الأيام العشر وفرصة التجرد والنقاء
بقلم يسري المصري
هاهي الأيام تمر سريعاً لتأتي أعظم أيام الدنيا بما فيها من نفحات وبركات ورضا من الله تعالى، كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: (ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله من هذه الأيام) -أي الأيام العشر من ذي الحجة- قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بماله ونفسه فلم يرجع من ذلك بشيء) (رواه البخاري)، والمعنى واضح، والنبي صلى الله عليه وسلم يقصده، فليس هناك أعظم من الجهاد، فهو ذروة سنام الدين، لكن قدّم الله بركة هذه الأيام عليه؛ تعظيماً وتشريفاً لها، لذلك فهي أيام قليلة تنقِّي النفوس من الأهواء وحظوظها.
والأيام العشر ليست بالأيام العادية التي نحيا فيها، نأكل، ونشرب، ونتزاور، ونتصدق، ونصل أرحامنا، والمقصد هنا ليس في ذات الأجر، بل أعظم وأعظم.
ولما كانت هذه النفحات تعلي من رصيد المرء إيمانياً، وسلوكياً وتربوياً، كان بلا شك فرصة قوية لإزالة الأرجاس والوساوس من النفوس والعقول، وعليه فإن هذه الأيام فرصة ذهبية للتجرد الصادق في الطاعة، وللنقاء والصفاء في الحياة بلا تجمّل أو زيف.
إن هذه الأيام فرصة ذهبية للتجرد الصادق في الطاعة، وللنقاء والصفاء في الحياة بلا تجمّل أو زيف
إن البشريات الربانية في هذه الأيام أكبر من أن تحصى، وأعظم من أن تترك، فالكَيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، وليس هناك أعظم من أعمال الخير من هذه الأيام، فالصدقة خير، والبر خير، والتبسم خير، والاستغفار خير، والقرآن خير، وصلة الأرحام خير، وكل هذه الأعمال هي من صلاح الدين والدنيا والعباد، ومن ثم فأجرها عظيم، وياحسرتى على نفس اتبعت الهوى والشيطان، وذلت أقدامها في براثن المعاصي، فنسيت فضل الطاعات، وأعلنت الخصومة مع الله في هذه الأيام الصالحة، وهو الذي يريد لنا التوبة، {والله يريد أن يتوب عليكم} [سورة النساء، الآية: 27].
إن النقاء والتجرد ليس كلمات براقة، لكنها قيم ومعان صادقة تتجلى في خُلق المرء، سواء في حياته أو بعد موته، فالبعض يخلّد ذكره بعد رحيله عن الدنيا، ويوصف بأنه كان متجرداً لدعوته ولدينه، وهذا عمر إضافي للمرء، فذكره بعد الموت عمر ثان.
والسؤال الآن: كيف نربي أنفسنا على قيم التجرد والنقاء في هذه الأيام؟ والجواب في عدة أمور:
أولاً- صدق النية:
إن النية هي ميزان قبول العمل، فكم من عمل حقير تعظمه نيته! وكم من عمل عظيم تحقّره نيته! لذلك فصدق النية في الطاعة، وجعلها خالصة متجردة، تثقلها وتزينها بالقبول والإخلاص مع الأخذ في الاعتبار الإلحاح بالدعاء؛ لجعل النية صادقة؛ لأن الله يحول بين العبد وقلبه، ولا تدري ربما يزيّن لك الشيطان أنك مخلص، وأنت في ذاتك تشعر بالرياء، لذلك فالحل هو الدعاء لله بنية صادقة أن يقبل منك عملك.
ثانياً- العبادة بإخلاص:
إن شرط قبول العبادات عموماً والصلاة خصوصاً، هو التجرُّد من كل الأهواء، ونحن نعلن ذلك ببدء الصلاة قائلين: “الله أكبر”، أي: أكبر من كل شيء.
كذلك الزكاة والصيام، يجب أن تكون خالصة لله متجردة من الثناء والمدح، أو انتظار المرء وترقبه لمدح الناس له، فتلك مهلكة عظيمة تبطل العمل، وتذهب الأجر أدراج رياح الرياء والسمعة، وعليه فإن الإتقان والإخلاص يساعدان المسلم على جعل التجرّد واقعاً في حياته، يلمسه في طاعاته وعبادته، وعلاقته بربه في محرابه.
ثالثاً- حسن السريرة:
إن العباد أمام بعضهم يتجملون في الدنيا، فلا تعرف النقي من المتجمل، ولا الصادق من الكاذب، خصوصاً هذه الأيام التي تحمل فتناً كقطع الليل المظلم، يمسي الرجل مؤمناً، ويصبح كافراً، ويمسي كافراً، ويصبح مؤمناً، لذلك فحسن سريرة المرء مع ربه في خلواته من عوامل اكتساب صفات النقاء والتجرد الصادق لله ورسوله.
وقديماً قالوا: “من أصلح سريرته، فاح عبير فهمه”، والأمة اليوم أحوج ما تكون لتلك الفئة المخلصة مع ربها في خلواتها؛ حتى يفتح الله لها قلوب العباد.
رابعاً- كثرة الصيام:
إن الصيام -عموماً- في الأيام العادية يجعل النفس ضعيفة متجردة من الشهوات، نقية من الرجس والذنب، كلماتها ذكر، وصمتها تفكر، وصلاتها خشوع، وليس هناك أجمل من ذلك، هذا في الأيام العادية، فما بالنا بالأيام العشرة التي أقسم الله بها في قرآنه.
يقيناً سيكون أشد تجرداً ونقاء، وبيعة له على السعي نحو مزيد من الطاعات، والدعاء أن يكسبها القبول والإخلاص، ويبعد عنه كل حظ للنفس، أو وساوس للشيطان؛ ليكون الأجر أعلى، والجزاء أعظم، فمن أصدق من الله قيلاً! لا أحد.
خامساً- حفظ اللسان:
إن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وقيل من سلم الناس عموماً، لذلك كان التأكيد من النبي صلى الله وعليه وسلم بأهمية حفظ اللسان، بل نفي الإسلام عن البعض، فقال عليه الصلاة والسلام: (لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلا بِاللَّعَّانِ، وَلا بِالْفَاحِشِ، وَلا بِالْبَذِيءِ) (رواه أحمد وغيره)، بل عندما قال له سيدنا معاذ رضي الله عنه: “أنحن مؤاخذون بما نقول يارسول الله؟” غضب النبي وشدّد على معاذ وقال: (ثكلتك أمك يامعاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم) (رواه الترمذي وغيره).
إن المسلم المتجرد لله ورسوله، والصادق في بيعته لربه، والعامل على نشر الخير بين العباد، عليه أن يحفظ لسانه حتى يكون نقياً كروحه التي بين جنبيه، وما نقاء اللسان من فحش القول إلا ترجمة لصاحب خلق رفيع، وقيم تربوية صحيحة، ومسار أصح إلى الله تعالى.
إن المسلم المتجرد لله ورسوله، والصادق في بيعته لربه، والعامل على نشر الخير بين العباد، عليه أن يحفظ لسانه حتى يكون نقياً كروحه التي بين جنبيه
سادساً- صدقة السر:
إن من أعظم الأعمال هي الصدقة، فهي تضاف للمرء في حياته وحتى بعد مماته، ففي الحديث الشريف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، وذكر صدقة جارية) (رواه مسلم)، فهي رصيد للمرء بعد رحيله عن الدنيا، فلا يتوقف عمله طالما كانت الصدقة جارية، بل إن المرء يتمنى العودة للدنيا بعد موته؛ ليتصدق كما قال الله في كتابه الكريم: {وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين* ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون} [سورة المنافقون، آية11].
لذلك فالصدقة كنز عظيم حقيق أن يستغله المرء وهو حي، فكما يقال: “كل الأعمال تذهب عن القبر إلا الصدقة، فهي تذهب إليه”، والمعنى واضح.
وصاحب الرسالة الساعي في جعل نفسه متجردة نقية، عليه أن ينفق مما يحب، فالله عز وجلّ قال: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [سورة آل عمران،الآية:92].
ختاماً، أخي الحبيب، هذه أيام مباركة، فالرابح فيها من أكرمها وتعرض لها، فهي نفحات عظيمة يجود بها ربنا على عباده، فالمجد كل المجد لمن فطن حقيقة الدنيا فاكتسب كل دقيقة فيها في الطاعات، وحسن التجرد، والنقاء لله في العبادة بلا تجمل أو خداع أو زيف، بل بتذلل وخشوع لله، والخاسر من أتبع نفسه هواه، وتمنى على الله الأماني، وعاش هذه العشر كغيرها من الأيام.
(المصدر: موقع بصائر)