الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. المفهوم والحكمة
بقلم عبد المنعم أديب
وفي عصر تكثر فيه الاضطرابات وتُوجَّه فيه الضربات إلى الإسلام واحدةً تلو الأخرى، تتنامى ظاهرة تبدو طبيعيَّةً في هذا الإطار؛ هي التشكيك في أصول وثوابت الإسلام. وإنْ لمْ يستطع المُشكِّكُ أنْ يُشكِّك فأمامه طريق آخر هو التشويه والتشغيب على تلك الأصول؛ حتى تصل للمُسلمين غير المُهتمِّين بشكل مغلوط من جانب، وتشوِّه صورتهم عند غيرهم من جانب آخر. فيجد المُسلمون أنفسهم في موضع الاتهام.
وممَّا يكثر فيه استخدام الطريق الآخر -التشويه والتشغيب- أصل إسلاميّ هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن هُنا وجب توضيح حقيقة هذا الأصل في سياق البابَيْن اللَّذَيْن عقدهما الإمام النووي في “رياض الصالحين”: “باب في النصيحة”، و”باب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
علمًا بأنَّ هذا التوضيح يا عبد الله يدفعك دفعًا إلى إحياء هذا الأصل في حياتك ومُجتمعك إحياءً صحيحًا عن فهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من القرآن والسُّنَّة. ليصفو فهمُك أمام هذا الأصل، وتمارسه في حياتك راجيًا منه وجه الله الكريم المَنَّان.
ما هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أمرٌ من أوامر الله لعباده المُؤمنين به، مُتفرِّقين وفُرادى، يقضي بردِّ الأمر المنكر -أيْ الذي نزل الشرع بإنكاره وتحريمه- ورفعِه، والحثّ والدفع على الأمر المَعروف -أيْ الذي أثبته الشرع وأمرَ به-. وقد ارتفع شأن هذا الأمر والتوجيه من الله بعد أنْ ربطه الشارعُ نفسُه بوجود المُجتمع المُؤمن.
تقول الآية الكريمة -آل عمران 110-:
(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه)
ونرى أنَّها ربطتْ خيريَّة الأُمَّة بكونها تقيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وربطت هذا الأصل بالقضيَّة الإيمانيَّة رأسًا. ممَّا جعل علماء المُسلمين يعدُّون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلاً ثابتًا في الإسلام، ويلحقونه بأبواب العقيدة. ولهذا الأصل أدلَّة وفيرة ستأتي في السطور القادمة منعًا للتكرار والإطالة.
علامَ يدلُّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
ولعلَّ أهمَّ ما يُعتَبَر إذا تأمَّلنا فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في دلالتها أنَّها:
- تؤكِّد على حتميَّة تطبيق ما أنزل الله؛ فالشرع لمْ يكتفِ بالبيان عن نفسه، وأمْرِ الناس به، بل تجاوَزَ ذلك إلى أنْ أصَّلَ في المجتمع -كُليًّا- وبين الأفراد -جزئيًّا- هذا الطريق من التناصُح بالتطبيق، والمُحاولةِ للحضّ عليه. وهذا الأصل في الشرع دالٌّ على وجوب تطبيق الشرع بين المُسلمين، بل على إثمهم في حال عدم تطبيقه.
- تدلُّ على العُمق الإيمانيّ بهذا الدين لدى الفرد ومجموع الأفراد، وكذلك انتفاؤه يدلُّ على النفاق وقلَّة الإيمان. فلا يصحُّ -كما هو معروف مُقرَّر- أنْ يُقال إنَّ مُجتمعًا ما شيوعيٌّ مثلًا ولا يطبِّق ما تقتضيه الشيوعيَّة. لذلك ترى المجتمعات الشيوعيَّة لها سمت وصفات وتكوين معروف، حتى ليَعلم العارفُ بالمذهب لماذا الحكومة والمِلكيات والتجارات على هذه الشاكلة، وإذا سألتَ هذا العارف عن شكل المُجتَمع فسيُرجع السبب إلى أنَّه مُجتمع شيوعيّ. وكذلك الأمر في أُمَّة الإسلام والمُجتمع المُسلم فله هيئة مُحدَّدة وتكوين معروف يجب أنْ يتَّسِم به، هذا التكوين وتلك الهيئة نابعانِ من هُوِّيَّة الإسلام نفسه. ومن هُنا حرص الإسلام على إيجاد قوام المُجتمع الإسلاميّ المُحافِظ والمُرابط على عقيدة الإسلام وشريعته.
- يدلُّ هذا الأصل على أنَّ الإنسان محلٌّ للخطأ والنسيان والضلال. ولذا وضع الشارع هذا الأصل الذي يشبه “آليَّة ذاتيَّة” -كالتي نراها في الأجهزة الإلكترونيَّة، مثل مانع الاحتراق الذاتيّ- للحدّ من ضلال المجتمع والأفراد، ولردّ الخطأ. وفي هذه الدلالة نجد الإمام النووي قد أورد حديثًا في الباب، يقول:
ما من نبيٍّ بعثه الله في أُمَّة…. ثُمَّ إنَّها تخلُفُ من بعدهم خُلُوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمَرُون. فمَن جاهَدَهم بيدِهِ.
فكما نرى تعبير “ما من نبيّ”. يدلُّ على أنَّ جميع الأنبياء وما أتوا به من شرائع قد حدث في أُممهم هذا القصور البالغ في الأجيال اللاحقة لجيل النبوُّة.
الحِكمة البالغة للحديث السابق:
ولعلَّنا هُنا نتأمَّل جملتَيْن من الحديث السابق في وصف خطأ الأُمم بعد زمن النبوُّة: الأولى “يقولون ما لا يفعلون” وهذه تعني أنْ تتحوَّل الديانة إلى صورة وحسب، وأنْ يكون الدين فينا صُوريًّا -كما نرى في كثير من الدول العربيَّة القانون مُجرَّد صورة تُقال فقط، ولا تطبَّق إلا على مَن نقدر أنْ نطبقَّه عليه-. هذا يحوِّل المُجتمع إلى مُجتمع “كرتونيّ” لا قيمة له، وهو يساوي الحالة التي سبقتْ إتيان النبيّ.
والأخرى “يفعلون ما لا يُؤمَرون” وهذه الجُملة تلخِّص كلّ الأخطاء؛ فما عليك -كما رأينا معًا سابقًا في أبواب رياض الصالحين– إلا أنْ تفعل ما تُؤمَر به من الله، وما الخطأ إلا أنْ تخرج عن هذا الذي أُمرتَ به. ولعلَّ هذه الجملة أيضًا يدخل فيها الإخبار -ولا يُقال التنبُّؤ على أحاديث النبوُّة إلا بقصد النبأ والإنباء، والأفضل أنْ يُقال إخبار لأنَّها جهة وحي- عن المُنافقين الأفَّاكين المُريدِيْنَ صدَّ الناس عن أصول دينهم الذين نراهم في يومنا هذا. فكأنَّها لخَّصت ضروب الخطأ الهيِّن منها والفاحش.
الحِكَمُ الجليلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ولعلَّك أخي المؤمن إذا صفوتَ ذهنًا وتدبَّرتَ في هذا الأصل لوجدتَ فيه الحِكَم البالغة التي يُنتجها تطبيقه. ومنها على سبيل الاختصار:
- يعرف المُؤمن أنَّ هذا الأصل يدور حول “إقامة شرع الله”؛ بتوجيه الإنسان ناحية الصواب المُعتَبَر من هذا الشرع، وردّ الاعوجاج عن هذا الصواب. وهذا لا يأتي إلا من “معرفة” بهذا الذي نطبِّقه وهو الدين والشرع. فأصل الأمر والنهي مَعقودٌ على معرفة ما سنأمر به وننهي عنه. وهُنا نعرف حِكمةً؛ أنَّ هذا الأصل هو اضطرار لنا لنشر الدين والشرع بيننا، بل هو عند التدبُّر وسيلة من وسائل النماء المِعرفيّ في المُجتمع المُسلم.
- في هذا الأصل توحيد وانسجام للسلوك المُجتمعيّ؛ من حيث تقديم مَرجع أخلاقيّ ونموذج سلوكيّ واضح بيِّن يطبقه الجميع. ويَسهُلُ بِناءً على هذا التوحيد للنموذج الأخلاقيّ العامّ معرفة وتقييم سلوك الأفراد. وفي هذا المعنى تصف الآية الكريمة -أوردها النووي في باب النصيحة- مُجتمع المُسلمين بأنَّه مجتمع الإخوة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) -الحجرات 10- ولا يُتصوَّر هذا التشكيل المُجتمعيّ والتنافر أصل فيه.
- وهذا التوحيد للمَرجع الأخلاقيّ والنموذج السُّلوكيّ لا ينفي أبدًا التنوُّع المَشروع الطبيعيّ الأصيل في الجِبلَّة البشريَّة، لكنَّه يُرشِّد الخروجات المُتطرِّفة عن الحيِّز الجمعيّ. وهُنا نجد أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُعضِّد البناء المُجتمعيّ، وبالتالي يتحرَّك بالمجتمع وكأنَّه جسد واحد. ولا شكَّ أنَّ هذا التوحيد سرّ من أسرار تحوُّل الأُمَّة إلى طور قوَّة ونماء؛ فيصير أمامها هدفٌ واضحٌ مُحدَّد -عبادة الله بعمارة الأرض- ونموذج سلوكيّ مُحدَّد -شريعة الإسلام الحكيمة-.
- هذا الأصل يوقظ الغفلة البشريَّة المُعتادة، ويحدُّ من غرور الإنسان الذي ينحو إليه كُلَّما نسِيَ مقام العبوديَّة. فإذا بهذا الأصل يطلق نفيره أنْ اعتدلوا أيُّها المُقتربون من المَيل عن الطريق الصحيح، وأنْ ارجعوا إلى ربِّكم يا مَن أخطأتُم في طريقكم. وهذا من الحِكَم البالغة التي تجدها بأقلّ تأمُّل في هذا الأصل.
- ومن أجلى وأوضح ما في هذا الأصل من حِكَم إحياءُ قلوب الناس. فلا شكَّ أنَّ الإنسان كائنٌ مُتفاعلٌ أَلُوف مُعتاد؛ وإدراكًا لهذه الطبيعة أصَّلَ الإسلامُ هذا الأصل الاستباقيّ الذي يحدُّ حدًّا من ظهور الباطل علَنًا. فمِمَّا ينتج من هذا الظهور للباطل إفسادُ قلوب الناس وانحراف الفطرة السليمة فيهم، وإِلْفُ الناس هذا الباطل واعتيادُهم عليه حتى يخرج من دائرة وصفه “باطلًا”. ثمَّ تبدأ النفوس تستسيغ وجوده، ثمَّ تعتاد أكثر فأكثر حتى يكون من الواقع المُقرَّر -ويا للأسف أقول: كما نرى الآن في مجتمعنا المُسلم-. ولعلَّ فهم هذه الحِكمة وهذا التدبير للمُجتمع لا يأتي إلا مِمَّن خلق الخلق، فكما ترى بعينَيْك هو تدبير مَن خلق ومَن يعلم أدقّ دقائق خلقه.
- وإعمال هذا الأصل إحياء لخُلُق التناصُح بين الناس، والنصيحة من أبواب إدخال المحبَّة في المُجتمع. وليس أدخَل للحبّ في قلبك من أنْ ترى الآخر حريصًا على استقامة أحوالك، رفيقًا بك في دُنياك، مُريدًا لك الخير في أُخراك. وخُلُق التناصح هو فعل الأنبياء. يخبر القرآن على لسان سيدنا “نوح” -عليه السلام-: (وَأَنصَحُ لَكُمْ) -الأعراف 62-، وعلى لسان سيدنا “هُود” -عليه السلام- (وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) -الأعراف 68-. وقد أمر النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- بالنصيحة بين جميع المُسلمين، بل لخَّص الدين من أحد وجوهه في خُلُق النصيحة. يقول الحديث: “الدين النصيحة”، قلنا: لمَن؟ قال: “لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين، وعامَّتهم”. بل أخذ البيعة من أصحابه على أساس بذل النصيحة الصادقة الأمينة لكُلِّ مسلم، فعن جرير بن عبد الله: “بايعتُ رسول الله على إقامِ الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، والنصحِ لكُلِّ مسلم”.
إخبار القرآن والسُّنَّة أنَّ ترك الأمر والنهي خراب للأُمم
وكما أقرَّ الشرع الحكيم وتضافر على تأصيل هذا الأصل فينا، أعلمنا أنَّ غيابه خراب للبلاد والعباد، وأنَّ تركه سبب لإهلاك الأُمم، بل إنَّه سبب فيما هو أسوأ من إهلاك الأُمم؛ وهو عدم استجابة الدعاء؛ فإذا أصابت أمَّةً أفعالُ الهلاك -قد يأتي الهلاك بغتةً وفجأةً، وقد يأتي كفعل السوس ينخر في العظام- وأرادوا اللجوء إلى الدعاء لإنقاذهم وجدوا آخر أبواب النجاة مَسدودًا أمامهم. أعاذنا الله وإيَّاكم.
فقد قالت الآية الكريمة عن تضييع بني إسرائيل لهذا الأصل (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) -المائدة 79،78-. وانظر يا عبد الله الصالح وارتعدْ من قوله “لبئس ما كانوا يفعلون”، فإنَّه تعبير يلقي الرُّعب في القلوب.
وتأمَّل هذه الآية الكريمة وما أتت به من عِبَر -الأعراف 165-:
(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)
وكأنَّها تشرح هذا الأصل وخطورة مُجاوَزَته بأخصر طريق؛ فالقوم والأُمَّة “نسوا ما ذُكِّروا به” من أوامر ونواهي، وقضى الله عليهم بالهلاك. فلمَّا جاء الهلاك نجَّى الله هذه الطائفة التي كانت “تنهَى عن السوء” أيْ تقيم أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وحلَّ الهلاكُ بالذين “ظلموا” وكان من ظُلمهم مُخالفة صفة الأوَّلِيْنَ الناجيْنَ، أيْ أنَّهم لمْ يُقيموا هذا الأصل، وراحوا في طُغيانهم يعمهون.
ومن الأحاديث حديث فيه: “إنَّ أوَّل ما دخل النقص على بني إسرائيل أنَّه كان الرجُلُ يلقى الرجُلَ، فيقول: يا هذا اتِّقِ الله، ودَعْ ما تصنع فإنَّه لا يحلُّ لك. ثمَّ يلقاه من الغد وهو على حاله (أيْ لمْ يغيِّر هذا المنكر) فلا يمنعه ذلك أنْ يكون أكِيْلَه وشَرِيْبَه وقعِيْدَه. فلمَّا فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض”.
وحديث عدم استجابة الدعاء شديد اللفظ، يقول: “والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهَوُنَّ عن المنكر أو ليُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يبعث عليكم عقابًا منه، ثمَّ تدعونه فلا يُستجاب لكم”. فيا لها من عاقبة سوء شنيعة!.. فاعتبر يا عبد الله الصالح.
مستويات الوسيلة في الأمر والنهي
وفي حديث مشهور ذائع يقول رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-:
مَن رأى منكم مُنكَرًا فليُغيِّره بيدِهِ، فإنْ لمْ يستطِع فبلسانِهِ، فإنْ لمْ يستطِع فبقلبِهِ، وذلك أضعف الإيمان.
وهذا الحديث يطرح قضايا كثيرة -يضيق عنها المقام هنا- لكنَّ أهمَّ ما يمكن استنباطه من الحديث -بخلاف المعنى الظاهر من لفظه-:
- أنَّ الشرع قد ربط وسيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعنصر “سُلطان الآمر والناهي”. وشرح هذا أنَّ الوسيلة -كما في الحديث- متعدِّدة، ولا بُدَّ لتعدُّدها هذا من سبب؛ والسبب الأوضح هو امتلاك الآمر والناهي لسُلطان هذا الأمر والنهي؛ فأمرُ ونهيُ الأب الذي يملك السلطان على ابنه غيرُ أمر ونهي الأب نفسه حينما يُفعِّل هذا الأصل مع صديقه. فأبناؤه له عليهم السلطان وعليهم له السمع والطاعة، وليس الموقف كذلك في اتجاهه لصديقه. وإذا صعَّدنا هذا الموقف على صعيد المُجتمع فسنجد أنَّ الحُكم أو الحُكُومة -اللَّفظانِ بالمعنى نفسه- لها السُّلطان على جميع أفراد المُجتمع، وليس الوضع كذلك بالنسبة لأفراد المُجتمع بعضهم على بعض. فللحكومة أنْ تُعمل سلطانها في ردّ المنكر والتوجيه إلى المعروف أو إقراره -على حسب الحالة-، وليس للأفراد هذا السلطان ليُعمِلُوه.
- وفي الوقت نفسه نجد أنَّ منظومة الجزاء “الثواب والعقاب” ترتبط بالمُوكَّل إليه الفعل وكذلك بالمَأمور بالفعل. وعليه فذنب الأب تجاه أبنائه غير ذنبه تجاه صديقه؛ فعليه أنْ يُقِيم أبناءه وأنْ يُناصح صديقه على درجات من المناصحة. وكذلك في الحكومة فتأثم الحكومة ويتحمَّل القائم عليها الوزر البالغ إذا قصَّر في أداء هذا الأصل، وليس كذلك الأمر بالنسبة لأفراد الناس الذين أبلغوا الحُكم كي يرفع المنكر ولمْ يرفعه. وهكذا ترتبط الجزاءاتُ بمَحلّ التكليف والمَنوط بالقيام به. وفي الأمر تفصيل محلُّه كتب الفقه.
- تنويع درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فأوَّلها درجة التناصح، وهي أَوْلَى الدرجات بالالتزام دومًا، خاصةً بين الإخوة والأصدقاء ولا ننسى هنا الهدوء في توجيه النصح، وإشعار الآخر بالصدق في النصيحة وأنَّها تأتي اهتمامًا بأمره لا إقامةً للسلطان عليه. فإنَّ النفوس رعناء تذهب في حالات الغضب -أو ما قبل الغضب- إلى أسوأ الافتراضات فتفترضها. أمَّا في مقام السلطان فعليها بما فوق التناصُح وهو التغيير الحقيقيّ بما أوكلها الشرع من قُوَّة وبضوابطه أيضًا.
- وهُنا كي ننهي هذا النقاش -الذي لن ينتهي إنْ استرسلنا- نؤكد على أنَّ ظاهر النصوص ومجموعها يدلُّ دلالة صريحة على أنَّ النُّكولَ عن هذا الأصل من السلطان (كلمة السلطان تعني الحكومة أو الحُكم) خاصةً -لأنَّ الشرع بقوَّته خَوَّلَه هذه الأمانة وأولى إليه هذه المهمة- تفويتٌ لقصد الشارع، ونكولٌ عن الأمانة، وخيانةٌ للدين ولأمانتِهِ ووكالةِ الشرع لها. وعلى القائمين عليها العودة إلى هذا الأصل متى خرجوا.
حِكمة أنْ يكون قلبك مُنكِرًا للمُنكَر
وهُنا نقف عند آخر جملة في الحديث وهي: “فإنْ لمْ يستطِع فبقلبِهِ، وذلك أضعف الإيمان”؛ فلماذا ركَّز الإسلام على إنكار القلب؟ أوَّلًا لأنَّ القلب محلّ الإيمان، وهو محلّ شعور المرء تجاه الأشياء والأشخاص والتصرُّفات. فهو بالطريق المُختصر “محلّ المَوقِف الفعليّ للإنسان”. وهو يعبِّر عن هذا الموقف الفعليّ حتى لو خالَفَ الفعلُ الظاهرُ شعورَ القلب ومُستقرَّه. وثانيًا -وبِناءً على أوَّلًا- القلب أيضًا محلّ الفساد وسرعان ما يتسرَّب الفساد إليه من مُجاورة الفعل الباطل السيِّء، فيبدأ في قبوله يومًا بعد يوم، بعد أنْ كان مُنكِرًا له في أوَّل الأمر.
لذلك حرص الإسلام على أنْ تنكر الباطل بقلبك حتى إنْ لمْ تستطِع بيدِك، وأنْ تنكره بقلبك حتى إنْ لمْ تستطِع بلسانك. بل النصوص المُتعلِّقة بأصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدور حول قلوب المُكلَّفين وأحوالها في المقام الأوَّل. واذكُرْ في حديث عقوبة بني إسرائيل جملةَ “فلمَّا فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض”.
فأشهِدْ اللهَ على صلاح قلبك يا عبده الصالح، واتَّقِ الله ما أمكنك، وأفشِ سُنَّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياتك، وأفشِ خُلُق النصيحة والتناصُح، وافعلْ على قدر ما تستطيع الآن. وإذا همَّك وغمَّك أنَّ المُجتمع فيه ما فيه فاعلمْ أنَّك ستُحاسب على نفسك وبمفردك. وأنَّ كُلَّ فرد سيأتي والأمانة التي أُوكلِتْ إليه في عُنقه؛ فإمَّا تكون مَنجاةً له يوم القيامة، وإمَّا أنْ تكون مَخزاةً له يومها. فاللّهم أخزِ الظالميْنَ بظُلمهم، وأعِنَّا على الحقّ، وارحمنا برحمتك في الحياة وبعد الممات.
(المصدر: موقع تبيان)