الإبراهيميَّة: أحدث حيل نشْر الدّين العالمي الجديد 6 من 7
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
3 تحريف العقيدة تحت ستار تحقيق التَّنمية المستدامة
يتناول “هاوستين” و” تومالين” (2019) دور الدّين المحوري في تقديم الخدمات للدُّول الَّتي تتلقَّى المساعدات الإنمائيَّة الرسميَّة، معتبرين أنَّ دور الجماعات والجهات الفاعلة الإيمانيَّة لا غنى عنه لتحقيق التَّنمية المستدامة. وبرغم تعطُّل مساعي تلك الجماعات والجهات في النّصف الثَّاني من القرن العشرين بسبب موجة التَّغيير الاجتماعي العلماني الحداثي، لم تتوقف تلك المساعي، وقد ازدادت زخمًا في الآونة الأخيرة بعد التَّيقُّن التَّام من أهميَّة الدّبلوماسيَّة الرَّوحيَّة في العمل الاجتماعي. ويوصي البحث، الَّذي موَّله مجلس أبحاث الآداب والعلوم الإنسانيَّة البريطاني (AHRC)، باعتبار الجهات الفاعلة الإيمانيَّة شركاء في التَّنمية، وليس فقط أصواتًا دينيَّة؛ وبرفع مستوى الوعي الدّيني لموظفي الحكومات والمنظَّمات غير الحكوميَّة، ليس فقط بتاريخ ديانات العالم الأخرى وتعاليمها وممارساتها، إنَّما كذلك بكيفيَّة توظيف الدّين في مختلف المواقف. ويرى الباحث أنَّ التَّوتُّرات القائمة بين القيم الدّينيَّة وأهداف التَّنمية المستدامة يمكن معالجتها بواسطة القادة الرَّوحيين، بعد إيجاد طُرق مناسبة للمعالجة تتَّفق مع الدّين. يترتَّب على ذلك ضرورة الاستماع إلى آراء القادة الرَّوحيين والاستفادة منها عند اشتراكهم في الأعمال التَّنمويَّة مع موظّفي المنظَّمات المعنيَّة. ويوصي الباحثان بمزيد من الاستثمار في نشْر الوعي بأهداف التَّنمية المستدامة لدى القادة الرَّوحيين لتأهيلهم للمشاركة في الحوار الدَّولي وفي تعبئة الموارد المحليَّة.
أمَّا عن أنواع الجهات الفاعلة الإيمانيَّة (Faith actors)، فيوضح “هاوستين” و”تومالين” (2019) أنَّها تشكّل فئة واسعة النّطاق تتجاوز تأثيراتها حدود المنظَّمات المبنيَّة على الإيمان، ويتبلور دورها في عالم التَّنمية في الجنوب العالمي (Global South)؛ ويُقصد به الدُّول النَّامية في نصف الكرة الأرضيَّة الجنوبي، الَّتي رزحت لعقود طويلة تحت وطأة الاستعمار، واليوم تُستخدم القوَّة النَّاعمة للدّبلوماسيَّة الرَّوحيَّة في غزوها فكريًّا تحت زعْم إجراء أعمال تنمويَّة. ومن الملفت أنَّ أعمال القادة الرَّوحيين التَّابعين للمجتمعات الإيمانيَّة دائمًا ما تكون بإشراف من الأمم المتَّحدة. ومن أنواع الجهات الفاعلة الإيمانيَّة المنظَّمات الدُّوليَّة الرَّسميَّة المبنيَّة على الإيمان، مثل رابطة المعونة المسيحيَّة ومنظَّمة الإغاثة الإسلاميَّة؛ ومنها الهيئات الدُّوليَّة المختصَّة، مثل الاتحاد الأنغليكاني والفاتيكان والمجلس العالمي للكنائس؛ ومنها أيضًا مجالس بين دينيَّة تعمل في نطاق محلّي أو إقليمي، وتدخل في شراكات مع الجهات الحكوميَّة الرَّسميَّة، وترتبط أعمالها بالأمم المتَّحدة وغيرها من المنظَّمات الدُّوليَّة من خلال مشاركتها في الشَّبكة الدّينيَّة الدُّوليَّة. ومن بين المنظَّمات الدّينيَّة الَّتي تعمل تحت إشراف الأمم المتَّحدة مؤسَّسات إنسانيَّة وتنمويَّة تعمل في نطاق محدود، مثل مجالس الأبرشيَّة المسيحيَّة ولجان جمْع الزَّكاة والتَّبرُّعات. ويقرُّ “هاوستين” و”تومالين” (2019) بأنَّ العامَّة في الجنوب العالمي يبجّلون رجال الدّين ويمنحونهم الثّقة؛ ومن ثمَّ، فمن المنصوح به مشاركة القادة الرَّوحيين في وضْع السّياسات العامَّة، ممَّا ينعكس بالإيجاب على أهداف التَّنمية المستدامة وغير ذلك من القيم التَّنمويَّة. ويُنصح في السّياق ذاته باستغلال دور العبادة والتَّجمُّعات الدّينيَّة في تدعيم العمل الإنساني والتَّنموي على المستوى المحلّي.
تشير “كرم” (2016) إلى إنَّ دراسة أجرتها الوكالة الأمريكيَّة للتَّنميَّة الدُّوليَّة (USAID) بالاشتراك مع مؤسَّسة CapacityPlus لتقديم الخدمات الصّحيَّة، أثبتت أنَّ في الكثير من الدُّول الإفريقيَّة، تقدّم المنظَّمات الدّينيَّة ما بين 30 و70 بالمائة من خدمات الرّعاية الصّحيَّة. علاوة على ذلك، تقدّم تلك المنظَّمات خدمات في مناطق نائية يصعب على الحكومات إرسال العاملين في قطاع الصّحَّة إليها. وقد أوضحت نتائج استقصاء عشوائي أُجري في إحدى الوحدات التَّابعة لإحدى وكالات الأمم المتَّحدة الإنمائيَّة، أنَّ 25 بالمائة من العاملين بها زاروا بعض دور العبادة والمراكز الدّينيَّة، إمَّا بغرض العلاج، أو الدّراسة، أو العبادة، أو الحصول على دعْم نفسي أو اجتماعي، أو الزَّواج. يعكس ذلك حقيقة أنَّ للمؤسَّسات الدّينيَّة، والقادة الرَّوحيين، ومانحي الخدمات الدّينيَّة المجتمعيَّة دورًا محوريًّا في شتَّى المجتمعات. وقد اعترف “بان كي مون”، الأمين العام للأمم المتَّحدة، بأنَّ “للمنظَّمات الدّينيَّة المبنيَّة على الإيمان دورًا حاسمًا في تدعيم التَّفاهم المتبادَل وتعزيز توافُق الآراء بشأن التَّطلُّعات والقيم المشترَكة” (UN news، 16 يوليو 2008).
يتَّضح ممَّا سبق إيمان الأمم المتَّحدة بفعاليَّة دور المنظَّمات الدّينيَّة في تنفيذ أهدافها فيما يتعلَّق بملفَّات التَّنمية المستدامة، والأمن والسَّلام، وحقوق الإنسان. وقد أصبح صندوق الأمم المتَّحدة للسُّكَّان عام 2007م أوَّل وكالة إنمائيَّة تتبع المنظَّمة العالميَّة تتعاون مع المنظَّمات الدّينيَّة؛ وإن كان تعاوُن الصُّندوق مع تلك المنظَّمات قد بدأ فعليًّا منذ سبعينات القرن الماضي، عند تأسيس مركز الدّراسات السُّكَّانيَّة في العاصمة المصريَّة، القاهرة، وتحديدًا في جامعة الأزهر، أكبر وأقدم جامعة إسلاميَّة سنّيَّة في العالم. وعند تأسيس فرقة العمل المشترَكة بين الوكالات للأمم المتَّحدة المعنيَّة بالدّين والتَّنمية عام 2010م، استفاد الصُّندوق من خبراته السَّابقة في المجال الدّيني في التَّنسيق بين الوكالات عند تقسيم الأنشطة، كما تذكر “كرم” (2016). وتركّز اجتماعات “التَّمويل من أجل التَّنمية”، الَّتي يعقدها البنك الدُّولي التَّابع للأمم المتَّحدة، على العلاقة بين الدّين ومحو الفقر.
برعاية البنك الدُّولي وبمشاركة الحكومة الألمانيَّة، عُقد اجتماع في يوليو 2015م في مدينة نيويورك الأمريكيَّة، يضمُّ المانحين والأمم المتَّحدة والمنظَّمات الدّينيَّة لمناقشة التَّحديات والفرص الَّتي ترتبط بعلاقة الدّين بملفَّات ثلاثة من بين أهداف التَّنمية المستدامة، هي الحُكم وتأسيس الدّيموقراطيَّة، وتمكين المرأة، والأمن والسَّلام. شارك في الاجتماع ثلاثة من القادة الرَّوحيين، هم الحاخام “ديفيد سابيرستين”، سفير أمريكا فوق العادة للحريَّة الدّينيَّة الدُّوليَّة؛ والدُّكتور “محمَّد عشماوي”، المدير التَّنفيذي حينها لمنظَّمة الإغاثة الإسلاميَّة العالميَّة؛ و “بيرتون فيسوتسكي”، الأستاذ في المنتدى اللاهوتي اليهودي. أوصى “سابيرستين” في كلمته بضرورة تكاتُف القادة الرَّوحيين مع الجهات الحكوميَّة من أجل إيجاد بيئة مناسبة للتَّنمية المستدامة، مشدّدًا على أهميَّة تعاوُن الطَّرفين لنزْع الشَّرعيَّة عن الجماعات المتطرّفة، ومناديًا بتكريس الحريَّة الدّينيَّة؛ لأنَّها تحدُّ من العنف الدّيني وتقاوم الفساد. في حين أشار “عشماوي” إلى أنَّ المنظَّمات الدّينيَّة سبقت العلمانيَّة في تقديم الخدمات للشُّعوب، قبل أن تصبح تلك مهمَّة الحكومات، معتبرًا أنَّ من أسباب عدم القضاء على الفقر والجوع والأميَّة عدم التَّعاون مع المنظَّمات الدّينيَّة وعدم إشراكها في صُنْع القرارات، ومضيفًا أنَّ الكتب المقدَّسة لدى المسلمين والمسيحيين واليهود تحضُّ على الإحسان إلى الجار، دون تحديد ديانته. أمَّا “فيسوتسكي”، فاستهلَّ حديثه بالإشارة إلى أنَّ مساعدة المعوزين من تعاليم التَّوراة، وأكدَّ على توافُق الأهداف الإنمائيَّة للألفيَّة مع قيم اليهوديَّة الأمريكيَّة، وهي أهداف أعلنت عنها الأمم المتَّحدة لمحاربة الفقر والجوع والمرض والتَّمييز النَّوعي؛ وعلى التزام اليهود بالمشاركة في تحقيق أهداف التَّنمية المستدامة.
المصدر: رسالة بوست