الإسلاميون والغرب.. من أجل حوار سياسي جدي ومثمر
بقلم أ. د. أحمد الريسوني
فهم شائع
يحلو لكثير من السياسيين والعسكريين والإعلاميين والكُتَّابِ تصويرُ علاقة الإسلاميين مع الغرب بأنها علاقة مستحيلة، وبناء عليه يوحون إلى الشعوب الإسلامية والشعوب الغربية معا، بأن وصول الإسلاميين إلى الحكم سيعني حروبا وصراعات لا مفر منها ولا نهاية لها. وقد يوجد في صفوف الإسلاميين أنفسهم من يعتقدون هذا.
الآن هناك موجة ثورية شعبية ديمقراطية تجتاح العالم العربي، وقد حملت بعضا من الأحزاب والحركات الإسلامية إلى الحكم، ووضعت بعضا آخر منهم على عتبته وسـلَّمه. فهل ستشتعل تلك الحروب والصراعات التي يخوفنا بها الكثيرون؟ وهل ستحصل قطيعة بين الحكومات الإسلامية والغرب؟ أم سنشهد حربا باردة جديدة بين الغرب والعالم العربي؟
لنعد إلى أصل المسألة: ما حقيقة العلاقة بين الإسلام والعالم الإسلامي من جهة، والعالم الغربي من جهة ثانية؟ وما هي الخيارات الحالية والمستقبلية الممكنة لهذه العلاقة؟
مما لا شك فيه أن الغرب يعتبر الإسلام والمسلمين من التحديات الكبرى أمامه.
وكذلك يَعتبر الإسلاميون وعامة المسلمين أن الدول الغربية تشكل مصدر عداء وعدوان ضد الإسلام والمسلمين.
هذا الواقع وهذا الإشكال ليس بجديد، ولا هو من بنات الربيع العربي لسنة2011، بل هو حالة تاريخية، مثلما هو حالة معاصرة وراهنة ممتدة. ولكن الربيع العربي الذي حمل بعض الإسلاميين إلى مواقع الحكم، أعاد فتح هذا الموضوع وزاده من حساسيته…
وإذا كانت التركة التاريخية بين المسلمين والأوروبيين هي عنصر من العناصر المؤثرة في الحالة المعاصرة، فإني لا أراها ذات شأن كبير في مجرى الأحداث اليوم. كما أن مقامنا هذا لا يتسع لها، ولكني أشرت إليها فقط لكي تكتمل الصورة. وسأركز على ملامح الصورة المعاصرة للعلاقة بين المسلمين والغرب، لنستشرف من خلالها ما هو منشود وما هو ممكن. فالتحديات يمكن أن تتحول إلى فرص وإيجابيات.
ما أجج المخاوف الغربية تجاه المد الإسلامي السياسي في العقود الأخيرة خاصة: التقدمُ اللافت لما يسمى في الاصطلاح الغربي بــ”حركات الإسلام السياسي”، وذلك منذ مطلع الثمانينيات من القرن العشرين (مطلع القرن 14 الهجري)
معلوم أن مشكلة الغرب مع المسلمين في العصر الحديث، ليست مع دولهم وحكوماتهم، فهو معها ـ أو هي معه ـ في وئام وعلاقات راضية مرضية، وبعض تلك الحكومات يمكن اعتبارها حكومات للغرب أكثر مما هي حكومات لشعوبها.
مشكلة الغرب وتخوفاته إذن إنما هي مع الحركات الإسلامية، الدعوية والسياسية، ومشكلته تكون أحيانا مع الإسلام نفسه. فهو لا يريد ولا يقبل أن يرى الإسلام ينتشر ويتوسع عبر القارات، ولا يقبل أن يراه يتغلغل حتى في مجتمعاته وفي عقر داره، ولو كان في حدود الصلاة واللحية، والحجاب والنقاب، وبعض المساجد والمآذن.
إلا أن عُقدة العُقد عند الغرب هي أنه لا يقبل ولا يتحمل أن يرى الإسلام يحكم ويعطي التشريعات، ويلهم المواقف والسياسات، داخليا وخارجيا. فهذه في نظر الغرب “جريمة” تحاول بعض الحركات الإسلامية تنفيذها مع سبق الإصرار والترصد! فلذلك عمل الغرب طويلا على إبعادها والحيلولة دون وقوعها. ولهذا الغرض تستميت الدول الغربية منذ قرن من الزمن في نشر الفكرة العلمانية والثقافة اللبرالية في العالم الإسلامي، واستنباتها وفرضها وحمايتها بجميع الوسائل، بما فيها تحريك الانقلابات، ودعم الحكام الطغاة، ودعم الأحزاب والحركات والشخصيات العلمانية المناهضة لإسلامية الدولة، وغير ذلك من الوسائل والأساليب المعروفة.
ومما أجج المخاوف الغربية تجاه المد الإسلامي السياسي في العقود الأخيرة خاصة: التقدمُ اللافت لما يسمى في الاصطلاح الغربي بــ”حركات الإسلام السياسي”، وذلك منذ مطلع الثمانينيات من القرن العشرين (مطلع القرن 14 الهجري). فمنها التي وصلت إلى الحكم، كما وقع في إيران ثم السودان وأفغانستان، ومنها التي كادت أن تصل أو وصلت جزئيا، كحال الجزائر وتركيا أيام نجم الدين أربكان، أو التي شكلت قوة سياسية زاحفة، يخشى أن تصل إلى الحكم، كحال باكستان ومصر وتونس…
وضمن سياق هذا التصعيد ضد الإسلام والمسلمين والحركات الإسلامية، جاءت قضية “الإرهاب” أو جيئ بها. وكلنا نعرف القصة وعِشنا فصولها وتفاصيلها، وخاصة في نهاية القرن العشرين الميلادي، وخلال العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين. وقد تمت استفادة الغرب وخصوم المد الإسلامي إلى أقصى الحدود من نظرية الحرب على الإرهاب، فوظفت لخنق كل الحركات الإسلامية وتقليص نشاطها ونفوذها، سواء في الغرب أو في العالم الإسلامي نفسه. ولم تنج أي حركة إسلامية، ولا أي نشاط إسلامي أو مؤسسة إسلامية، من التأثر والتضرر مما سمي الحرب على الإرهاب.
فهذا من الجانب الغربي، وهو الطرف الفاعل والأقوى في هذا العصر.
أما مشكلة المسلمين والإسلاميين تجاه الغرب اليوم، فهي مشلكة سياسية أولا وأساسا. فرغم أن الإرث التاريخي يتأرجح أثره بين الظهور والكمون، إلا أن الأسباب الحقيقية والقوية للموقف الإسلامي من الغرب تظل سياسية وحديثة العهد. فالرفض الإسلامي للغرب ليس ناجما عن دينه أو صليبيته أو علمانيته في نفسه، وإنما هو ناجم عن جرائمه وسياساته الاستعمارية العدوانية الحديثة، واستمراره في نهج سياسة التسلط والتحكم. والسجل الغربي في هذا المجال حافل ومعروف، فلا حاجة بي لذكره أو التذكير به، أو سرد أمثلة منه…
ولو كان التحفظ والتوتر الإسلامي تجاه الغرب راجعا اليوم لأسباب ودوافع دينية، لوجدنا مثل ذلك وأشد منه موجها إلى الصين واليابان والهند وكوريا… باعتبار أن الخلاف الديني معها أشد وأعمق مما هو مع الغرب المسيحي والغرب العلماني.
الثورات العربية وما بعدها
يبدو أن الجهود الغربية لمنع نجاح “الإسلام السياسي” وصد الإسلاميين عن مواقع الحكم قد تداعت للفشل، أو هي في حال تراجع ظرفي على الأقل. والعنوان العريض لهذا الفشل هو “الربيع العربي” وما تبعه وسيتبعه من انتخابات حرة، بات من المؤكد أن الإسلاميين هم طلائع الفائزين فيها. تحقق هذا وسيتحقق في تونس والمغرب ومصر واليمن وليبيا… والبقية تأتي إن شاء الله تعالى.
وقد تجلى الفشل الغربي أولَ ما تجلى وأكثر ما تجلى في عجز الأوربيين، وفرنسا على وجه الخصوص، عن إنقاذ الرئيس التونسي وإبقائه في الحكم، وكذلك في منع الإسلاميين التونسيين ثم المغاربة من الفوز في الانتخابات والوصول إلى الحكومة. وأما تصويت المصريين في انتخاباتهم، فلم يكن فقط مؤيدا وكافئا للإسلاميين على ما تحملوه وقدموه، بل جاء تصويتا انتقاميا من السياسات والتوجهات المدعومة والمتبناة من الغرب ورموزه في مصر وفي المنطقة.
حاليا، وعلى مدى السنة المنصرمة (2011م، سنة الربيع العربي)، يظهر أنَّ الغرب آخِذٌ في مراجعات تقييمية وتغييرات سياسية، ستعيد ـ على كل حال ـ صياغة موقفه وتعامله مع الإسلام والإسلاميين، على نحو يُفترض أن يكون أكثر واقعية وتفهما وأكثر إيجابية وتسامحا. وهذا يحتم على الإسلاميين اغتنام هذه الفرصة من جهتهم، وردَّ التحية بمثلها أو بأحسن منها.
وأول ذلك وأساسه: التعامل المصلحي الإيجابي مع الغرب. فالعلاقات السياسية ـ وخاصة منها الخارجية ـ لا تبنى على العواطف الإيجابية ولا السلبية، ولا على الحب والغض، ولا على العداوة والصداقة، ولا على الولاء والبراء، وإنما تبنى على المصالح المتبادلة. والغرب بحاجة إلى المسلمين، بقدر ما هم بحاجة إليه. فمصالحنا عندهم، ومصالحهم عندنا. وليس هناك ما يدعونا إلى معاكسة مصالح الشعوب والدول الغربية أو انتقاصها. ولهذا فمن المشروع ومن اللازم الإقدام على ما يتطلبه الموقف من تطمينات ومبادرات في هذا الاتجاه، سواء بالأقوال أو بالأفعال.
فهذا على الأمد القريب العاجل.
وأما على المدى الطويل، فالتيارات الإسلامية والغرب مدعوون ـ منطقيا ـ إلى فتح مرحلة جديدة من الحوار الجدي المثمر. ولست أعني الحوار الديني، أو الحوار الإسلامي المسيحي فقط، بل أعني بالدرجة الأولى الحوار السياسي والثقافي، فهو أهم وأفيد وأَولى.
إن الحديث ـ مثلا ـ عن الانتهاكات الحقوقية لجنود الاحتلال هنا وهناك، مع السكوت عن الاحتلال نفسه، ومع السكوت عن اختطاف شعب ووطن بأكمله، يعد ضربا من الضحك على الذقون…إن الانتهاكات الحقوقية الفردية، التي يرتكبها الجنود والمجندون، كالقتل والتعذيب والاعتقال التعسفي، ما هي إلا قطرات من بحر الظلمات! فكيف يستساغ الاهتمام بالقطرات، مع التغاضي عن البحار والمحيطات؟!
على الجهتين الإسلامية والغربية، هناك الآن عدة دوائر ومستويات وأطراف يمكن أن تتحرك وتسهم في سد الحاجة الكبيرة والملحة لهذا الحوار والتفاهم، أذكر منها: الدوائر الدينية ذات الفاعلية والمصداقية والتأثير في الجانبين.
وفي مقدمتها الحركات والمنظمات الإسلامية الدعوية، والمنظمات المسيحية التبشيرية. فمثلا حركة الإخوان المسلمين، وهي ذات تاريخ طويل وامتداد عريض عبر العالم، لم أسمع يوما أنها بادرت ودخلت في حوار مبرمج ومنتظم مع أطراف دينية أو سياسية غربية، حول علاقة الإسلام والإسلاميين بالغربيين والمسيحيين، أو حول القضية الفلسطينية، أو حول مستقبل الدين ورسالته في عالم اليوم وعالم الغد، أو حول وضع الأقليات المسيحية في العالم الإسلامي، ووضع الأقليات الإسلامية في العالم الغربي، أو حول قضية الإرهاب والتطرف هنا وهناك…
وما يقال عن جماعة الإخوان المسلمين يقال عن مثيلاتها من الحركات والفعاليات الإسلامية، ونظائرها في الجهة المسيحية…
المنظمات الحقوقية
المنظمات الحقوقية، الدولية منها والمحلية، على العموم لها مكانة محترمة، ولها مصداقية وفاعلية وتأثير في مجتمعاتها وعلى الصعيد الدولي. وهي لذلك مؤهلة لإجراء حوارات وتـبَـنِّي مواقف وتوجهات تؤثر إيجابيا في واقع العلاقة بين المسلمين والغرب. فلا ينبغي أن يقتصر دورها على رصد الانتهاكات الحقوقية وإدانتها، ينبغي ألا تقف عند دور الحَكَم أو الشاهد أو الملاحظ. بل يمكنها وينبغي لها ـ إضافةً إلى ما سبق ـ أن تكون شريكا فعليا في صنع واقع أفضل، وفي صنع أرضيته وشروطه. وينبغي أن تتجاوز المجال الحقوقي للأفراد والمجموعات، إلى مفهوم أوسع وأرفع لحقوق الإنسان؛ مفهوم يركز على حقوق الكائن البشري والجنس البشري، وعلى حقوق الأمم والشعوب.
إن الحديث ـ مثلا ـ عن الانتهاكات الحقوقية لجنود الاحتلال هنا وهناك، مع السكوت عن الاحتلال نفسه، ومع السكوت عن اختطاف شعب ووطن بأكمله، يعد ضربا من الضحك على الذقون…إن الانتهاكات الحقوقية الفردية، التي يرتكبها الجنود والمجندون، كالقتل والتعذيب والاعتقال التعسفي، ما هي إلا قطرات من بحر الظلمات! فكيف يستساغ الاهتمام بالقطرات، مع التغاضي عن البحار والمحيطات؟!
وفي جميع الأحوال، فإن المنظمات الحقوقية مؤهلة لأداء دور مؤثر، لصالح علاقات أفضل وأعدل بين الشعوب عامة، وبين العالمين الإسلامي والغربي خاصة. وذلك عن طريق الحوارات الجادة والمنتظمة، مع السعي إلى تنفيذ القرارات والمواثيق المتفق عليها بين الطرفين أو الأطراف…
الإعلاميون
إذا كانت الصحافة هي السلطة الرابعة، وهي صاحبة الجلالة، فإن الصحفيين والإعلاميين هم بالتأكيد رجال سلطة، وهو جنود وضباط صاحبة الجلالة هذه… وإذا كانت هذه الأوصاف تصدق على الصحفيين والإعلاميين منذ عشرات السنين، فإنها اليوم قد زادت بأضعاف مضاعفة. وربما لم تعد الرتبة الرابعة كافية للسلطة الصحفية والإعلامية، في عهد الفضائيات والإنترنت والكاميرات الخفية والصحف المتعددة الطبعات في اليوم الواحد…
المهم أن الحوار بين الإعلاميين المسلمين والغربيين، بمؤسساتهم ومنظماتهم، وبخبراتهم ودقة متابعاتهم، وبقوة تأثيرهم في الرأي العام، يمكن ـ أو يجب ـ أن يشكل جزءا طليعيا من الحوار بين الشرق والغرب، وجزءا من صناعة العلاقة المنشودة بين العالمين الإسلامي والغربي، علاقة الاعتراف المتبادل، وعلاقة الاحترام والتفاهم والتعاون وعلاقة القرب والمعرفة عن كثب. فمن المفيد ومن الضروري أن يتجاوز الصحفيون وظيفة تغطية الأحداث وتحليلها، إلى وظيفة صنع الأحداث وتوجيهها، فهذا هو معنى وصف مهنتهم بأنها “سلطة”، وبكونها “صاحبة جلالة”.
الأحزاب السياسية
لعل إيراد الأحزاب السياسية في هذا السياق، يكون من البدهيات ومن نافلة القول. فمن صميم وظيفتها ومسؤوليتها أن تنخرط في الحوارات والتعهدات والجهود، التي تخدم العلاقات الدولية العادلة والبناءة. عناك اليوم أحزاب إسلامية معترف بها، في معظم البلدان العربية والإسلامية. وقد أصبح من الواضح حرص الغرب مؤخرا على التواصل مع الأحزاب الإسلامية، لكن المهم هو ألا تقتصر هذه الأحزاب على استقبال من يطرق بابها من السفراء والدبلوماسيين والمبعوثين، بل تكون هي مبادِرة أيضا، سواء في تحديد وِجْهة التواصل والحوار، أو في تحديد موضوعاته وأهدافه.
الجامعة والجامعيون
كثيرا ما نسمع الكلام عن فك العزلة عن الجامعة وإخراجها من أبراجها ومحاريبها، وجعلِها مندمجة في محيطها، متفاعلة مع متطلبات شعوبها ومجتمعاتها. وهذا كله جيد ولا غبار عليه. ومحيط الجامعة اليوم هو الكرة الأرضية كلها، وبدرجة أكثر أهمية وأولوية، يأتي المحيط المحاذي والأكثر تداخلا. فمن هذا الباب يكون من الطبيعي ومن الضروري، أن تنخرط الجامعات والجامعيون في قضية الحوار النظري والعملي بين المسلمين ونظرائهم الغربيين، من أساتذة وطلاب وباحثين.
والجامعيون هم الأكثر انفتاحا والأقرب إلى المعالجة المنهجية والعقلانية للأمور. ولذلك فهم أكثر أهلية للتقويم الفكري والعلمي الإيجابي، للعلاقات الإسلامية الغربية.
وهذه هي الإضافة النوعية للدور الجامعي في هذا المجال.
ومن الإضافات النوعية التي يمكن أن يضطلع بها الجامعيون ومؤسساتهم: تأسيس مراكز وأقسام قارة للبحث والتكوين والتدريب في موضوعنا ومجالنا. فهناك نقص كبير عند المسلمين في الدراسات والأبحاث والمؤسسات المتخصصة في شؤون العالم الغربي وفي العلاقة معه، بينما هم يعرفون عنا الشاذة والفاذة. وجميع التخصصات الجامعية: الشرعية والإنسانية والاجتماعية والقانونية والسياسية والاقتصادية والأدبية، لها أكثر من صلة بهذا الموضوع، ويمكنها أن تسهم فيه.
(المصدر: عربي21)