الأنبياء والمرسلون.. دينهم واحد وشرائعهم مختلفة (1)
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
لا غرابة أن نقول: إنّ دين محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وباقي الأنبياء صلى الله وسلم عليهم واحدٌ فإن المرسِل – وهو الله تعالى – واحد والدعوة التي أمر بها واحدة وهي إقامة التوحيد والعبادة، فأصل الدين واحد عند جميع المرسلين والأنبياء، ولكن اختلفت الشرائع نظراً لحكمة الله أولاً ولما أراده سبحانه، ثم لتغير أحوال الناس واختلاف العصور التي تحتاج إلى ما يناسبها من شرائع وأحكام.
قال الله عزّ وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} ]الأنبياء:25[.
والإسلام هو دين الأنبياء جميعاً، فمنذ أن أهبط آدم عليه الصلاة والسلام ودينه الإسلام ودعوته إلى الإسلام الذي هو الاستسلام لله عزّ وجل وتوحيده وعبادته وحده لا شريك له، ثم استمر الإسلام في ذريته عشرة قرون حتى ظهر الشرك أول ما ظهر في قوم نوح، فبعث الله نبيّه نوحاً – عليه السّلام – بالإسلام، ثم بعث الله عزّ وجل رسله تَتْرى مُبلغةً دين الإسلام إلى أقوامهم كلما ظهر الشرك وانطفأت أنوار الإسلام. (وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم، عبد العزيز ناصر الجليل، 3/41).
قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ]آل عمران:19[.
إذن، فإن دين الإسلام وتاريخ الإسلام معناه العام وجد مع وجود الإنسان على هذه الأرض، وهو دين الأنبياء جميعاً، أما الإسلام بمعناه الخاص فهو الذي بعث به محمد (صلّى الله عليه وسلّم) جامعاً فيه بين الإسلام العام – الذي هو التوحيد ونبذ الشرك – وبين الأحكام الشرعية لهذه الأمة، حيث أحلّ لها الحلال وحرّم عليها الحرام، ووضع عنها الإصر والأغلال التي كانت على من قبلها، فجاءت شريعة كاملة ميسرة شاملة خاتمة للشرائع صالحة لكل زمان ومكان، وهذا معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: “أنا أوْلى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعَلّات، أمهاتهم شتّى ودينهم واحد”.
حيث يوضح هذا الحديث أن الأنبياء كالأبناء لأمهات شتّى وأب واحد، وذلك لاتفاقهم في التوحيد والإسلام وأصول الإيمان والأخلاق واختلافهم في الشرائع. (وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم، عبد العزيز ناصر الجليل، 3/42)
يقول ابن تيمية – رحمه الله-: وهذا الدين الإسلام الذي لا يقبل الله ديناً غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين، فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام، قال تعالى عن نوح: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} ]يونس:71[ إلى قوله: {..وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ]يونس:72[، وقال عن إبراهيم: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ..} ]البقرة:130[ إلى قوله:{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ]البقرة:131[ إلى قوله: {..فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ]البقرة:132[، وقال عن موسى: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} ]يونس:84[، وقال في حواري المسيح: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} ]المائدة:111[، وقال فيمن تقدم من الأنبياء: {… يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} ]المائدة:44[، وقال عن بلقيس أنّها قالت: {… رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ]النمل:44[.
فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده، فهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، وذلك إنما يكون بأن يطاع في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت، فإذا أمر في أول الأمر باستقبال الصخرة، ثم أمرنا ثانياً باستقبال الكعبة كان في كل من الفعلين حين الأمر به داخلاً في الإسلام، فالدين هو الطاعة والعبادة له في الفعلين وإنما تنوع بعض صور الفعل – وهو وجهة المصلي- فكذلك الرسل، وإن تنوعت الشرعة والمنهاج والوجهة والمنسك، فإن ذلك لا يمنع أن يكون الدين واحداً كما لم يمنع ذلك في شريعة الرسول الواحد. (التحفة المهدية شرح العقيدة التدمرية، ص 322)
ويقول الشيخ عمر الأشقر رحمه الله: إنَّ الرسالات التي جاء بها الأنبياء جميعاً منزلة من عند الله العليم الحكيم الخبير، ولذلك فإنها تمثل صراطاً واحداً يسلكه السابق واللاحق، ومن خلال استعراضنا لدعوة الرسل التي أشار إليها القرآن، نجد أنَّ الدين الذي دعت إليه الرّسل جميعاً هو الإسلام: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ..} ]آل عمران[، والإسلام في لغة القرآن ليس اسماً لدين خاص، وإنما هو اسم للدّين المشترك الذي هتف به كلّ الأنبياء، فنوح يقول لقومه: {..وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ]يونس:72[.
والإسلام هو الدّين الذي أمر الله به أب الأنبياء إبراهيم: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ]البقرة:131[، ويوصّي كل من إبراهيم ويعقوب وأبناءه قائلاً: {… فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ]البقرة:132[، وأبناء يعقوب يُجيبون أباهم: {… نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ]البقرة:133[، وموسى يقول لقومه: {… يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} ]يونس:84[، والحواريّون يقولون لعيسى: {… آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ]آل عمران:52[، وحين سمع فريق من أهل الكتاب القرآن: {… قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} ]القصص:53[، فالإسلام شعارٌ عام كان يدور على ألسنة الأنبياء وأتباعهم منذ أقدم العصور التاريخية إلى عصر النبوة المحمّدية. (الرّسل والرّسالات، عمر سليمان الأشقر، ص243).
ملاحظة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “إبراهيم عليه السلام”، للدكتور علي الصلابي، واستفاد كثيراً من كتاب: ” وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم”، للدكتور عبد العزيز الجليل.
المراجع:
- إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء والمرسلين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م.
- التحفة المهدية شرح العقيدة التدمرية، المؤلف: فالح بن مهدي آل مهدي الدوسري، مطابع الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، السعودية، ط3، 1413هـ، ص 322.
- الرّسل والرّسالات، عمر سليمان الأشقر، مكتبة الفلاح، لبنان . دار النفائس، الكويت، ط4، 1410ه، 1989م، ص243.
- وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم، عبد العزيز ناصر الجليل، دار طيبة، الرياض، السعودية، ط2، 1419ه، 1998م.