“الإحسان”.. فريضة قرآنية ومنظومة عقيدة ومجتمع متكاملة
بقلم أحمد التلاوي
من بين المفاهيم الخاطئة المترسخة في ذهنية المسلمين، أن “الإحسان” كخُلُقٍ وسلوكٍ، إنما هو من فضائل الأخلاق، أو من المروءة والرقائق، أو أنه مرتبةٌ من الإيمان قد لا تُدرَك من المسلم العادي، بينما هو أمرٌ على أكبر جانب من الأهمية في عقيدة المسلمين، وفي توجيه سعيهم في مختلف الاتجاهات.
ويعود ذلك القصور إلى أمرَيْن؛ الأول هو تأثير كتب التراث الإسلامي لكبار المفكرين والفقهاء المسلمين، بالذات السلفيين المتأخرين، والتي تناولت “الإحسان” كمرتبة من مراتب الإيمان للصفوة، وبنظرة أقرب إلى نظرات الصوفيين في هذه المسائل.
الأمر الثاني، هو إهمال عموم المسلمين ممَّن لم يتلقوا تعليمًا دينيًّا صحيحًا، واكتفوا بالتعليم المدني المعتاد في المدارس العادية، لعلوم تفسير القرآن الكريم، والتي تعطي عن “الإحسان” صورة أوسع وأشمل من المفاهيم ذات الطابع المعنوي والرُّوحي الذي كرَّسته قرون من الكتابة والتنظير حوله.
وفي هذا الصدد؛ ثَمَّة ملاحظة عامة، تتعلق بواجب عملي مهم لكل مسلم، وهو أنه عندما يستقبل مصطلحًا أو قيمة ما؛ فإنه لفهم معناها؛ عليه أن يبحث عن معناها وجوانبها التطبيقية في القرآن الكريم، وفي السُّنَّة النبوية الشريفة، بما فيها السيرة النبوية.
وسريعًا في تحرير المفهوم، وفق الكتاب والسُّنَّة، وهي نقطة لن نُستغرَق فيها كثيرًا لأنها تملأ الكتب، فإن “الإحسان” لغةً؛ يعني أن الإنسان قد أتى بفعلٍ مستحسنٍ، أي مقبول، أو جيد، أو فيه خير، وهو بالتالي، وفق عملية التعريف بالأضداد؛ فإن “الإحسان” هو ضد “الإساءة”.
أما في الاصطلاح الشرعي، فإن “الإحسان” يعني عبادة الله تعالى كأنك تراه؛ حيث إن لم يكن المرء يرى الله تعالى؛ فإن الله سبحانه يراه، وهو تعريف ورد في صحيح “مسلم” وصحيح “ابن ماجه”، عن النبي “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، أنه قال إن “الإحسان” هو “أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.
“الإحسان” يعني عبادة الله تعالى كأنك تراه؛ حيث إن لم يكن المرء يرى الله تعالى؛ فإن الله سبحانه يراه
وفي أقوال فقهاء ومفكري المسلمين؛ فإن “الإحسان” في المجال المعنوي والرُّوحي، أو العَقَدي، هو مرتبة من مراتب الدين، وهي الثالثة بعد الإسلام، ثم الإيمان، وفي المجال التطبيقي، يعني إتقان العمل، والوفاء بحقوق الخالق والمخلوقين.
ولكن أمر الإحسان أعمق وأشمل بكثير من المفاهيم الشائعة عنه لدى عوام المسلمين؛ حيث إنه، ومن خلال البحث في القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية؛ فإننا سوف نجد أن “الإحسان” هو عبارة عن منظومة واسعة من الإيمانيات والخُلُق والسلوكيات، هي من أهم ما يكون لضمان استقرار العقيدة في النفس، واستقرار المجتمع من خلال ما يتضمنه “الإحسان” من منظومات أخلاقية وسلوكية في التعامل بين الناس.
ومن بين مظاهر ذلك، قوله تعالى في سُورة “القَصَص”، مخاطبًا رسوله الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”: “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)”.
فهذه الآية على عدد كلماتها المحدود، إلا أنها تحتوي على الكثير من المعاني في صدد موضوع “الإحسان”.
فهنا، “الإحسان” فريضة على المسلم، وليس من نافل القول أو المروءة أو مكارم الأخلاق ؛ حيث الآية واضحة؛ ففيها أمرٌ من الله تعالى لرسوله “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، بالإحسان، ضمن أوامر أخرى فيما يخص معالي الأمور، مثل ابتغاء الآخرة، وعدم التشدد فيما أحلَّه اللهُ تعالى للناس في الدنيا، وعدم الإفساد في الأرض، وبالتالي؛ فكلها، بما فيها “الإحسان”، أمرٌ لعموم المسلمين.
الأمر الثاني في الآية، أن “الإحسان” في صوره المتربطة بسعي الإنسان وعمله، لا يقف على حالة الأسباب، أو على حالة الناس؛ فإن أساؤوا؛ أساء إليهم، وإن أحسنوا؛ أحسن معهم؛ حيث إن مصدر السلوك الحَسِن المطلوب من الإنسان المسلم، إحسان الله تعالى إليه.
فأنت عندما تحسِن إلى الناس، وفي عملك مع ربِّ الناس؛ فإن في النهاية تعمل بأمر ربِّك، وفي إطار ما مَنَّ اللهُ تعالى عليك به.
عندما تحسِن إلى الناس، وفي عملك مع ربِّ الناس؛ فإن في النهاية تعمل بأمر ربِّك، وفي إطار ما مَنَّ اللهُ تعالى عليك به
وهو أمرٌ حتى كان واضحًا في التناول القرآني لحديث الإفك، عندما همَّ أبو بكرٍ الصديق (رضي الله عنه) بمنع ما كان ينفقه على مسطح بن أُثاثة، والذي كان أحد الذين جُلِدُوا في حادثة الإفك، فنزل قوله تعالى: “وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” [سُورة “النور” – الآية 22].
الجانب الثالث في آية “القَصَص”، هو أن “الإحسان”، قد جاء صنو الأمور الأهم التي يجب أن يسيِّر الإنسان المسلم نفسه فيها في الحياة الدنيا، وهي العمل لأجل الآخرة، بكل ما يتضمنه ذلك من عبادات وأمور أخرى كثيرة، وعدم الإفساد في الأرض، وما اتصل بذلك.
فـ”الإحسان” – إذًا – هو أمرٌ مهم، ويتصل بمفاصل مركزية في سعي الإنسان وعمله في الدنيا.
ومن أدلَّة ذلك في القرآن الكريم، أنه قد قرن “الإحسان” بالعديد من الأمور هي الأهم الأمور في الإسلام، مثل العدل والجهاد وصلة الرَّحم، فالله تعالى يقول: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” [سُورة “النحل” – الآية 90]، ويقول عز وجل: “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ” [سُورة “العنكبوت” – الآية 69].
ومما يدل كذلك على أن “الإحسان” هو منظومة عمل وفعلٍ شاملة، تتحقق معها مقاصد الشريعة، وأمن واستقرار المجتمعات متى تم تطبيقها. وقول الرسول الكريم “عليه الصلاة والسلام”: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء”، هي مقولة من الحديث السابع عشر من الأربعين النووية، وأخرجه مسلمٌ في الصحيح.
“الإحسان” هو منظومة عمل وفعلٍ شاملة، تتحقق معها مقاصد الشريعة، وأمن واستقرار المجتمعات متى تم تطبيقها
فينصلح حال المجتمعات بكل تأكيد، وتزداد ترابطًا لو أصلح الإنسان عمله، وأحسن فيه، في كل الاتجاهات، في الصناعة وفي الزراعة، في التعامل مع الناس، وفي صلة الرَّحِم، وفي التربية، ولو أحسن كل مسؤول في منصبه لعلمه وصولاً إلى ذروة سنام الإسلام؛ الجهاد، كما وصفه المصطفى “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”.
إن البحث في باب “الإحسان” وصوره، ونواحيه التطبيقية، يستغرق الكثير والكثير، لأنه مرتبط في الأصل بجذر هذا الدين الأهم، وهو الأخلاق، التي بُعِث محمدٌ “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم” في الأصل لإتمام مكارمها، فالأخلاق هي أمور وقيم توقر في ضمير الإنسان، وتحرِّك سلوكه بالتالي.
وبالتالي؛ فإن هناك واجبات على دعاتنا وتربويينا في مختلف المحاضن الإسلامية؛ أن تقوم بكتابة سلسلةٍ من الأوراق والرسائل، تخاطب بها عموم المسلمين، وخصوصًا الذين لا يتلقون تعليمًا دينيًّا، أو يتواجدون في بيئات غير سوية من ناحية الأخلاق والإعلام وكذا، من أجل توضيح هذه المفاهيم الواسعة المرتبطة بـ”الإحسان”، واعتباره قيمًا وسلوكيات وأخلاقيات، والتأكيد من الأصل على أن “الإحسان” هو فريضة من الله تعالى، وبالتالي؛ فمن دونه لا تستقيم حياتنا على الأرض.
(المصدر: موقع بصائر)