مقالاتمقالات مختارة

الإرهاب المسيحي الأبيض

الإرهاب المسيحي الأبيض

 

بقلم د. عبدالله العودة

 

في غمرة الحزن تجاه هذا الحدث الإرهابي الجبان المخزي في نيوزيلندا، الذي قضى خمسون مسلماً فيه نحبهم وهم قد اجتمعوا لأجل الخير والصلاة والذكر والنفع، يبرز للسطح مجدداً التطرف الأبيض والمسيحي تجاه المسلمين، ويبرز للسطح بشكل أكبر خطاب الكراهية الذي زرع العنف والبلاء.

ويبقى السؤال: كيف يمكن فهم هذه الظاهرة ضمن الأجواء العالمية المخيفة والتيار الصاعد للعنف والتطرف الأبيض الذي يسوّغ نفسه بنصوص دينية وقومية، ويقدّم نفسه بشكل مخيف، ويتوسل وسائل سياسية بل وديمقراطية في الغرب، وهي الأجواء التي أتاحت لمتطرفين وأصوليين بيض، مثل دونالد ترامب، أن يصلوا لسدة الرئاسة؟

خطاب الخوف من الإسلام (الإسلام فوبيا) يقدّم نفسه بأثواب مختلفة، وبأصباغ تحاول أن تغير ملامحه، لكنه في النهاية خطاب عنصري متطرف يبرر الإرهاب ويقدّم الأرضية المناسبة لممارسة الإرهاب الأبيض.

حضرت لقاءً ساخراً وذكياً في شيكاغو للإعلامي المسلم “حسن منهاج”، الذي كان يعمل في برنامج “ديلي شو”. حسن قدّم مصطلحاً ذكياً ومهماً للظاهرة الأمريكية التي يمثّلها “دونالد ترامب” العنصري، الذي قاد فوزاً جماهيرياً ساحقاً بسبب خطابه الشعبوي العنصري ضد المهاجرين الآخرين وضد الأفارقة الأمريكان وضد اللاتينيين وضد المسلمين، بل وضد المرأة.

منهاج قال إن هذه الظاهرة تمثّل “الدواعش البيض”، بمعنى أن هذا الخطاب يحمل كل العناصر الداعشية في التعامل مع العالم والآخرين، وفكرة “نفي الآخر” وسحب قيمة المواطنة منه، وسحب الحريات، وسحب الحقوق الآدمية بسبب اللون والعرق والدين والأصل، ليعود بالغرب للمربع الأول، بعد قرون طويلة من جهود التنوير ومحاولات المجتمع المدني.

اللحظة الداعشية هي خطاب ذو عناصر، وهي لحظة تحمل سمات وخصائص معينة. تلك السمات والخصائص تتنفس في صدر هذا الخطاب الأبيض العنصري، الذي يمثّله مجموعة من الجمهوريين، أو بالأحرى مجموعة من السياسيين الذين قدّموا العنصرية بشكلها الأبيض، ليكونوا دواعش بِيضاً، لهم نفس الطعم والرائحة.

هذا التطرف الأبيض المخيف والأصولية البيضاء، ظاهرة مخيفة تبرر وتقنن الإرهاب ضد الأقليات وضد المختلفين وضد الآخر، وتجيز التعذيب والتنصت والملاحقة والمنع من الدخول، بسبب الدين أو الأصل أو الانتماء العرقي. وتدعو لجدار عزل عنصري بين المكسيك وأمريكا.

هذه الظاهرة المخيفة لو كانت بين مجتمع مسلم أو عربي لتم تحميل المجتمع كله وزرها، ولتم ملاحقة الأغلبية الرافضة والمعتدلة كل ذنوب هذه الأقلية الحمقاء. بينما هنا في هذا المجتمع الأمريكي، وبرغم أن مثل ترامب وخطابه يفوز بالرئاسة، إلا أن ذلك لم يجعل أحداً يتجاهل التعددية السياسية داخل هذا المجتمع الأمريكي، ولم يعمم الحكم على عنصريته وتحيزه المقيت.

ولو فعل أحدٌ ذلك لكان أقرب للحقيقة من التعميم ضد المجتمعات المسلمة بسبب العوامل السابقة من التعميم الغريب الذي يقدمه مثل ترمب وخطابه المدعوم شعبياً تجاه مجتمعات عريضة، وأديان، وتجاه أعراق، وتجاه حضارات مختلفة، بمواقفه من المختلفين لوناً مثل الأفارقة السود، والمختلفين ديانة مثل المسلمين، والمختلفين عرقاً وأصلاً مثل اللاتينيين والمكسيكيين تحديداً.

في تقرير مطوّل جداً على إحدى الصحف الأمريكية، تحدث كاتب التقرير عن ظاهرة دُرست أكاديمياً تحاول أن ترصد ذلك الحراك خلف الخطاب العنصري لترامب وغيره.

التقرير قدم تحليلاً لما سماه “صعود الاستبداد الغربي”، هذا الاستبداد ليس من جهة الرئيس ذاته، ولكنه من جهة المصوّتين، وعندما أجريت دراسة مسحية على عناصر معينة لرصد “الاستبداد الأمريكي” بين المصوّتين، تم ربط هذه الظاهرة بمجموعة عوامل؛ أحدها الرغبة بالحماية من الأقليات ومن غير المسيحيين ومن غير البيض ومن غير الجذور الأوروبية.

ويرجّح الكاتب أن ذلك مدفوعٌ بالخوف من التغيير الأخلاقي والقيمي والرعب من التغيير الديمغرافي؛ فلذلك تعارض هذه الفئة الواسعة أي تقنين لتغيير شكل الزواج التقليدي فيعارضون الزواج المثلي، ويعارضون تغيير شكل النظام إلى تطعيمات اشتراكية. ويعارضون تطبيع “الآخرين” في النظام وتبيئتهم؛ لأن ذلك قد يهدد المنظومة القيمية الاجتماعية، وقد يحوّل تلك المنظومة أو يهزها، أو يضعفها بسبب التغير الديمغرافي والاجتماعي.

ويؤكد الكاتب أن هذه الظاهرة ليست مربوطة بحزب سياسي ولا بتيار سياسي محدد، فهي مثلاً لا تهتم بقضية “الحد من الضرائب”، وهي تقريباً واحدة من أهم قضايا الحزب الجمهوري الذي صعد ترامب على أكتافه.

بالتالي، هذه الظاهرة مستقلة وغير مرتبطة بخطاب حزب أمريكي معيّن، بل هي شريحة اجتماعية قد تكون يميناً أو يساراً، ولذلك بشكل سريع تبنّت خطاب ترامب الذي يقدّم آلية عنصرية للحماية من تغوّل الأقليات ومن التحول الديمغرافي ومن وفود المهاجرين الذين يهددون النظام القيمي والاجتماعي.

فليس غريباً أن يكون “ترامب”، وهو الشخص الطارئ على الحزب الجمهوري، رئيساً بسبب دعم هذه الشريحة الواسعة من المستبدين الأمريكيين من المصوتين الذين يرون في خطابه إعادة إحياء للتفوق العرقي الأبيض بقيمه التقليدية وبثقافته، ضد الآخرين والمهاجرين، وضد المختلفين دينياً وعرقياً.

في النهاية، داعش في ديار المسلمين تواجه رفضاً شعبياً ساحقاً لخطابها العنصري والهمجي، بينما داعش البيضاء في أمريكا تنال المكاسب السياسية واحداً تلو الآخر، وتنافس حزبياً وسياسياً، وتحرّض شعبياً ضد الأقليات، وتدعو لاستخدام الكونغرس لمنع المهاجرين ولرفض غير المسيحيين واليهود وتدعو لبناء جدار عزل عنصري ضد اللاتينيين والمكسيك، وتؤخذ مأخذ الجد.

ثم بعد كل ذلك، يأتي من يقول بأن الجماهير العربية والمسلمة أقل وعياً وأقل جاهزية للمشاركة السياسية!

وفي المقابل هناك في الوطن العربي من لايزال يحرّض ضد أكثر التيارات المسلمة اعتدالاً، وفي المقابل هذا المستبد العربي الذي يقمع ويسحق المجتمعات المسلمة يريد ترسيخ ربط الإرهاب بالمجتمعات المسلمة، ويضع يده بيد أكثر التيارات تطرفاً وتصهيناً في الغرب، لأنه يفتقد أبسط القواعد الشرعية.

لذلك هذا الخطاب الذي مارس حالة التخويف والإرهاب من المسلمين وتياراتهم ووضع يده بيد أكثر التيارات المسيحية تطرفاً وعنصرية جهّز العالم لهذا النوع المخيف من الإرهاب الأبيض والعنصرية والفوقية البيضاء. ولاحول ولاقوة إلا بالله.

 

(المصدر: صحيفة الاستقلال / الخليج أونلاين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى