الأويغور .. التاريخ المجهول
قراءة مصطفى عاشور
“الموت يبدأ بالذاكرة”.. والإجبار على الصمت أحد وسائل قتلها، فالذاكرة أنشودة النصر وحكاية الألم، هي من تصنع الهوية، وتصوغ الشخصية، وتضع المعايير، والمنتصر يعمل دوما على محو ذاكرة المهزومين، حتى لا تبقى في داخلهم طاقة للمقاومة أو رغبة في الحياة، وإحياءها هو جزء من المقاومة.
ويأتي كتاب “الأويغور: تاريخ الأتراك في آسيا الوسطى وحضارتهم” تأليف “تورغون آلماس“[1] والذي تُرجم للعربية تحت إشراف الدكتورة نادية مخلوف، والصادر عام 2018، عن دار “تكلماكان الأويغوري” في أسطنبول بتركيا في 480 صفحة، في طبعته الأولى، كخطوة لإحياء ذاكرة الشعب “الأويغوري” المسلم الذي تسعى الصين لوأد ذاكرته، والكاتب تحمل ضريبة ذلك الإحياء المجيد، فتعرض للسجن على مدار سنوات طويلة، وصادرت الصين مؤلفاته بعد إصداره لهذا الكتاب الذي اعتمد فيه على مصادر صينية وتركية وروسية وغربية، واستغرق تأليفه حوالي 12 عاما في الفترة من 1980 حتى 1992م.
الكتاب ينسج للذاكرة تفاصيلها عبر استدعاء التاريخ الطويل للشعب الأويغوري، الذي يعني بلغتهم الوحدة والتضامن، وهي رواية ترفضها الصين، وتجبر من يسردها على الصمت، فالأويغور لهم تاريخ طويل في تركستان الشرقية[2]، والتي تحتلها الصين حاليا، وكانت لهم ممالك وإمارات لعبت أدوارا تاريخية في منطقة آسيا الوسطى على مدار مئات السنين، ويؤكد الكتاب استنادا للوثائق التاريخية أن الأطماع الصينية في منطقة تركستان الشرقية قديمة تقترب من الألف عام، منذ بدايات احتكاك الأويغور بالصين.
الأويغور قبل الإسلام
عاش الأويغور في آسيا الوسطى، وأقاموا دولا قوية امتدت من تاريخ ما قبل الميلاد حتى القرن السابع عشر الميلادي، وكانت ديانتهم هي الشامانية التي تؤمن بآلهة الشمس، لذا كانوا يجعلون فتحات خيمهم صوب الشمس، وكان ينحنون للشمس تسع مرات في اليوم، وكانت الشامانية هي الدين الرئيس بين الأتراك حتى القرن التاسع الميلادي، غير أن الأويغور الذين يعيشون في الشرق في منغوليا وما حولها تخلوا عن الشامانية واعتنقوا المانوية في القرن الثامن الميلادي، أما الأويغور الذين كانوا يعيشون حول وادي نهر “تاريم” فقد تحولوا إلى البوذية منذ القرن الأول الميلادي، وعمل الأويغور بالزراعة والرعي، وكانوا بارعين في تربية الخيول، حيث استوطنوا المناطق القريبة من حوضي نهر “جونغار” و”تاريم”، ثم توحدت قبائل الأويغور في دولة في القرن الخامس الميلادي.
كان للفرسان مكانهم لدى الأويغور، وفي الفترة (630م حتى 670م) كان في سهول الأويغور أكثر من سبعمائة ألف جواد، واستمر الأويغور يمدون الصين بالخيول على مدار مائة عام، ووصلت تلك التجارة ذروتها في عام 872م، عندما باع الأويغور حوالي مائة ألف جواد إلى الصين، في مقابل الحصول على أربعة مليون طومار من الحرير، غير أن علاقاتهم التجارية مع الصين كانت محل اضطراب متكرر.
وقد لعب الأويغور دورا مهما في تأسيس سلطنة “الكوك تورك” والارتقاء بها، كما أنهم لعبوا دورا في تقويضها وانهيارها بعد ذلك، تلك الدولة التي نشأت عام 552م وانتهت عام 745م على يد الأويغور، بعدما ضمتها سلطنة “أورخون” الأيغورية التي تأسست عام 646م ، وبلغت أوج قوتها بين أعوام (742-747م)، تحت زعامة قبيلة “الياغلاقار” الأويغورية الشرقية.
يشير الكتاب أن الفترة التي سبقت حضور الإسلام إلى آسيا الوسطى كانت الصين تتغلب في أغلب الأحيان على الأتراك في حروبها ضدهم، وترجع اسباب ذلك إلى تفرق الأتراك وانقسامهم، فقد انقسمت مملكة “الكوك تورك” إلى قسمين شرقي وغربي عام 600 م، كما أن الصين كانت تلجأ إلى حلول غير عسكرية في مواجهة الأتراك للايقاع بهم وإضعافهم، فغذت الخلافات، وسعت لإبادة الأتراك بالأتراك أنفسهم، رغم أن الجنس الأويغوري كان الأكثر قوة وجرأة في القتال بين الشعوب التركية.
وتعرضت سلطنة “أورخون” الأيغورية لحروب انتهت عام 840م بقتل سلطانها “كيجيك تكين” ونهب عاصمته وتزامن مع ذلك تفشي الأوبئة وموجات الصقيع ، فكانت محنة كبيرة هاجر بعدها قسم كبير من أويغور الشرق إلى الغرب، وسعى هؤلاء الفارين بقيادة “بان تكين”إلى إعادة تأسيس سلطنة للأويغور من جديد، وقامت قبيلة “ياغما” التي تعد من أشد القبائل الأويغورية بتأسيس دولة “القراخانية”.
اتخذ القبائل لنفسها اسم “أويغور” وهو ما يؤشر على الوحدة العرقية والسياسية لهذا الشعب، وبالتالي حل مفهوم الشعب محل القبيلة والعشيرة لدى الأويغور، حيث ارتضت تلك القبائل أن يطلق عليها ” الأويغور” منذ منتصف القرن الثامن الميلادي .
الأويغور والإسلام
استغرق إخضاع المسلمين لآسيا الوسطى خمسون عاما، بداية من خلافة الوليد بن عبد الملك، الذي اختار “قتيبة بن مسلم الباهلي” واليا على خراسان عام 705م، والذي استمر في ولايته عشر سنوات، فتح فيها بخارى، وسمرقند، وكثيرا من بلاد ما وراء النهر، إلا أن مقتل “قتيبة” عام 715م، عطل الفتوح الإسلامي خمسة وثلاثين عاما.
بدأت العلاقة بين دولة الأويغور والمسلمين عام 750 م عندما أرسل الخليفة العباسي أبو العباس السفاح رسوله “تميم بن بحر” إلى قصر سلطان الأويغور “بايانجور” يدعوه إلى الإسلام، غير أن سلطنة الأويغور اختارت التحالف مع الصين في حربها الأولى والوحيدة ضد المسلمين في معركة “طلاس” عام 751م التي انتصر فيها المسلمون، غير أن المعركة أجبرت الصين أن ينحسر نفوذها عن آسيا الوسطى قرابة الألف عام، وهو ما أتاح لسطنة الأويغور أن تتوسع في المنطقة دون أن تصطدم بالصين، وأصبحت دولة الأويغور تسيطر على كثير من مناطق آسيا الوسطى، وتكاد أن تسيطر بالكامل على طريق الحرير، الذي أطلق عليه “طريق الأويغور”، لكن منذ العام 795م أخذت دولة الأويغور تعاني بعض الاضطرابات والتنازع على السلطة، وتعاقب على حكمها في الفترة من 795م حتى العام 839م ستة سلاطين.
يشير الكتاب أن المسلمين لم يكتفوا بالسيف والسوط لإخضاع شعوب آسيا الوسطى، ولكنهم استطاعوا أن يقربوا الإسلام إلى تلك الشعوب، فبدأ اعتناق الأويغور للإسلام مع بداية القرن العاشر الميلادي، عندما اعتنق “ساتوق تكين” الإسلام عام 920م قبل اعتلائه عرش القراخانيين، وتسمى بـ”عبد الكريم”، ورغم ذلك ظل قسم من شعبه على البوذية، ولعب “ساتوق” دورا مهما في نشر الإسلام وخاض صراعا عنيفا مع الأويغور البوذيين، حيث سعى لنشر على مدار 36 عاما بين الأويغور، حيث وفاته عام 956م.
ولكن لماذا تخلى ساتوق عن البوذية؟ يرى الكاتب أن البوذية ديانة لا تدعو إلى العنف، ومع اعتناق الأويغور لها خفتت عندهم الروح القتالية التي كانوا يتميزون بها، وقد رحب بها الحكام في بداية الأمر ليستتب لهم الأمر ويخمدوا من خلالها الثورات ضدهم، لكنهم عندما قارنوا الإسلام بالبوذية وجدوا أن الإسلام يحض على القوة والجهاد، وهو ما يتلائم مع طبيعتهم، فأعجب الأويغور بمنطق القوة في الإسلام، كما أن حكام الأويغور أرادوا أن تدين رعيتهم بدين واحد لأن ذلك يحقق قوة الدولة، ويقضي على النزاعات الداخلية، ويبني هوية مشتركة، كما لعب المسلمون دورا مهما في تقريب الإسلام لشعوب الأويغور ودفعهم إلى اعتناقه من خلال التقرب إلى حكام الأويغور، خاصة وأن الإسلام مع القرن العاشر الميلادي أصبح دينا عالميا، ويبدو أن الأويغور رأوا أن الإسلام ليس الدين العرب وحدهم، لذا أخذوا يتحولون من الشامانية والبوذية إلى الإسلام.
إزداد انتشار الإسلام بين الأويغور والشعوب التركية، حتى إنه في العام 960م أسلمت (200) ألف خيمة من الأويغور، وفي نفس العام أعلن “سليمان أرسلان خان” الإسلام دينا رسميا للدولة، ولعبت الدول القاراخانية في الفترة من القرن العاشر حتى القرن الثالث عشر الميلادي دورا مهما في الإرتقاء بالثقافة الإسلامية في آسيا الوسطى، وكانت كاشغر عاصمة القاراخانيين في طليعة التطور الثقافي في آسيا الوسطى، وكانت مدينة متحضرة فيها المدارس والمسجد وشبكات المياه تحت الأرض التي تصل إلى المنازل.
(المصدر: إسلام أونلاين)