحلف الكاذب.. أنت لا تجد طبيبا شهيرا ملتزم دينيا أو غير ملتزم يكتب على لافتة التعريف به: الطبيب المؤمن الملتزم المصلي الأمين حافظ كتاب الله، ولكنك تجده يضع الشهادات الجامعية المعترف بها محليا وإقليميا ودوليا، وأنت لن تذهب للعلاج عند طبيب شيخ، وإنما تذهب لطبيب عالم حاذق، وكذلك المهندس، وهكذا الصانع، وهكذا العالم المهني كله، فعلى الساسة أن يلتزموا بذات المعايير المهنية السياسية.. ولا يظن ظان أننا بذلك نجرد الممارسة السياسية الشرعية من خصوصيتها.. فالتجربة الواقعية أفرزت مثلا في انتخابات مجلس النواب بمصر 2011 تنافس أحزاب سياسية تنتمي للحركة الإسلامية كحزب النور وحزب الحرية والعدالة، فأي الحزبين كان أكثر تمثيلا للمنهج الشرعي الذي يرفعه؟ وهل تجوز المزايدة بينهما على الإسلام ذاته ؟ وذات الأمر حدث في الجزائر حيث تتنافس عدة أحزاب ذات مرجعية دينية تنافسا سياسيا ، أو ليس من المنطقي أن تكون شعارات الأحزاب السياسية معبرة عن برامجها الواقعية؟

استشراف مستقبل الإسلام الحركي.

لقد ولدت فكرة الإسلام الحركي لتبقى،  وكما يقولون هي فكرة والأفكار عادة لا تموت.. لقد أنتجت الحضارة الإسلامية على مدار تاريخها العديد من الأفكار.. بعضها ينزوي ويضمحل تأثيره لكنه لا يفنى فناءا تاما كالصوفية مثلا.. سيبقى الإسلام الحركي لكنه سيتمحور دائما في المساحة التي يراد له أن يظل حبيسها.. سيظل إذن ورقة في معادلات السياسة والاجتماع المحلية والإقليمية والدولية.. لأنه قام أساسا على فكرة مشروع سياسي.. والسياسة فن توظيف المتناقضات.. والساحة السياسية لتحقيق شيء من توازنها تريد له أن يبقى، وأن يمارس دورا موضوعيا محدودا.. في الجزائر قبيل العشرية السوداء حدث انقلاب على التجربة الديمقراطية الوليدة التي كادت أن تدفع بالجبهة الإسلامية إلى حكم البلاد.. حورب الإسلاميون الرابحون شعبيا، لكن حركة حمس – إخوان الجزائر بقيادة الشيخ محفوظ نحناح-  اُستدرجت أو وُظفت لتملأ حيزا ما في الفراغ السياسي.. نفس الدور الذي لعبه حزب النور السلفي في مصر في أعقاب بيان وزير الدفاع ٣ يوليو ٢٠١٣.. وستقوم به فصائل مختلفة من تيار الإسلام الحركي لاحقا.. بل وسيقبل به تنظيم الإخوان نفسه في مصر بعد سنوات من الآن!!

هذا هو الدور الذي سيظل يلعبه الإسلام الحركي، والحيز السياسي والاجتماعي الذي سيظل يشغله، فهو حركية تحت الطلب والاستدعاء، وفق المواءمات السياسية العالمية والإقليمية والمحلية، وأوراق ضغط متبادلة، وهو في نفس الوقت الوعاء الذي تصب فيه العاطفة الدينية الجياشة للشعوب ليتم توظيفها دائما في الممكن والمسموح، دون أن تتحول إلى تيار جارف يفرض قيم حضارية إسلامية إصلاحية طال انتظارها.. في مقابل هذا الدور المحدود الذي سيظل يمارسه الإسلام الحركي، تظل المجتمعات المسلمة في انتظار حركة إصلاحية تستعيد مسار الحركات الإصلاحية على امتداد تاريخ المسلمين، وتعيد مسيرة الإصلاح الإجتماعي إلى طبيعتها بعدما انحرف بها مشروع الإسلام السياسي عن غاياتها ووسائلها وأدخلها في معارك أعاقت حركة الإصلاح وفشلت في اقتناص السلطة، حركة إصلاحية هدفها تمكين الأمة وتقوية مؤسساتها المدنية، على أنقاض قرن من العمل المتذبذب بين السرية والعلنية، والمتذبذب بين العمل الاجتماعي والممارسة السياسية.. لكن بقايا مشروع الإسلام الحركي سيظلون يمانعون في استعادة حركة الإصلاح لمسارها التاريخي الطبيعي، فهم يدركون أن كل التحاق بمسار الحركة الإصلاحية هو خصم إضافي من رصيدهم المتآكل بفعل رهاناتهم الخاطئة التي بلغت أوجها أثناء موجات الربيع العربي.. وستظل القوى المختلفة التي تؤمن بتدافع الحضارات وتخشى من نشوء حركة إصلاحية اجتماعية رصينة ذات امتداد حضاري وثقافة إسلامية تنهض بالأمة من داخلها، ستظل هذه القوى تدعم بقاء ووجود تيار الإسلام الحركي لكن في نطاقات ضيقة وتحت التحكم والسيطرة، وتوظيفه لخدمة أغراضها المختلفة والمتباينة.. هذا التوظيف هو النفس الباقي لحياة الإسلام الحركي، فضلا عن النفس الذاتي المستمد من عوامل نفسية تقوم على اجترار الذكريات والأحلام الطوباوية نحو عالم مستحيل صناعته في الواقع.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى