مقالاتمقالات المنتدى

الأنبياء والمرسلون.. دينهم واحد وشرائعهم مختلفة (2)

الأنبياء والمرسلون.. دينهم واحد وشرائعهم مختلفة (2)

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

تحدثنا في المقال السابق عن دعوة الأنبياء والمرسلين، وذكرنا النصوص العامة المجملة في بيان ذلك وفي هذا المقال نتابع في ذكر أمثلة مفصلةً من القرآن الكريم والسنة النبوية.

  1. دعوة الأنبياء والمرسلين واحدة خالصة:

  نقف أمام الدعوة الواحدة الخالدة على لسان كل رسول، وفي كل رسالة دعوة توحيد العبادة والعبودية لله المتمثّلة فيما يذكره القرآن الكريم عن كل رسول: {… قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ..}، ولقد كنا دائماً نفسّر “العبادة” لله وحده بأنها “الدينونة الشاملة لله وحده في كل شأن من شؤون الدنيا والآخرة”، ذلك أن هذا هو المدلول الذي تعطيه اللفظة في أصلها اللغوي، فإن “عبد” معناها: دان وخضع وذل، وطريق معبّد: طريق مذلّل ممهّد، وعبّده: جعله عبداً أي خاضعاً مذللاً، ولم يكن العربيّ الذي خوطب بهذا القرآن أول مرة يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبُديّة، بل إنَّه يوم خوطب به أول مرة في مكة، لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبديّة، إنما كان يفهم منه عندما يخاطب به أن المطلوب منه هو الدينونة لله وحده في أمره كله، وخلع الدينونة لغير الله من عنقه في كل أمره.

إنَّ توحيدَ الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد مصدر الشريعة، وتوحيد منهج الحياة، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس، والدينونة الشاملة، هو التوحيد الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مرِّ الأزمان؛ ذلك ليس لأنَّ الله سبحانه في حاجة إليه، فهو سبحانه غنيّ عن العالمين، ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح حياة لائقة “بالإنسان”، إلا بهذا التوحيد الذي لا حدّ لتأثيره في الحياة البشرية في كل جانب من جوانبها . (في ظلال القرآن، سيد قطب، 3/1903).

من كل ما سبق، يتأكد لنا أنَّ دين الأنبياء عليهم السلام واحد، وبأنَّ دعوتهم واحدة، أنّها دعوة الإسلام، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، كما أن هناك أموراً أخرى اتفقت عليها جميع الأديان والرّسالات ودعت إليها، ألا وهي الأخلاق والقيم التي فطر الله الناس عليها، حيث نجد الدعوة إليها والمحافظة عليها ونبذ ما يخالفها موجود في كل رسالة، وقد تضمنتها دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا يمكن أن تتغير ولا يعتريها تبديل ولا نسخ مثلها، مثل التوحيد وأصول الإيمان، وكذلك برّ الوالدين، وتحريم الفواحش والظلم، وقتل النفس بغير حق، والإحسان إلى اليتيم، والقسط بين الناس، وتحريم الكبر والفجر، والحثّ على الكرم والوفاء، وتحريم الغدر والخيانة. (وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم، عبد العزيز ناصر الجليل، 3/47)

2. الاتفاق في الأصول والخلاف في الفروع:

  وفيما عدا أصول الإيمان والقيم الثابتة، جعل الله عزّ وجل لكل رسول شريعة خاصة به لقومه، شاملة وكاملة في وقتها لأهلها، وقد تختلف هذه الشرائع من نبيّ لآخر، وقد يتفق بعضها، حتى ختم الله سبحانه جميع الشرائع بما أنزل على محمد (صلّى الله عليه وسلّم) من الشريعة الكاملة الشاملة التي كتب الله عزّ وجل لها الخلود والقيام بمصالح العباد في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا هو المعنى المأخوذ من قوله تعالى: {…لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} ]المائدة:48[، ومعناه: لكل أهل ملة منكم أيها الأمم جعلنا شرعةً ومنهاجاً. (تفسير الطبري، (10/385).

ويرى الشيخ عبد الرازق عفيفي (رحمه الله تعالى) بخصوص اختلاف الشرائع واكتمالها في شرعة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم: أنَّ من تمام رحمة الله بعبادة ونعمته عليهم، وكمال حكمته في إقامة الحجة والأعذار إلى من سبق عليه القول منهم، أن جعل شريعة كل رسول من رسله شاملة لكل ما تحتاجه أمته، وجامعة لكل ما يُصلح شأنها، وينهض بها في إقامة دولتها وبناء مجدها وتقويم أوَدها وحفظ كيانها، ويجعلها مثلاً أعلى في جميع شؤونها، سعيدة في الدنيا والآخرة، قال صلّى الله عليه وسلّم: “إنه لم يكن نبيّ قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم عن شر ما يعلمه لهم.

وكذلك، فقد تضمنت فوق ذلك ما يُكمل الضروريات والحاجيات والتحسينيات على خير حال وأقوم طريق… والأمم الماضية لما كانت تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبيّ خلفه نبيّ، وكان الوحي مستمراً، جرت فيهم سنة التطور في التشريع والتدريج في الأحكام، وكان كثير من التفاصيل وفروع الشريعة مؤقتاً، فنسخت الشريعة اللاحقة من أحكام الشريعة السابقة ما اقتضت المصلحة نسخه؛ تنشئةً للأمة وتربيةً لها وسداً لحاجتها، أو عقوبةً لها على ظلمها للأمة وتمرّدها على شرائع ربّها، قال تعالى في رسالة عيسى عليه الصلاة والسلام: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ..} ]آل عمران:50[.

وقال الله تعالى في محمد عليه الصلاة والسلام: {..وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} ]الأعراف:156-157[.

وقال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)} ]النساء:160-161[.

وأما هذه الأمة المحمّدية فشريعتها خاتمة الشرائع ورسولها خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا نبيّ بعده، فاقتضت حكمة الله أن تكون شريعته فيهم عامة دائمة إلى يوم القيامة، كفيلة بجميع مصالحهم الدينية والدنيوية، منظِمةً لنواحي حياتهم المختلفة، مُغنيةً لهم عمّا سواها في جميع أمورهم وشؤونهم، ولو طال بهم الأمد واختلفت أحوالهم على مرّ الأيام والعصور حضارةً وثقافةً، وتباينت أفكارهم ذكاءً وغباوةً، وحالتهم قوةً وضعفاً وغنىً وفقراً. (الحكمة من إرسال الرّسل، عبد الرازق عفيفي، ص 32).

ملاحظة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “إبراهيم عليه السلام”، للدكتور علي الصلابي، واستفاد كثيراً من كتاب: ” وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم”، للدكتور عبد العزيز الجليل.

المراجع:

  • إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء والمرسلين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م.
  • تفسير الطبري “جامع البيان في تأويل القرآن”، الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1992م، (10/385).
  • الحكمة من إرسال الرّسل، عبد الرازق عفيفي، دار الصميعي للنشر والتوزيع، الرياض، السعودية، ط2،1420هـ، 1999م، ص. ص30-32.
  • في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق للطباعة، القاهرة، ط 32، 2003 م.
  • وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم، عبد العزيز ناصر الجليل، دار طيبة، الرياض، السعودية، ط2، 1419ه، 1998م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى