مقالاتمقالات مختارة

الأمير عبدالقادر الجزائري..كيف شوهت الاستخبارات رموز الكفاح الوطني؟

بقلم د. علي الصلابي

تعرض تاريخ وسيرة الأمير عبد القادر الجزائري (1807 – 1883م) لحملات تشويه مركزة ومنظمة، واختلق له المستشرقون والمستغربون التهم والأكاذيب، فقد اتهم الأمير عبد القادر بأنه تعاطف مع الماسونيين ثم انتسب إلى محافلهم. وقد روّج لهذه الدعاية الكولونيل وليام تشرشل صاحب كتاب “حياة عبد القادر”، ثم نقل عن وليام تشرشل هذه الفرية وأذاعها مفكرون عرب، كأمثال جرجي زيدان ومن سار على نهجه الملتوي. وبجرة قلم أعلنت الحركة الماسونية بعد وفاة الأمير عبد القادر في 26 أيار/ مايو عام 1883م أنه انتسب إليهم واحتفوا به ونعتوه، وزعموا أن هناك نصوصًا ماسونية موثقة تثبت انتماء الأمير للحركة الماسونية، وأنه كلف من طرف الحكومة الفرنسية بمهمات لإنقاذ المسيحيين في الأحداث الدامية التي وقعت في دمشق عام 1860م، فقدر نابليون الثالث هذه المبادرة، وقلد الأمير عبد القادر وسام الشرف الفرنسي، وزاد عليه بالجوهرة أو الرمز المعدني عرفاناً له بجهوده وفضله.
لا تورد أيًا من الروايات التاريخية المعروفة بمصداقيتها بأن الأمير عبد القادر كان ماسونيًا أو خادمًا لفرنسا وقنصلها في دمشق، والمبادرة التي قام بها الأمير كانت نابعة من واجب وطني وأخلاقي وديني، ولم تكن لدنيا يصيبها أو وسام يبتغيه. فيما دعته المحافل الماسونية جاهدة للانتساب إليها، مثل محفل هنري الرابع الذي أرسل إلى الأمير في 16 سبتمبر 1860م كتابات شكر وتقدير، واعتراف للأمير في عدة رسائل أخرى بالحب للإنسانية جمعاء، واقترح عليه أن يكون عضواً في المحفل دون أن يكون عضوًا مكرسًا؛ لأنه من الرجال العظماء، فهذا ثابت تاريخياً ولا جدال فيه.
ولكن من يستطيع أن يمنع أحداً من الكتابة للغير وأن يشكره ويقترح عليه أمورًا قد يراها بصدق أو بنية تناسب قدر من اقترحت عليه ويقدم له هدية، وإذ حاولت المحافل الماسونية في كتاباتها أن تستفيد من اسمه وتكذب عليه محاولة من خلال هذا الكذب والزور أن ينشر أفكارها الهدامة في المجتمعات العربية والإسلامية بالمشرق، فليس هذا من ذنب الأمير عبد القادر. وفوق هذا كله نسبوا إلى الأمير مقولة بأنه لم يلمس في المبادئ الماسونية ما يتعارض وشريعة القرآن الكريم والسنة والفقه الإسلامي وهذا من الافتراء والكذب المبين.
حاولت الحركة الماسونية فعل كل ما في وسعها لتجعل الأمير عبد القادر أحد المنتسبين إليها، ولكنها لم تفلح، وكل ما ذكر في تاريخهم عن الأمير مثل الأسئلة عن واجبات الإنسان تجاه الله وتجاه الإنسانية أو الأسئلة حول خلود النفس والمساواة والإخاء والحرية أو حضوره في محفل الأهرام في الإسكندرية أثناء عودته من الحجاز في عام 1864م، أو في محفل هنري الرابع للشرق الكبير الفرنسي في عام 1865م، وقصة التكريس والامتياز والدرجات الماسونية الثلاثة وغيرها من أكاذيب، فلا أصل لها وهي من نسج خيالهم ومنى أنفسهم.
ألا يرى معي القارئ أن هدف هذه الافتراءات والشبهات، هو أوسع مما يدركه الإنسان للوهلة الأول،ى ويعني الدعاية لهذه الجمعية في الجزائر بصورة خاصة وفي العالم الإسلامي بشكل عام؟
فهذا المجاهد هو رمز كفاح أمة وقدوة لعدد كبير من أبناء الشعب الجزائري والشعوب العربية والإسلامية الحرة.
في الحقيقة فإن تجربة الماسونية لم تقف عند دعوة أو اتهام الأمير عبد القادر بالانتماء لها، بل هي جزء من الحركة الاستعمارية الفرنسية التي كانت أخذت تهيمن على مناطث شمال أفريقيا. فمثلًا في عام 1858م فتح في تونس محفل لأطفال قرطاجة برئاسة أنطونيو فينا، وعدد من المحافل جاءت من فرنسا وإنجلترا وإيطاليا ومحفل “المثابرة” برئاسة بامبيو. وفي الجزائر كانت المحافل الماسونية سرية جداً ولم يعلن عنها، وعرفت من وثائقها أثناء الحرب العالمية الثانية حينما أمرت حكومة فيشي بحل الجمعيات السرية ومصادرة وثائقها، فعرف أن محفل أطفال مارس سكيكدة (فتح سرًا عام 1814م) في شارع يوغرطة برئاسة ألبيرت أوبارتين، وبولاية قسنطينة محفل “نجمة الساحل”، ومحفل “أخوة كلاماً” في قالمة، الذي كان يحث في جميع محاضراته العلنية على الطاعة والعمل على تحقيق مجتمع إنساني متضامن حر بعيد عن الله وعن الدين، ثم محفل “سرتا” في قسنطينة ولا يعرف تاريخ لتأسيسه، وشعاره عين الإنسان تحتها مثلث وسطه نجمة خماسية ومطرقة.
وتحدث الأستاذ يوسف مناصريه عن انتشار المحافل في الجزائر وخاصة في الشرق الجزائري ومناطق القبائل في بيجاية وغيرها، ومنها محفل “الوفاق الطائفي” بسطيف، ومحفل “جون جوريس” ومحفل “نوميديا” بسوق الأهراس. ويذكر الباحث أن غاية هذه المحافل هي الوحدة والهدف منها منع تعليم أبناء المسلمين اللغة العربية والقرآن في المدارس والكتاتيب بطرق سرية للغاية، ولكن المعلن كان محاربة الأديان بشكل عام، ويسحق هذه الأديان وإزالة رجالها من طريق الماسونية العالمية.
إن كل الرسائل التي جاءت من المحافل الماسونية من رسائل التقدير والإحترام إلى الأمير عبد القادر هي بمناسبة إنقاذه خمسة عشر ألف مسيحي في دمشق، والقضاء على الفتنة الطائفية، وهي تبين حقيقة واضحة في عدم وجود أي نص أو إشارة في الرسائل المذكورة يُفهم منها أن المرسل إليه كان عضوًا من أعضائها. وفي عام 1860م أرسلت الجمعية الفرنسية المعروفة باسم “جمعية عمل الخير وإعانة المصابين في البر والبحر” كتاباً بمناسبة دفاعه عن المسيحيين بالشام جاء فيها:
“إن جمعية المصابين المؤلفة من أعيان الأمصار ووجوه المدن الشهيرة في فرنسا اتفقت كلمتها على أن يكون الأمير عبد القادر رئيس شرف لها اعترافاً بما أبداه من أعمال الخير الجسيمة في سورية عام 1860م وبناء على ذلك بعثت إليه بهذه الرقيم في يونيو/ حزيران 1862م”. وفعلت مثل ذلك الجمعية الأمريكية الشرقية، فقرر مجلس إدارتها اعتبار الأمير عبد القادر عضو شرف فيها، وأرسلت إليه رقيماً في 1860م، وكذلك جمعية حماية المدن في فرنسا. وفي تلك المناسبة ذاتها وصلت الأمير مئات من رسائل التقدير والأوسمة الرفيعة من حكام العالم وزعمائه ومفكريه ..الخ
ومن المؤكد أن هذه الرسائل والرُقم والهدايا قد اطلع عليها أبناء الأمير العشرة وبناته الستة وأزواجهن وأولاد أخوته، وكان من بين هذه الأشياء كتب التقدير هذه المومي إليها من هذه المحافل التي انتهزت فيما بعد فرصة وجود الأمير في مصر في أكتوبر/ تشرين الثاني من عام 1869م عندما دعا إسماعيل باشا خديوي مصر الأمير عبد القادر لحضور حفل افتتاح قناة السويس. وفي تلك المناسبة زاره في مقرّ إقامته عدد كبير من الشخصيات العالمية ومندوبو بعض الجمعيات الخيرية، كالجمعية الفرنسية وأوفدت إليه هيئة من أعضائها شرحت له مبادئ الماسونية وخدمتها للإنسانية، ولكن الأمير أبداً لم يدخل فيها ولم يدعوا إليها، وإنما كانت دعوته للإسلام  جلية وواضحة.
إن كل الذين ادعوا انتساب الأمير عبد القادر إلى هذه الجمعية لم يقدموا أي دليل مادي أو مستند وثائقي يثبت صحة ادعائهم، ومنهم من يعتذر خشية الإطالة عن عدم تقديم الأدلة أو الوثائق ويكتفي بإبراز صورة الأمير عبد القادر المعروفة وهو يرتدي الأوسمة التي وصلته من ملوك ورؤساء العالم، وعلى صدره وشاح الفروسية الأحمر الذي أهداه إياه ملك إيطاليا فيكتور عما نوئيل مع الوسام الذي جاءه بمناسبة إنقاذ أرواح خمسة عشر ألف مسيحي في الفتنة المشهورة، وهذا من دون أي تعليق سوى عدم الرغبة في الإطالة والحقيقة أن هذه الحجة هي أيضاً باطلة لأنه لو توافرت الوثيقة مهما كانت لما أحجموا عن ذكرها والحقيقة أنه لا يوجد أي مستند سوى أقوال تدخل في باب “القيل والقال” نقلاً عن مصدر بريطاني بقصد الدعاية لهذه الجمعية وخدمة غايات استعمارية مفضوحة لا أكثر. وكثير من المستشرقين كانوا يقدمون خدمات قيمة لبلادهم المستعمِرة تشجعهم عليها حكوماتهم لأغراض استعمارية غير خافية، ولكن مما يؤلم أن نرى أكاذيبهم وقد تناقلتها أقلام مؤلفين من أبناء أمتنا وكأنهم أفعى ظفرت بصيد ثمين.
ولعل من الأدلة الدامغة التي أوردها الدكتور فؤاد صالح السيد مقال للأمير سعيد حفيد الأمير، فيه نفي صريح وشديد وتبرئة للأمير عبد القادر مما نسب إليه في هذا الموضوع ومما جاء في نص الأمير سعيد في مجلة الحقائق في عام 1869م: “دُعي الأمير عبد القادر مع من دُعي من ملوك لحضور احتفالات فتح ترعة السويس وبينما الأمير عائداً لسورية عن طريق الإسكندرية، اغتنمت الجمعية الماسونية فرصة وجوده في ذلك القطر فأوفدت إليه هيئة من أعضائها تكلمت أمامه عن مبادئ الماسونية وخدمتها للإنسانية، فأثنى الأمير على ما ادّعته من خدمات للإنسانية فاتخذ بعض المنتمين لهذه الجمعية من هذه الزيارة إشاعة حسنة لدخول الأمير في جمعيتهم وبالتأكيد هذا الزعم باطل”.
وقد ألف أحد الكتاب الفرنسيين مع اثنين جزائريين كتاباً وضُع فيه ثلاث أو أربع رسائل رغم أنها من الأمير إلى الجمعية، قُلدّ فيها خط الأمير وزوّر توقيعه مع العلم أن تقليد خط الأمير عبد القادر من قبل الفرنسيين وغيرهم أصبح من استراتيجيتهم التي غايتها خدمة أهدافهم، ولقد فضح الدكتور صالح الخرفي عام 1971م في مجلة الثقافة الجزائرية في عددها الرابع هذه المؤامرة القديمة على فكر الأمير عبد القادر، وذكر الدكتور من أسماء من يرعوا في هذا الفن، فن تقليد خط الأمير منهم هنري بيريس وشيربونو، الذي كان في الجزائر الوصي على اللغة العربية وتقليد أنواع خطوطها قبل استقلال الجزائر.
إن هذا المسلك الخادع ضد الأمير عبد القادر هو محاولة فاشلة لتشويه جهاده وسيرته المجيدة فالمستهدف هو ما يمثله من قيم دينية ومثل وطنية وأخلاق ربانية ومبادئ إيمانية ومواقف إسلامية، فالأمير عبد القادر رمز للشعب الجزائري وللأمة الإسلامية والشعوب الحرة التي تسعى لنيل حقوقها وحريتها وكرامتها. وإن حياته صفحة بيضاء ناصعة واتهاماتهم الباطلة تتساقط أمام الحقائق الراسخة، وتتلاشى أمام الحجج الدامغة، وتذهب جفاء؛ لأنها زبد، وسيرته العطرة تبقى نبراساً وقدوة وأسوة لأنها تنفع الناس. إن أعداء الأمة الإسلامية حرصوا على تشويه حتى سير الأنبياء والافتراء على تاريخهم، وقد عانى من ذلك أيضاً صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل أبي هريرة رضي الله عنه، ولم يسلم أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله عنهم من الطعن والإفتراء والتشويه.
إن اتهام الأمير عبد القادر بالانتساب إلى الماسونية لا قيمة لها مجرد دخولها مجال البحث العلمي، ولا وجود لها في حقائق التاريخ المعاصر، وإنما تدخل ضمن الحرب الاستخباراتية في تشويه رموز النضال الشعبي والكفاح الوطني والجهاد الإسلامي في هذه الأمة، ويأبى الله إلا أن تظهر أنوار الحقيقة لتزيل ظلام البهتان وادعاءات المزورين والمفترين في شرق الأرض ومغربها.

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى