مقالاتمقالات مختارة

الإسلاميون.. من النقد الفكري إلى التمرد على البراديغم الحركي

الإسلاميون.. من النقد الفكري إلى التمرد على البراديغم الحركي

بقلم بلال التليدي

كان للمحنة التي تعرض لها الإخوان المسلمون في مصر دور كبير في تدشين سلسلة مراجعات فكرية، فقد شكلت مخاضا حقيقيا للحركة الإسلامية وأعطت المسوغات الضرورية لانطلاق عملية النقد الذاتي على أكثر من مستوى.

ولعل المستوى الأول الذي توجهت له الأسئلة المحرجة هو السؤال التنظيمي، إذ ألقت ظاهرة الفصل من التنظيم بظلالها على عملية النقد الذاتي وأنتجت مفاهيم تنظيمية جديدة مثل حق التظلم وقضية التحكيم في البينة التنظيمية الإخوانية. وقتها، أي بعد فصل الشيخ محمد الغزالي وجماعته، لم يكن دعاة النقد الذاتي من داخل الجسم الحركي يربطون بين الرؤية الفكرية وبين الانغلاق التنظيمي، إذ كانوا يتصورون أن الرؤية الفكرية والمشروع الدعوي الذي أسسه الإمام حسن البنا لا توجد فيه مسوغات لأشكال الإقصاء التي مارستها القيادة في حق رموز من الإخوان.

لكن حركية النقد ودائما في علاقة بالبعد التنظيمي، ستنتج من داخل الجسم التنظيمي الإخواني صيغا محايثة للنسق الإخواني كما هو الشأن في الصيغة السودانية التي دشنت خلافها مع الإخوان المسلمين على المستوى التنظيمي، وانتهت إلى المفاصلة معها فكريا وسياسيا، وكما هو الشأن لاحقا مع الحالة القطرية التي قررت بعد تتبع لعناصر المشروع الإخواني وبعد دراسة للجدوى من تنزيل هذا المشروع على الواقع القطري إلى قرار حل التنظيم.

الحالة القطرية

مع الحالة القطرية، وصل النقد الذاتي إلى أعلى سقوفه، إذ لم تطل المراجعات عناصر في البناء التنظيمي والفكري لحركة الإخوان المسلمين، وإنما طرحت على طاولة المراجعة فكرة جدوى التنظيم في واقع كواقع قطر، والمصالح التي يمكن أن يحققها وجود هذا التنظيم بارتباطاته العالمية، والمفاسد التي يمكن أن تلحق الدعوة ورجالاتها من وراء وجود هذا التنظيم بأطره الحزبية ورهاناته السياسية.

لا يربط د. جاسم سلطان ـ وهو من أهم قيادات التنظيم الإخواني بقطر سابقا ـ حيثيات هذه المراجعة بالاعتبار التنظيمي، وإنما يذهب بالنقد إلى مداه، ويبحث عن مسوغات للحالة القطرية من داخل رؤية فكرية بيانها كما يلي:

يرى د. جاسم سلطان أن المراجعة الحقيقية التي ينبغي أن تدشنها الحركة الإسلامية هي تلك التي تطال مسلماتها. وفي هذا الصدد يعتبر أن سقوط الخلافة الإسلامية وعدم وجود الدولة الإسلامية دفع الحركة الإسلامية أن تفكر في إعادة إنشاء البناء المصغر للخلافة في بنيتها وتشكيلاتها، ولأن الإسلام نظام شامل فإنها بدأت تنشئ المنظمات الشاملة التي ستقوم بهذا الدور، بناء على مسلمة ثانية تفترض أن هناك فراغاً يمكن أن يحتله المشروع الإسلامي، ويبسط أجنحته على الحياة، فتعود الدولة الإسلامية ابتداءً، ثم تعود الخلافة الإسلامية.

ينتقد د جاسم سلطان هذه المسلمات، ويعتبرها سببا في إنتاج كثير من الأخطاء في التجربة الحركية، ذلك أن الواقع ليس فيه فراغ، لا على المستوى المحلي، ولا على المستوى الإقليمي، ولا حتى على المستوى العالمي، فهناك دولة مركزية، لها أجهزتها القوية، وأن الحركة الإسلامية حينما أنشأت بناها التنظيمية التي تسعفها لتنزيل منظومتها وأدبياتها اصطدمت بواقع صلب جعلها تدفع تكاليف ضخمة جداً، فتم استنزافها في هذا الصراع، وبعد ذلك تم تفريغ طاقاتها في مساحات مثل أفغانستان وغيره، ثم دُفعت في مساحات العنف حتى تستهلك بقية طاقاتها، ثم على مساحة الأرض التي تعمل فيها أصبحت محاصرة حصاراً شديداً.

عبد الله النفيسي وتعميم الحالة القطرية

في مقاله المنشور في موقعه، وتحت عنوان الحالة القطرية، تتبع النفيسي مسار التجربة الإخوانية في قطر منذ بداية الستينات، أي بعد اضطرار هجرة نخبة من الإخوان خارج مصر بسبب حملة جمال عبد الناصر عليهم إلى سنة 1999 أي سنة اتخاذ قرار حل تنظيم الإخوان في قطر واختيار صيغة الانبثاث في المجتمع من غير خضوع لقوالب حزبية أو أطر سياسية، ويخلص من خلال قراءة التجربة، وإن كان يجري خلاصاته على لسان محاوريه- إلى أننا “في حاجة إلى قلب (مرجعية) ذي صدقية وليس إلى (تنظيم)، في حاجة إلى (قلب مرجعي) مشبع بالعلم الشرعي الإسلامي والفكر الإستراتيجي وفهم الواقع المحلي والإقليمي والعالمي والتسلح بأدوات الفحص المنهجي السليم المناسبة للعصر وظروفه وملابساته”.

لا يكتفي عبد الله النفيسي بإبداء إعجابه بالحالة القطرية والطريقة التي سلكتها النخبة الإخوانية القطرية لحل التنظيم، وإنما يدعو إلى تعميم التجربة في الجزيرة العربية وفي العالم العربي ويعلل تعليلا قريبا مما ذكره د جاسم سلطان ذلك إذ يرى أن إنشاء أطر حزبية تخلق حساسية شديدة لدى الحكومات والنُخب الحاكمة إذ تحرض على تلمُّس منطلقات هذه التشكيلات الإسلامية الفكرية والحركية وتتبع الأشخاص العاملين في هذا المشروع، وانتهاج سياسة التغول والملاحقة والإجهاز على كسب الحركة الإسلامية.

من الحالة القطرية إلى نظرية الفطرية

لا يحيل الدكتور فريد الأنصاري إلى شيء مما كتبه الدكتور جاسم سلطان ولا الدكتور عبد الله النفيسي، لكنه يبني نفس الأطروحة اعتمادا على مقولات اختار أن يسميها مقدمات على طريقة الشاطبي في الموافقات، وهي مقدمات سبع لخصت الحجج والاعتبارات التي بنى عليها نظريته في العمل الإسلامي المسماة بـ”الفطرية” التي تعني في أحد عناوينها التخلي عن الأطر التنظيمية وبشكل خاص الحزبية منها والنقابية وبناء العمل الإسلامي على نسق الأنبياء من غير مزاحمة للخصوم في مغانمهم ومكاسبهم.

مفهوم الفطرية

يرى الدكتور فريد الأنصاري أن مدار المعركة اليوم يتلخص في تحرير الإنسان فردا وأمة من أغلال الاسترقاق العولمي عقيدة وثقافة واجتماعا واقتصادا، وأن المسلم فقد كثيرا من خصائص فطرته ـ بما هو عبد لله ـ وأصبح جزءا من منظومة الآخر، وأن العمل الإسلامي الذي كان من المفترض أن يقوم بهذا الدور ـ أي تحرير الإنسان والعودة به إلى فطرته ـ انحرف بنفسه عن الفطرة، وسلك مناهج الآخر، وانخرط في أطر الآخر التنظيمية والسياسية، وأنتج العديد من المسلكيات التي حاذت به عن فطرته، وأن واجب الوقت بالنسبة إلى الحركة الإسلامية اليوم بات يفرض أن تعود إلى فطرتها في الدين والدعوة، وأن هذا السبيل لن يتأتى إلا بمنهاج فطري يعيد للوحي دوره التربوي والاجتماعي في النفس والمجتمع بعيدا عما سماه د فريد الأنصاري بمضايق الجماعات والتنظيمات وحرج الأسماء والمصطلحات وما يترتب عن ذلك من تصنيفات وتعقيدات، ويقدم كتابه “الفطرية” كرؤية في فقه الدعوة يحاول من خلاله أن يبسط بعض التأصيلات المنهاجية والنظرية لأطروحته.

المقولات الخمس

على الرغم من أن الدكتور فريد الأنصاري تحدث عن مقدمات سبع إلا أنها عند التأمل والتمحيص تجتمع في مقولات خمس يعتبرها الأساس في تأصيل النظرية وتفسير دواعيها:

ـ المقولة الأولى: هيمنة الغرب: يرى الأنصاري أن هناك تطورا كبيرا في أسلوب الغرب في المواجهة، إذ انتهى حسب نظره زمن وكالة الأنظمة العربية، وبدأت مرحلة المواجهة المباشرة، بينما تعاني الأمة من داء التمزق والتآكل الداخلي الذي تطور وآل إلى انهيار في وجود الأمة المعنوي، وأمام هذا الوضع يتساءل الأنصاري عن دور الحصيلة التي قدمتها الحركة الإسلامية في قرن من الزمان، حصيلة البرامج والخطط التي وضعتها للممانعة والنهوض، ويعتبر فشل الحركة الإسلامية في رفع مبشرات الإسلام النصية والمنهاجية بعالمية هذا الدين أحد المسوغات لإعادة النظر في الأساليب التربوية والمنهجيات الدعوية.

ـ المقولة الثانية: من الحركة إلى الدعوة: يرى الأنصاري أن الجهاز المفهومي الذي تحمله الحركة الإسلامية يعتبر أحد تجليات الأزمة، ويعتبر أن استعمالها لمصطلح حركة بما يحمله من دلالات غير إسلامية هو أحد تجليات هذه الأزمة، وأن الأمر لا يتوقف عند حدود ما يعرف عند الأصوليين بـ “لا مشاحة في الاصطلاح” والحركة الإسلامية سواء استعملت مصطلح الحركة أو الدعوة أو اليقظة أو غيرها فإن المسميات مهما تعددت فإن المضمون واحد ولا عبرة باختلاف الأسماء، وإنما الأمر حسب الأنصاري ينطلق من المصطلح وينتهي إلى ابتعاد الحركة الإسلامية عن فطرتها ومنهجها الدعوي الأصيل، إذ تصير مثل الحركات الاجتماعية الدنيوية التي تتنافس من داخل القوالب والأطر التي وضعها الآخر على مكاسب ومغانم غافلة عن الوظيفة الأصلية الفطرية بما هي تخريج نموذج “عبد الله” الذي هو مناط كل شيء في الدعوة والحركة، ويتفرع عن هذه المقولة الحديث عن الوسائل التي تشتغل بها الحركة الإسلامية والتي تتطلب في نظر الأنصاري أن تتقيد بالاشتغال بالنص اجتهادا وتأصيلا والدوران معه حيث دار، وهو ما جعل بعض الحركات الإسلامية حسبه تتحول من مشروع ديني تجديدي إلى مشروع مدني لا يرتبط بالدين إلا قليلا.

ـ المقولة الثالثة: الإنسان هو القضية: يرى الأنصاري أن قضية الأمة في هذه المرحلة التاريخية التي نعيشها اليوم ليست قضية البرامج التفصيلية وإنما هي أن يكون الناس مسلمين، وأن يحضر هذا الدين ويخترق قوى العمران الأربع المتحكمة في نسيجه الاجتماعي: التعليم والإعلام والاقتصاد والسياسة، ويرى الأنصاري أن الأسس الثلاثة الأولى هي التي ينبغي أن تكون ميادين للعمل الدعوي، إذ أن من سيطر عليها صنع السياسة، وأن محاولة صناعة السياسة بدون السيطرة عليها كليا أو جزئيا هو ضرب من العبث، وأن العمل فيها ينبغي أن يكون من خلال البرامج الدعوية أساسا، فهو العمل القاعدي التحتي الذي يشتغل في الميدان العملي في ظروف سيطرة الآخر عليه، أما العمل السياسي فيكتفى فيه ـ حسب الأنصاري ـ بمخاطبة إنسانه بكلمات الله بعمقها الغيبي وامتدادها الأخروي.

يقول فريد الأنصاري في هذا الصدد: “إنني على يقين بأن الدعوة الإسلامية بصيغتها الفطرية ستجد مكانها بين أولئك جميعا وتصنع تيارها من كل الأطياف، لأن السياسة الحزبية بصورها الحالية إنما هي صنيعة بشرية براغماتية أشبه ما تكون بالطائفية لخلوها في الغالب من المصالح العامة الحقيقية”، ويفصل الدكتور فريد الأنصاري في هذا التصور في المسألة السياسية في العمل الإسلامي في مقدمته السادسة ويستعرض نماذج من القصص الإسلامي المعاصر، ويخلص إلى أن المنهاج الفطري يهدف إلى إنتاج سياسة تسوس السياسة ولا تشتغل بالسياسة سياسة حاضرة بالقوة في كل شيء وإن لم تحضر بالفعل، سياسة موجهة لكل شيء، سياسة مصنوعة بصناعة الدين.

ـ المقولة الرابعة: ولاية الله وتدبير الشأن الدعوي، يؤكد الأنصاري على أن مهمة العمل الدعوي في هذه المرحلة هو صناعة المسلم، وأن ولاية الله ونصره ستشمل المخلصين له من عباده، وأن العمل الإسلامي الذي لا يتولاه الله لا يصل إلى الغاية أبدا، وأن تدبير شأن الدعوة في الأرض إنما هو من شؤون الربوبية لا قيادة للإنسان فيه ولا ريادة، وإنما المومن فيه جندي من جنود الله، وأن سبب فساد أجزاء كثيرة من العمل الإسلامي وسبب خروجه عن مقاصده يرجع حسب فريد الأنصاري إلى رفع ولاية الله عنه تسديدا وتأييدا ونصرة.

ـ المقولة الخامسة: وتتعلق بأركان المشروع الدعوي الذي يحقق النقلة النوعية من “الحركة الإسلامية” إلى دعوة الإسلام، والذي يلخصه إلى ثلاثة عناصر:

1 ـ في منهج تجديد العلم ومفهوم العالم. ويلتمس في كتابين (أبجديات البحث في العلوم الشرعية محاولة في التأصيل المنهجي، ومفهوم العالمية من الكتاب إلى الربانية).

2 ـ في التأصيل النظري للعمل الدعوي ويعتبر كتاب “الفطرية” مرجعية في هذا الباب.

3 ـ في مجالس القرآن وتلقي رسالاته وهو العمود الفقري لمشروع الأنصاري على المستوى التطبيقي (كتاب مجالس القرآن).

المصدر: عربي21

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى