مقالاتمقالات مختارة

الأمر باختلاف الاجتهاد في إطار الجوامع | بقلم د. محمد الصادقي العماري

بقلم د. محمد الصادقي العماري (تخصص العقيدة والفكر الإسلامي، رئيس مركز تدبير الاختلاف للدراسات والأبحاث، فاس-المغرب)

 

الاختلاف الواقع بين العلماء ممن لهم أهلية الاستمداد من النصوص، اختلاف توسعة ورحمة بالأمة، ما دام اجتهادهم له أصل يرجع إليه قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾[1](النساء:59)[2]، في هذه الآية حث للأمة الإسلامية على التمسك بالمرجعية العاصمة من الاختلاف، الموحدة للفكر والمنهج، الموجهة للاختلاف نحو الجامع المؤلف يقول الإمام الشاطبي أن الشارع: “لما علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع، أتى فيه بأصل يرجع إليه وهو قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾(النساء:59)”[3].

فإن الائتلاف والاتفاق خير من الاختلاف، حتى في المسائل الاجتهادية السائغ الاختلاف فيها، فلا يجوز قصد الاختلاف، والرغبة فيه، وإن كان جائزا، بل قصد الائتلاف والاتفاق، أو التوافق في إطار الجوامع، لأن الشارع قصد إلى الأمر بالائتلاف، وشرع قواعد لذلك يقول ابن تيمية: “من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأمر بالائتلاف والاجتماع، والنهي عن الاختلاف والفرقة”[4].

يقول الشوكاني في قوله تعالى: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾(الشورى :13) أي: “لا تختلفوا في التوحيد والإيمان بالله، وطاعة رسله وقبول شرائعه، فإن هذه الأمور قد تطابقت عليها الشرائع، وتوافقت فيها الأديان، فلا ينبغي الخلاف في مثلها، وليس من هذا فروع المسائل التي تختلف فيها الأدلة، وتتعارض فيها الأمارات، وتتباين فيها الأفهام، فإنها من مطارح الاجتهاد، ومواطن الخلاف”[5]، وقال ابن كثير: ” أي: وصى الله سبحانه وتعالى جميع الأنبياء، عليهم السلام، بالائتلاف والجماعة، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف”[6].

فكل خلاف يقصد في الأصول مذموم، منهي عنه، ويتعلق به الوعيد، ويشذ بصاحبه عن الجماعة، ويؤدي به إلى الهلكة، لأن وجه الحق مقطوع بصوابه، والآخر مقطوع بخطئه، وقد يكون هذا الخطأ كفرا، أو بدعة، أو فسقا، وهذا النوع من الخلاف في الحقيقة ليس بخلاف، ولا يعتد به مهما كان صاحبه الذي صدر منه.

وذكر العلماء لهذا النوع من الخلاف في القطعيات والجوامع، إنما هو للتنبيه عليه، وعلى ما فيه، لا لاعتباره يقول الشاطبي: “فأما المخالف للقطعي فلا إشكال في اطِّرَاحِهِ، ولكن العلماء ربما ذكروه للتنبيه عليه، وعلى ما فيه لا للاعتداد به”[7].

والخلاف المنفي عن الشريعة هو: التناقض والتعارض بين نصوص الوحي، أما الاختلاف في الاجتهاد والتأويل فيما يحتمل الاجتهاد والتأويل فجائز، أقرته نصوص الشريعة نفسها يقول الشاطبي: “الاختلاف منفي عن الشريعة بإطلاق، لأنها الحاكمة بين المختلفين لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ﴾(النساء:59)، إذ رد التنازع إلى الشريعة، فلو كانت الشريعة تقتضي الخلاف لم يكن في الرد إليها فائدة”[8].

ويقول رحمه الله في نص طويل، نورده كاملا: “ومنها أن قوله: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ﴾ نكرة في سياق الشرط تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دقه وجله، جليه وخفيه، ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه ولم يكن كافيا، لم يأمر بالرد إليه إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع. ومنها أن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد(إلى نفسه) في حياته، وإلى سنته بعد وفاته .. ومنها: أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان، ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين، فإنه من الطرفين، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر، ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم، وأن عاقبته أحسن عاقبة .. ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول، فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه، والطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله .. وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾(الأحزاب:36) فأخبر سبحانه: أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله ومن تخير بعد ذلك فقد ضل ضلالا مبينا”[9].

لذلك نهى الله عز وجل عن التفرقة والاختلاف في دينه، كما في قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾(الشورى:13). فقصد الخلاف منهي عنه شرعا، سواء كان ذلك في الأصول أو الفروع، الشارع نهى عن الخلاف الهادم للائتلاف، وأمر بالاختلاف في إطار الجوامع.

الاختلاف في الدين مذموم، كل خلاف أدى إلى التفرق والنزاع مذموم، أما الاختلاف في فهم الدين من أهل الاجتهاد فلا يضر، بل هو اختلاف في إطار الجوامع، فهو اختلاف في فهم الدين، لا اختلاف في الدين يقول الشوكاني: “.. وتخصيص بعض مسائل الدين بجواز الاختلاف فيها دون البعض الآخر، ليس بصواب، فالمسائل الشرعية متساوية الأقدام في انتسابها إلى الشرع”[10]، يؤكد رحمه الله على أن مسائل الدين متساوية أصولها وفروعها، لأن للفروع قطعيات، كما للأصول قطعيات.

وبالجملة، الخلاف -وإن أراده الله قدرا كسائر الذنوب-، إلا أنه نهى عنه شرعا، لأنه شرٌّ وعذاب، وأن التوسعة والرحمة في الاجتهاد المأذون به شرعا، لا في الخلاف المنهي عنه شرعا، المحرم قصده، سواء كان في الأصول أو الفروع، والخلاف إذا كان عن اجتهاد لا يذم، ولا يأثم صاحبه، سواء كان في الأصول أو الفروع، وإن خُطّئ في اجتهاده، لأن الشارع حث على الاجتهاد وأمر به، بل جعل واجب المجتهد الأخذ باجتهاده، ولا يجوز له العدول عن اجتهاده إلى اجتهاد غيره، وإلا عد ذلك تقليدا.

والخلاف الذي وقع فيه الصحابة وأئمة العلم -رضي الله عنهم-، ما طلبوه ولا رغبوا فيه، -أي: ما وقعوا فيه قصدا-، وإنما وقعوا فيه عرضا، بمعنى أن الاختلاف كانت له أسبابه الموضوعية التي أوجبته، اختلفت الأفكار والآراء بناء على مناهج علمية، وطرق في الاستنباط معتبرة، كان قصدهم الوقوف على مراد الشارع واستنباط الأحكام الشرعية، لكن وقع الاختلاف في النصوص الظنية، وكان القصد واحدا، وكانت مرجعيتهم واحدة، لذلك كان اختلافهم في إطار الجوامع.

المصادر والمراجع:

* القرآن الكريم.

– الاعتصام الشاطبي(ت: 790هـ) ، تحقيق: سليم بن عيد الهلالي، دار ابن عفان، السعودية، ط/1، (1412هـ/1992م).

– الموافقات في أصول الشريعة، الشاطبي(ت: 790هـ)، شرحه وخرج أحاديثه: عبد الله دراز، وضع تراجمه: محمد عبد الله دراز، خرج آياته وفهرس موضوعاته: عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط/1، (1411ه/1991م).

– تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب، دمشق، بيروت، ط/1، (1414هـ)، 7/195.

– فتح القدير، الشوكاني(ت: 1250هـ)، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب، دمشق، بيروت، ط/1، (1414هـ)، 4/607.

– مجموع الفتاوى، ابن تيمية(ت:728هـ)، تحقيق: عبد الرحمان بن محمد بن القاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، السعودية، (1416ه/1995م).

[1]– تأمل قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(النساء:65)، ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾(النساء:83)، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾(الأحزاب 36).

[2]– الاعتصام الشاطبي(ت: 790هـ) ، تحقيق: سليم بن عيد الهلالي، دار ابن عفان، السعودية، ط/1، (1412هـ/1992م)، 2/393.

[4]– مجموع الفتاوى، ابن تيمية(ت:728هـ)، تحقيق: عبد الرحمان بن محمد بن القاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، السعودية، (1416ه/1995م)، 3/422.

[5] – فتح القدير، الشوكاني(ت: 1250هـ)، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب، دمشق، بيروت، ط/1، (1414هـ)، 4/607.

[6] – تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب، دمشق، بيروت، ط/1، (1414هـ)، 7/195.

[7] – الموافقات في أصول الشريعة، الشاطبي(ت: 790هـ)، شرحه وخرج أحاديثه: عبد الله دراز، وضع تراجمه: محمد عبد الله دراز، خرج آياته وفهرس موضوعاته: عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط/1، (1411ه/1991م)، 4/125.

[8] – الاعتصام، الشاطبي، 2/755.

[9] – الاعتصام، الشاطبي، 2/92 وما يليها.

[10] – فتح القدير، الشوكاني، 1/423.

 

(المصدر: مركز تدبير الاختلاف)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى