“الإسرائيليات” هي قصص وآراء منقولة عن بني إسرائيل (اليهود والنصارى). تلقفها الناس منهم باعتبارهم أهل كتاب. وأكثرها وردت عن طريق اليهود الذين خالطوا العرب في الجزيرة العربية والمسلمين في المدينة المنورة مع مطلع الإسلام. فإن العرب كانوا أميين ليس لديهم كتابا يطالعونه، ويعرفون منه عن منشأ الوجود وأصل الخليقة وعالم الغيب مما لا يعلم إلا بوحي. هذه الإسرائيليات بعضها أدرج في الكتب السابقة –كالتوراة والإنجيل، وبعضها حفظ في مروياتهم التاريخية، فسلموا لها وتناقلوها. وقد تسربت إلى المسلمين، خاصة في التفسير، لكثرة ما ورد في القرآن الكريم من قصص وأخبار عن الماضين مبهمة الأشخاص والأماكن والأزمنة.
وهذه الإسرائيليات مملؤة بالأباطيل والأكاذيب والخرافات والأساطير، وفيها جرأة على الذات الإلهية، وعلى الرسل الكرام، وعلى الملائكة المطهرين. فهي تؤسس لعقائد فاسدة وأحكام منحرفة. فمعظمها غير معلومة الأصل. يقول ابن تيمية –رحمه الله: “أما ما ينقل من الإسرائيليات ونحوها، لا يكترثون بضبطها، ولا بأحوال نقلها, لأنَّ الأصل غير معلوم, وغايتها أن تكون عن واحد من علماء الكتاب أو من أخذه عن أهل الكتاب”[1].
الموقف الشرعي من الإسرائيليات:
ثبت عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- توجيهان في شأن الإسرائيليات. التوجيه الأول ينهى عن السماع لمروياتهم والحديث بها؛ وهو التوجيه الأسبق، حيث كان قبل استقرار أحكام الشريعة وقواعد الملة. فكان دخول هذا المصدر على المتلقين يشكل فتنة لهم في دينهم.
والتوجيه الثاني هو الإذن بالسماع لمروياتهم والحديث عنهم؛ وهو التوجيه اللاحق، لكنه ليس بالمطلق، بل مختص بما لا يعلم كذبه. “قال الشافعي: من المعلوم أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لا يجيز التحدث بالكذب. فالمعنى حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه, وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم. وهو نظير قوله: (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم)[2]، ولم يرد الإذن ولا المنع من التحدث بما يقطع بصدقه”[3].
وهذا الموقف يتماشى مع البعد التربوي والتعليمي والفكري في إنشاء الجماعة المسلمة. بحيث لا يزاحم ينبوع المعرفة النقي عندها –ألا وهو الوحي- أي مصدر مشوب، وأي معرفة مضللة. ما يعطي العقيدة والشريعة والأخلاق والمفاهيم الإسلامية تمكنا في النفس وصفاء ورسوخا، وهذا بدوره يجعلها قادرة على الانفتاح على الآخرين مع امتلاك معايير القبول والرفض والتقييم.
وهذا ما تجلى في مناهج الصحابة –رضوان الله عليهم- ومن بعدهم من علماء المسلمين. فمعظم المرويات الإسرائيلية لم تثبت عن الصحابة بل عن من دونهم. وقد جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: “يا معشر المسلمين.. كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدث؟! تقرؤونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا؟! ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟! لا والله ما رأينا رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم”[4].
ويرى ابن تيمية -رحمه الله- أن المرويات الإسرائيلية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: فمنها ما علمنا صحته مما بأيدينا من كتاب وسنة، مما يشهد له بالصدق، ومنها ما علمنا كذبه مما بأيدينا من كتاب وسنة، مما يشهد عليه بالكذب، وصنف ثالث مسكوت عنه، لا من هذا القبيل ولا من ذاك القبيل، فلا نصدقه ولا نكذبه، وتجوز روايته.[5]
ورواية هذا القسم كما يذكر ابن كثير هي: “على سبيل التحلي به، لا على سبيل الاحتياج إليه والاعتماد عليه؛ وإنما الاعتماد والاستناد على كتاب الله وسنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم”[6].
وحديث الرسول الذي رواه البخاري في صحيحه، عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج،..)، “محمول على الإسرائيليات المسكوت عنها عندنا، فليس عندنا ما يصدقها ولا ما يكذبها, فيجوز روايتها للاعتبار. فأما ما شهد له شرعنا بالصدق فلا حاجة بنا إليه استغناءً بما عندنا, وما شهد له شرعنا منها بالبطلان فذاك مردود لا يجوز حكايته إلا على سبيل الإنكار والإبطال. فإذا كان الله -سبحانه وله الحمد- قد أغنانا برسولنا محمد –صلى الله عليه وسلم- عن سائر الشرائع, وبكتابه عن سائر الكتب, فلسنا نترامى على ما بأيديهم مما وقع فيه خبط وخلط, وكذب ووضع, وتحريف وتبديل, وبعد ذلك كله نسخ وتغيير”.[7]
ورغم هذا المنهج إلا أنه جرى عند بعض المفسرين والمؤرخين وشراح الحديث الاسترسال في نقل مرويات إسرائيلية كثيرة؛ بعضها بدون سند وبعضها الآخر بأسانيد قد تكون صحيحة وقد لا تكون صحيحة. وقد أثر هذا المسلك في كثير من قراء هذه الكتب من المسلمين ومن غيرهم؛ ما دفع المحققين والعلماء لاستنكار هذا المسلك والسعي في تنقية كتب التفاسير وشروح الأحاديث والتاريخ منها.
العدل والموضوعية مع المخالف:
لقد انطلق موقف الشرع الإسلامي من مرويات أهل الكتاب من حقيقة أن التحريف والتبديل الذي طال كتبهم وشرائعهم ومعتقداتهم وأخبارهم لم يكن تحريفا مطلقا وكليا، فكتبهم وثقافتهم لا تزال تحمل بقايا من الحق والصواب، ومن ثمَّ فإنكار كل مروياتهم وتكذيبها قد يجر لإنكار حق وتكذيبه.
إن هذا الموقف الموضوعي العادل مع الإسرائيليات، والذي أسس له الرسول –صلى الله عليه وسلم، لأصحابه وأمته من بعده، لا يتوقف عند مرويات اليهود والنصارى فقط، بل هو منهج صالح للتعاطي مع كافة أمم الأرض التي تحمل إرثا تاريخيا في ثقافتها يمتد عبر العصور الغابرة. فهو موقف يتيح التعامل مع هذه الموروثات البشرية من منطلق التحقق والمعيارية، لا من منطلق الاختلاف العقدية والديني.
إن هذا المنهج العلمي العادل لا تؤسسه رؤى بشرية وضعية، مغرقة في الجهل والتعصب. بل هو منهج رباني يربي أتباع هذا الدين على العلم والعدل، والتحقق والتثبت، وتمييز الصحيح من السقيم، والمقبول من المردود. وعندما فقد هذا المنهج ظهرت المناهج المنحرفة، الموغلة في القبول المطلق أو الرفض المطلق.
وقد بلغت جناية بعض مناهج القبول المطلق على كتب التفسير، حيث ملأتها بالإسرائيليات. فكثير من “هذه الإسرائيليات التي أخذها بعض المفسرين عن أهل الكتاب، وشرحوا بها كتاب الله تعالى، كان لها أثر سيء في التفسير. ذلك لأن الأمر لم يقف على ما كان عليه في عهد الصحابة، من الالتزام بدائرة المباح من ذلك، بل تعدى دائرة الجواز، فأوردوا كل ما قيل لهم إن صدقا وإن كذبا؛ بل ودخل هذا النوع من التفسير كثير من القصص الخيالي المخترع؛ مما جعل الناظر في كتب التفسير التي هذا شأنها يكاد لا يقبل شيئا مما جاء فيها لاعتقاده أن الكل من واد واحد. وليس من شك في أن هؤلاء الذين أكثروا من نقل الإسرائيليات وغيرها من الأخبار، وضعوا الشوك في طريق المشتغلين بالتفسير، وذهبوا بكثير من الأخبار الصحيحة بجانب ما أوردوه من قصص مكذوب وأخبار لا تصح”[8]. وهذا ما دعا الإمام أحمد بن حنبل أن يقول عن تفسير (الكلبي): إنه من أوله إلى آخره كذب! قيل له: فيحل النظر فيه؟ قال: لا[9]. وذلك بسبب إغراقه في رواية الإسرائيليات.
إن إيراد الإسرائيليات في الموروث الديني الإسلامي دفع بعض المستشرقين والطاعنين في الإسلام لادعاء أن المسلمين أخذوا دينهم عن أهل الكتاب، وأنَّ ما في القرآن من قصص هي مما استفادة محمد –عليه الصلاة والسلام- من كتب اليهود والنصارى. وهي شبهة هزيلة وتهمة واهية. فمنهج المسلمين النقدي للمرويات الإسرائيلية كان واضحا منذ العهد الأول، ولو كان شيء من ذلك صحيحا لأثبته يهود في فجر الإسلام! بل لقد ضاق اليهود ذرعا بمخالفة الرسول –صلى الله عليه وسلم- لهم.
من هنا نعلم مدى خطورة إقحام موروث الأمم الأخرى في البنية العقدية والتشريعية والقيمية للإسلام مهما تشابهت معها ظاهرا؛ فإنَّ بقاء القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة مصدرا لهذه البنية يضمن سلامة الدين والتدين. وهذا لا يمنع من الأخذ بما شهدا بصدقه، وما كان متفقا مع أصوله وقواعده ومفاهيمه، ووضع ما لا يمكن تصديقه وتكذيبه محل اختبار وتحقيق وتثبت.
—————————
[1] الرد على البكري، لابن تيمية: ص21.
[2] رواه أبو داود: ج2/342، برقم: 3644؛ وأحمد في مسنده: ج4/136، برقم: 17264، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن.
[3] الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني، تحقيق علي محمد البجاوي, دار نهضة مصر: ج6/575.
[4] صحيح البخاري: ج9/136.
[5] مجموع الفتاوى، لابن تيمية: ج13/366.
[6] البداية والنهاية، لابن كثير: ج2/135.
[7] البداية والنهاية: ج1/6- 7.
[8] الاتجاهات المنحرفة في التفسير، د. محمد حسين الذهبي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3/1406ه: ص37.
[9] المقاصد الحسنة، للسخاوي: ص474.
المصدر: مركز التأصيل للدراسات والبحوث.