الإخوان وهيئة كبار العلماء.. كيفية تدبير الديني والسياسي
بقلم معتز الخطيب
تواجه جماعة الإخوان المسلمين حاليا تحديات مكثفة على 3 مستويات: الأول: على مستوى التنظيم الداخلي وعلى مستوى الأيديولوجيا السياسية؛ فالانقلاب العسكري في مصر أورثها تصدعات تنظيمية وفكرية لدرجة أننا شهدنا بروز ظاهرة إلحاد بين أفراد انتسبوا إليها أو ممن يلوذون بهم؛ وذلك لأنه جرت المطابقة بين الأيديولوجيا السياسية للإخوان والعقيدة الدينية، فحين أخفق المشروع السياسي انهارت العقيدة الدينية تبعا. أما المستوى الثاني فيتمثل في الحرب على التنظيم ومشروعه السياسي داخل العالم العربي، وخاصة من المحور الإماراتي السعودي المصري، وما أقامه من كيانات وتحالفات محلية ودولية؛ لتقويض قوة الحركة ونشاطها، الذي كان الأكثر تأثيرا في ثورات الربيع العربي ومطالب التغيير السياسي. أما المستوى الثالث فيتمثل في موقف بعض الدول الأوربية حاليا وخاصة فرنسا والنمسا اللتين تتبنيان “الإسلاموفوبيا” رسميا، وهذه المستويات الثلاثة تعني أن الإخوان يواجهون اليوم تحديات تستهدف شرعيتهم الدينية والسياسية.
وفي هذا السياق يأتي بيان هيئة كبار العلماء في السعودية، الذي وصف الإخوان المسلمين بالانحراف الديني والإرهاب، ويأتي متزامنا مع أمرين: الإعلان عن خسارة الرئيس الأميركي ترامب من جهة، وخطاب ماكرون حول “الانفصالية الإسلامية” و”أزمة الإسلام”، وما أثارته من موجة غضب عارم ودعوات المقاطعة الاقتصادية من جهة أخرى. وهذا السياق يعني أن التوجهات الغربية اليمينية المحافظة تتلاقى مع الرؤية السياسية لبعض الأنظمة العربية المعادية للتغيير السياسي على محاربة الإخوان المسلمين، وقد سبق لفرانسوا بورجا أن قال إن باريس تبيع الأسلحة لقمع شعوب عربية، وتشتري من السيسي والإمارات فهمهما ورؤيتهما ورواياتهما للحركات السياسية، كما أنه سبق لوزير العدل السعودي السابق أن زار ماكرون لتشجيعه على محاربة الإسلام السياسي، وهو المحور الذي اشتغلت عليه الإمارات -بكثافة- في السنوات الأخيرة عبر خلق كيانات موازية للهيئات الإخوانية أو القريبة منها في أوروبا، وعقدت مؤتمرا دوليا لذلك، أضف إلى ذلك أن أبرز مخاوف السلطة المصرية من فوز جو بايدن في الانتخابات الأميركية، كما عبر عنها -بوضوح وكثافة- الإعلام المصري؛ هي حقوق الإنسان والحريات وموقف الديمقراطيين من الإخوان المسلمين.
تضع هيئة كبار العلماء -بهذا البيان على الأقل- نفسها في مأزق حين ترهنها إلى الإرادة السياسية لولي الأمر، ويتجلى ذلك من خلال 3 أمور:
الأول: أن الموقف السياسي السعودي ممثلا في بيان الهيئة يتقاطع مع رؤية ماكرون بخصوص الإسلام السياسي، فقد سبق لماكرون أن تحدث عن “الانفصالية الإسلامية” التي هي “مشروع سياسي ديني” يحدث انشقاقا داخل المجتمع، الذي ينشط فيه الإسلاميون، وهذه الانفصالية ممثلة -في رأيه- بالوهابيين والسلفيين والإخوان المسلمين، وهي حركات يصفها بالتطرف، أما بيان هيئة كبار العلماء في السعودية، فيشخص مشكلته مع الإخوان في أنها “جماعة منحرفة قائمة على منازعة ولاة الأمر، والخروج على الحكام، وإثارة الفتن في الدول، وزعزعة التعايش في الوطن الواحد، ووصف المجتمعات بالجاهلية”، وأن “غايتها الوصول إلى الحكم”، ومن ثم فهي “إرهابية متطرفة”.
أما المقدمات التي أوصلت بيان هيئة كبار العلماء إلى هذه النتيجة، فهي وجوب الاجتماع على الحق والنهي عن التفرق، وأساس ذلك الاعتصام بالكتاب والسنة، وتحريم كل ما يؤثر على وحدة الصف حول ولاة أمور المسلمين من بث شبه وأفكار أو تأسيس جماعات ذات بيعة وتنظيم أو غير ذلك. فالإخوان يشقون وحدة الصف، وينازعون ولاة الأمور، ومن ثم فيجب التحذير منهم، بحسب البيان. لا يبدو هذا النمط من التفكير والاستدلال غريبا على هيئة كبار العلماء، وإن حاول البيان المضاد الصادر عن تشكيلات إخوانية أو قريبة منهم أن يبرئ ساحة هيئة كبار العلماء؛ بحجة أن بيان هيئة كبار العلماء قد صدر من دون توقيعات، رغم أن بيان هذه الهيئات نفسها لم يذيل بتوقيعات أيضا.
من المفارقة أن الحجة المركزية لبيان هيئة كبار العلماء انحراف الإخوان، هي الحفاظ على الجماعة ووحدة الصف، في حين أن الحجة التقليدية للأنظمة، التي تطعن في الإخوان هي أنهم لا يؤمنون بفكرة الدولة ويهدفون لإقامة الخلافة؛ أي إنهم يسعون إلى وحدة أوسع من الوحدة المنوطة بولي الأمر
الثاني: أن ثناء الخارجية الإسرائيلية على بيان هيئة كبار العلماء بخصوص الإخوان المسلمين يعزز فكرة أن الموقف إنما هو سياسي ولا صلة له لا بالكتاب ولا بالسنة كما يزعم بيان الهيئة، فالبيان يجسد تلاقي الرؤى السياسية السعودية والفرنسية والإسرائيلية، ومن ثم فلا قيمة لكل المقدمات والمسوغات، التي ساقها البيان لتأصيل موقفه من الناحية الدينية. ثم إن أسباب انحراف وتطرف جماعة الإخوان -وفق بيان هيئة كبار العلماء- هي أسباب سياسية محضة؛ تتمثل في كونها حركة معارِضة تشق الصف الواحد، وهو ما يلتقي تماما مع فكرة “النزعة الانفصالية”، التي تحدث عنها ماكرون؛ ولكن هذا الهجوم على النزعة الانفصالية يكتسب تأييدا من أعلى هيئة علمية رسمية داخل السعودية، ولم يعد موقفا سياسيا فرنسيا أو إسرائيليا فقط.
وإن تنزلنا في النقاش مع هيئة كبار العلماء واعتبرنا البيان فتوى فقهية، نجد أن البيان لا يحدثنا عن موجبات وحدة الصف، وهل يجب تحققها على مستوى الدولة القطرية فقط أم على مستوى الأمة؟ ثم من الذي يمثل الجماعة والصف هنا، وكيف يتحدد الانشقاق والتفرق؟ وهل تتمثل الجماعة ووحدة الصف في جانب ولي الأمر ومن يؤيده فقط؟ تعيدنا هذه التساؤلات إلى النقاش الكلامي/السياسي القديم حول مفهوم الجماعة، وقد كان أبو حاتم الرازي (322 للهجرة) من الإسماعيلية قد ذهب إلى أن الجماعة هي جماعة الإمام، ولو كان الذين معه قلة؛ وهو ناتج عن التصور الإمامي للسلطة؛ ولكن هيئة كبار العلماء تذهب -فيما يبدو- إلى أبعد من ذلك حين تعتبر الجماعة ووحدة الصف ممثلة في ولاة الأمور في كل مكان، وحين تعتبر أي حركة معارضة سياسية شقا لوحدة الصف؛ رغم أننا لا نجد أي موقف للهيئة من مواقف ولاة الأمر، الذين يتولون بأنفسهم التنكيل بالجماعة وتمزيقها وهدر مصالحها العامة وتشتيت شملها كما حصل في مصر وسوريا مثلا.
ومن المفارقة أن الحجة المركزية لبيان هيئة كبار العلماء انحراف الإخوان، هي الحفاظ على الجماعة ووحدة الصف، في حين أن الحجة التقليدية للأنظمة، التي تطعن في الإخوان هي أنهم لا يؤمنون بفكرة الدولة ويهدفون لإقامة الخلافة؛ أي إنهم يسعون إلى وحدة أوسع من الوحدة المنوطة بولي الأمر، التي تسعى هيئة كبار العلماء إلى الحفاظ عليها وجعلها هي الشريعة، وإذا كانت انفصالية ماكرون قائمة على مفارقة قيم الجمهورية، فإن انفصالية هيئة كبار العلماء قائمة على مفارقة الإمام السياسي المتغلب، وكلاهما حريص على تحقيق الطاعة والامتثال للسلطة من هؤلاء “الانفصاليين”، سواء كانت سلطة القانون، الذي يقرر ما هي قيم الجمهورية، أم سلطة ولي الأمر الاعتباطية والمنفلتة من أي مرجعية دينية أو قانونية.
الأمر الثالث: أن بيان هيئة كبار العلماء (وكذلك جواب المفتي العام للسعودية أيضا بهذا الشأن) يأتي على خلاف المواقف الدينية السعودية السابقة من الإخوان، فاللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء قالت في الفتوى رقم (6250) “أقرب الجماعات الإسلامية إلى الحق وأحرصها على تطبيقه: أهل السنة -وهم أهل الحديث- وجماعة أنصار السنة، ثم الإخوان المسلمون”. كما أنه سبق للشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في أكثر من مناسبة أن سئل عن رأيه في الإخوان المسلمين، فقال في موضع من مجموع الفتاوى “حركة الإخوان المسلمين ينتقدها خواص أهل العلم؛ لأنه ليس عندهم نشاط في الدعوة إلى توحيد الله وإنكار الشرك وإنكار البدع، ولهم أساليب خاصة ينقصها عدم النشاط في الدعوة إلى الله، وعدم التوجيه إلى العقيدة الصحيحة، التي عليها أهل السنة والجماعة”؛ أي إن نقده قاصر على الخلاف العقدي بين الإخوان والوهابية حصرا.
وقد تكرر الأمر نفسه في الفصل المخصص للإخوان ضمن “موسوعة المذاهب والأديان المعاصرة” الصادرة عن الندوة العالمية للشباب الإسلامي في السعودية، وقد ساقت بعض الانتقادات العقدية والمنهجية مع إشارة مبهمة إلى الانتقادات السياسية بدون الحديث عن انحراف أو تطرف، وكانت الموسوعة قد عرفت حركة الإخوان بأنها “إحدى الحركات الإسلامية المعاصرة، التي نادت بالرجوع إلى الإسلام، وإلى تطبيق الشريعة الإسلامية في واقع الحياة، وقد وقفت متصدية لسياسة فصل الدين عن الدولة، ومنابذة موجة المد العلماني في المنطقة العربية والعالم الإسلامي”.
توضح المواقف المرجعية الدينية السابقة موقفا مستوعبا للإخوان المسلمين من الناحية الدينية؛ بالرغم من بعض الانتقادات العقدية، التي وجهت لهم، وهو أمر يؤكد أن بيان هيئة كبار العلماء هو بيان سياسي، وإنما يعكس تبدلات الموقف السياسي للسلطة الحالية من الإخوان، ولا يعكس موقفا علميا أو دينيا.
وإذا كان بيان هيئة كبار العلماء يعبر عن موقف سياسي في صورة حجج وتعليلات دينية، وعن خضوع القرار الديني إلى الإرادة السياسية لولي الأمر، فإن الجدل الذي ثار حول لقاء ماكرون والشيخ راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة في تونس، يتصل أيضا بصورة أخرى من صور تدبير العلاقة بين الديني والسياسي، فالبيان الذي صدر بعد اللقاء اعتبر أن العلاقة بين فرنسا وتونس أعمق من أن يؤثر فيها مواقف “عابرة وهامشية”، وهو ما فهم أنه إشارة إلى مسألة الرسوم الكاريكاتيرية، وما نجم عنها من غضب ودعوة إلى مقاطعة البضائع الفرنسية. وبالرغم من أن الغنوشي اضطر إلى توضيح البيان الصادر عن المكتب الإعلامي عبر القول إن “العابر والهامشي” هو ما قام به شاب تونسي من عمل إجرامي؛ إلا أن السؤال يبقى مفتوحا عن شكل الرد السياسي الواجب من حركة سياسية ذات مرجعية إسلامية فيما يتعلق بمجمل الحدث الفرنسي من لحظة جريمة قتل المدرس الفرنسي، وترميز ماكرون للرسوم السيئة مرورا بالمقاطعة وصولا إلى الاعتداءات الإرهابية على الكنيسة الفرنسية وغيرها.
فلو نظرنا إلى أزمة الرسوم من منظور العلاقات بين الدول فلا شك أنها عابرة؛ لأن العلاقات الدولية لا تقوَّم بناء على مواقف جزئية وعابرة، وإنما توزن بمسار طويل ومواريث ثقافية وتاريخية وسياسية، فعمرها مديد وإن نغصت عليها بعض المواقف العارضة، ومن ثم فهي لا تقوّم بناء على مواقف انفعاليّة كتلك التي تنهجها الحركات الثورية أو الجماهير الغاضبة
فالسياق المأزوم، الذي وصفناه والحرب المعلنة على الإخوان المسلمين (وحركة النهضة جزء منهم)، ربما دفع الغنوشي إلى تغليب السياسي على الديني هنا، وممارسة العمل السياسي لا الدعوة الدينية أو الحركة الشعبية الاحتجاجية؛ لأن موقع الحركة والتحديات التي تواجهها لا تسمح بمثل ذلك؛ أي إن مصلحة الحركة تغلبت على مصلحة الدعوة هنا، كما أن مصلحة ولي الأمر فرضت على هيئة كبار العلماء أن تعيد تقييم موقفها من الإخوان المسلمين، وهو ما يعكس شكلين متنافرين من تدبير الشأن الديني في علاقته بالسياسي، ومن ثم يقع الطرفان في حالة عدم الاتساق؛ وهذا شأن المواقف السياسية المصلحية، التي لا تصدر عن أيديولوجيا صلبة ومتسقة، وإنما تصدر عن مصالح قاصرة على ولي الأمر أو سلطة أو حركة معينة، ومن ثم فستفتقر إلى الاتساق وستتحلى بالمرونة والتلون أيضا، بحسب تقديرها هي للمصالح في لحظة وسياق محددين.
فلو نظرنا إلى أزمة الرسوم من منظور العلاقات بين الدول فلا شك أنها عابرة؛ لأن العلاقات الدولية لا تقوَّم بناء على مواقف جزئية وعابرة، وإنما توزن بمسار طويل ومواريث ثقافية وتاريخية وسياسية، فعمرها مديد وإن نغصت عليها بعض المواقف العارضة، ومن ثم فهي لا تقوّم بناء على مواقف انفعاليّة كتلك التي تنهجها الحركات الثورية أو الجماهير الغاضبة، وعلى الجانب الآخر، فإن أزمة الرسوم ليست هامشية بالنسبة لفرنسا في الداخل، التي جعلت منها قضية مبدئية تتصل بقيمها وثقافتها من جهة، وبالانفصالية والإرهاب الإسلامي من جهة أخرى، وليست هامشية بالنسبة لعامة المسلمين؛ الذين أثارتهم هذه القضية وآلمتهم، ومن هنا وجد زعيم حركة النهضة نفسه في مأزق يتمثل في كيفية تدبير الديني والسياسي في حدث وسياق محددين يتسمان بمثل هذا التعقيد.
هذان الشكلان المختلفان من تدبير الديني والسياسي يغلبان السياسي على الديني، فهيئة كبار العلماء أعطت الأولوية لحفظ وحدة السلطة في السعودية -إن مشينا على ظاهر البيان-، وحركة النهضة غلّبت السياسي على الديني في مواقف عديدة منها أزمة الرسوم، وتحولت من كونها حركة ذات أيديولوجيا سياسية إلى حركة سياسية تمارس العمل السياسي من داخل جهاز الدولة؛ مما اضطرها إلى إجراء تعديلات على خطابها وممارستها وكيفية تدبيرها للديني والسياسي، ولكننا في الحالتين أمام هيمنة للسياسي على الديني؛ لأن السياسي يتطلب براغماتية عالية، ولهذا فهو يقع في تناقضات واختلافات عديدة، على خلاف الديني والأيديولوجي اللذين يتطلبان من أجل الإقناع والمقبولية الاتساق والحِجَاج.
إن تدبير الديني مع السياسي من منظور جماعات الإسلام السياسي، التي تلح على هذا الدمج بأي صورة كان، يفرض أمام هذه الممارسات التي شهدناها منذ ثورات الربيع العربي وحتى الآن معالجة أسئلة إشكالية تتصل بـ3 أمور مركزية هي:
الأول: البحث عن الفارق المؤثر أو وجه الاختلاف بين ممارسة السياسيين للسلطة والعمل السياسي، وممارسة الإسلاميين لهما في سياق الدولة القائمة، وفي عالم يتسم بمثل هذا التعقيد والصراع؛ لأن شرعية خطاب الإسلام السياسي إنما هي قائمة على اختلافه عن السلطات القائمة، وعلى مرجعيته الإسلامية المفترضة كذلك؛ لكن حين يحصل التشابه أو التطابق في ممارسة العمل السياسي، فإن الحركة الإسلامية أو الحزب الإسلامي المعين سيفقد أهم مكونات شرعيته، وهذا التطابق أو التشابه لا يبرره الخوض في الخطابات الاعتذارية والمصلحية المتلونة والتعلل بإكراهات السياق وغيره؛ لأن مثل هذه الإكراهات يمكن أن تقال في حق السلطات القائمة أصلا؛ إلا إذا كانت الشرعية ستتمحور حول أشخاص القائمين على العمل السياسي والسلطة فقط، وهذا سينقلنا إلى إشكال آخر يتمثل في شخصنة العمل السياسي، وأن المسألة برمتها هي في طلب تغيير أشخاص الفاعلين والحاكمين لا في تغيير المضمون.
الثاني: وِزَان الدين والدولة في تصور الحركات الإسلامية، خصوصا أن الإسلام السياسي قام على أيديولوجيا صلبة ترى أن الإسلام دين ودولة، وأن من لا يؤمن بأن الإسلام دين ودولة فإيمانه منقوص، وقد شكل هذا معينا ثوريا هائلا هانت في سبيله النفوس والسجون وكل المحن، التي واجهها معتنقو هذه الفكرة من قبل الأنظمة القمعية، وفي المقابل شكلت هذه الصلابة محكا مهما أدى ببعض شباب الربيع العربي إلى الخروج من المنظومة الدينية كليا.
هذه الموازين المطلوب بحثها، يجب أن تحدد وزن “الدولة” بالنسبة “للدين” في منظور حركات الإسلام السياسي، خصوصا أنها زعمت في أدبياتها حاكمية الدين على الدولة، فنحن نعرف الآن وزن الدين بالنسبة للدولة القائمة ولمشايخ السلطة، الذين يجعلون من الدين مجرد أداة لمصالحهم السياسية وطموحاتهم الشخصية؛ لكن أي تشابه -في هذا الشأن- بين حَمَلة خطاب الإسلام السياسي ومشايخ السلطة سيُفقدهم شرعيتهم الدينية مجددا.
الثالث: الموازين الحاكمة للمصالح، وتحديد ما هو خاص وما هو عام، وما مصلحته متعدية وما مصلحته قاصرة على فئة أو مجموعة أو جماعة أو تنظيم، ما مصلحته في حفظ الدين وما مصلحته تتمثل في حفظ السلطة والبقاء فيها، فانخراط بعض الإسلاميين في المنطق النفعي المحض، ولو كان سقفه مصلحة أشخاص أو جماعة أو تنظيم، لا يفقده الشرعية الفقهية والسياسية فقط؛ بل يُفقده كذلك الشرعية الأخلاقية أيضا؛ لأنه حتى مع الفلسفة النفعية المعتدلة فإن أخلاقية الفعل معيارها تحقيق أعظم مصلحة لأكبر قدر من الناس، ثم إن تطبيق هذه النفعية أدى بتشكيلات الإخوان المسلمين في كل بلد إلى أن تتخذ مواقف مخالفة لأخواتها في البلدان الأخرى؛ تغليبا لرعاية المصالح الحزبية والقطرية، التي تقاصرت عن مصالح التنظيم الدولي نفسه، ومن ثم فإن التنافر الذي تقع فيه السعودية -مثلا- حين تصنف الإخوان جماعة إرهابية؛ بالرغم من أنهم جزء من السلطة في المغرب والكويت والأردن مثلا، يقابله كذلك تنافر المواقف السياسية بين التشكيلات الإخوانية المختلفة في البلدان العربية، ومواقفها من الأنظمة ومن إيران وغيرها؛ أي إننا مجددا أمام اعتبارات سياسية نفعية، لا يطلب فيها الاتساق أصلا؛ لأن الاتساق من شأن الخطابات المعرفية والأخلاقية المبدئية، وهذه التشكيلات لا تقدم شيئا من ذلك، وهو ما سيعيدنا مجددا إلى السؤال الكبير، الذي يدور حوله هذا المقال، وهو كيفية تدبير الديني والسياسي في ظل الدولة القائمة، والذي يهمين عليه -كما هو واضح- مقاربتان: مقاربة غربية ثقافية تحيل مشكلة الانفصالية الإسلامية إلى جذور ثقافية كامنة في الثقافة العربية والإسلامية نفسها، ومقاربة نفعية تهيمن على الأنظمة العربية الحاكمة وعلى جماعات الإسلام السياسي نفسها، وهي تفتقر إلى المبدئية والاتساق؛ لأنها نفعية.
(المصدر: الجزيرة)