مقالاتمقالات مختارة

الإسلاميون والسياسة: التمييز بين السياسي والشرعي

بقلم عصام تليمة

كلما صدر عن حركة (حماس) قرار أو رؤية، أو حزب النهضة التونسي، أو حزب العدالة والتنمية التركي أو المغربي، إلا ورأيت لفعلهم أو تصريحهم ردود أفعال بين رافض ومؤيد، وكل ذلك مقبول في إطار حرية التعبير، وإطار أن ما يقوم به هؤلاء جميعا هو فعل بشري في أمر سياسي، وليس اجتهادا في شأن ديني من الثوابت الشرعية. ولست هنا بصدد نقاش ما قامت به حماس مؤخرا، أو حزب النهضة في تونس، أو حزب العدالة والتنمية في تركيا أو المغرب، أو الأداء السياسي لإخوان مصر، بل الأهم هنا هو نقاش الفعل والفهم السياسي للإسلاميين، ومتى يرفض ومتى يقبل؟ ومتى يرفض الرفض الذي لا يقبل النقاش ولا التفاوض. وكيف يفرق الباحث والسياسي الإسلامي بين ما هو من مساحة الثابت أو المتغير في الشرع، وبين مساحة السياسي البحت، والعلاقة بينهما، ومتى يقول الفقيه كلمته في الشأن السياسي، وكيف، وأدوات تكوين الفقيه السياسي، هذا ما نحتاج لنقاشه وتناوله بشيء من التفصيل في مقالاتنا المقبلة إن شاء الله.

وليس ذلك هروبا من وواقعنا والمشاركة بالرأي الفقهي فيه، بل كي يكون الرأي مبنيا على منهج علمي دقيق وصحيح إلى درجة كبيرة، ينبغي أن ننطلق على علم وبصيرة، فالخلط في المنهج أو التفاصيل يؤدي إلى خلل في المنهج والتناول والتطبيق.

التمييز بين السياسي والشرعي:

وما يهمني في هذا المقال هو التفريق بين مساحتين مهمتين، مساحة الديني التشريعي الذي يبنى على نصوص شرعية، وبين الأمر السياسي البحت الذي يبنى على معايير وقياسات سياسية مهمة لمن يتخذ القرار، ومن يتناول هذا القرار بالنقد أو التأييد، ففي هاتين المساحتين يحدث خلط كبير، للأسف يصيب العقل الإسلامي بشكل مخيف، لأنه يضيع عليه فرصا، أو يصيبه بكوارث كان يمكنه تجنبها، لو امتلك أدوات المساحتين المذكورتين، وأحسن التفرقة بينهما تفريقا صحيحا.

ولست بهذه التفرقة أنادي بالفصل بين الدين والسياسة، أو أؤمن به، بل أعني التمييز بين المساحتين، فالخلط بينهما دون تمييزهما يجعل الباحث الإسلامي، أو السياسي الإسلامي في حرج ديني أو سياسي متوهم في كثير من الأحيان للأسف، فحتى المساحة الدينية الشرعية تحتاج نفسها لتمييز بين الثابت والمتغير، بين القطعي والظني، بين التشريع الدائم والتشريع المؤقت.

وقد كان الكثير من الصحابة رضوان الله عليهم يدركون هذا الفارق بين الأمر الشرعي الذي لا يقبل الخلاف، والأمر الشرعي الذي يقبله، وبين الحكم الشرعي والأمر الذي ليس من التشريع بل من قرارات الناس التي ترجع إليها لما تطمئن إليه عقولهم ونفوسهم، أو لخبرتها فيه، وأوضح نموذج في ذلك صحابية جليلة، كانت جارية ثم أعتقت، وهي (بريرة)، والحديث في صحيح البخاري والسنن، وقد كانت أمة متزوجة بعبد مسلم، فلما أعتقت أصبح لها شأن آخر، وهو: أن الأمة المتزوجة بعبد لو أعتقت يكون لها حرية القرار إما أن تظل مع زوجها العبد، أو تفارقه، فلا يجتمع عبد بحرة إلا برضاها بعد عتقها، ولما خيرت (بريرة)، اختارت الفراق، وسعى زوجها ليقنعا بالبقاء ورفضت، وطلب شفعاء يشفعون له عندها، ورفضتهم، ثم أرسل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلمها، فاختارت الفراق، فقال لها: يا بريرة، إنه زوجك وأبو ولدك، فقالت: يا رسول الله جئتني آمرا؟! فقال: شافعا، فقالت: لا أريده. وردت شفاعة ووساطة النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية أخرى: عن ابن عباس: أن مغيثا كان عبدا، فقال: يا رسول الله اشفع لي إليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا بريرة اتقي الله، فإنه زوجك وأبو ولدك”، فقالت: يا رسول الله أتأمرني بذلك، قال: “لا، إنما أنا شافع فكان دموعه تسيل على خده”، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: “ألا تعجب من حب مغيث بريرة، وبغضها إياه”.[1] بل روى البخاري عن ابن عباس رؤيته لزوجها يقول: “كأني أنظر إليه يتبعها في سكك المدينة، يبكي عليها”.[2]

فقد تأكدت أولا أن الأمر ليس تشريعا دينيا، لا تملك حياله إلا الرضا به، بل هي وساطة بشرية في أمر اجتماعي وهو الزواج والطلاق، لها أن تقبل أو ترفض دون أن يترتب على ذلك إثم بالرفض، وقد عقب الإمام ابن القيم على فعلها بقوله: (وتشفَّع وشُفِّع إليه (أي النبي صلى الله عليه وسلم)، وردت بريرة شفاعته في مراجعتها مغيثا، فلم يغضب عليها، ولم عتب، وهو الأسوة والقدوة).[3] وقال ابن القيم أيضا في موضع آخر: (لم يغضب النبي صلى الله عليه وسلم على بريرة، ولم يُنكر عليها إذ لم تقبل شفاعته، لأن الشفاعة في إسقاط المشفوع عنده حقه، وذلك إليه، إن شاء أسقطه، وإن شاء أبقاه، فلذلك لا يحرُم عصيان شفاعته صلى الله عليه وسلم، ويحرم عصيان أمره).[4]

فالمرأة حكمت عقلها وقلبها ورأيها وخبرتها بزوجها في الأمر، ورفضت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يؤثر على قرارها بكاء زوجها حتى اخضلت لحيته بالدموع، وتتبعه لها في طرق المدينة، قبل انفصالها وبعده، كما روى البخاري في صحيحه، وهو نموذج صريح وواضح في العلاقة بين النبوة والأمر الخاص للإنسان الذي ليس فيه أمر يلزم، بل يبحث فيه الإنسان في قراره بالخبرة والواقع والتجربة وما يقتنع به، ولم يجد النبي صلى الله عليه وسلم غضاضة في ردها شفاعته ووساطته، رغم أنه قال لها في أول الأمر: اتقي الله، ثم ذكرها بأن بينهم أولادا، وحياة وعشرة، فقال: إنه زوجك وأبو ولدك، فأرادت أن تستوثق هل الأمر شرع ودين لا يرد ولا يناقش، أم قرار خاص بها تقرره وحدها، وهذا يدل – كما ذكرت – على أن الصحابة نساء ورجالا كان الكثير منهم يميز بين المساحتين مساحة الشرع الواجب التنفيذ الذي لا خلاف فيه، والشرع المختلف فيه، وشؤون الدنيا البحتة من سياسة واجتماع وغيرهما مما مجاله العلم والواقع والخبرة به، والاستفادة من تجارب الآخرين.

 


[1] رواه البخاري (5283).

[2] رواه البخاري (5281).

[3] انظر: زاد المعاد (1/156).

[4] انظر: زاد المعاد (5/159).

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى