مقالاتمقالات مختارة

الأقصى بوصلة الصراع!

الأقصى بوصلة الصراع!

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:

فمع أن اليهود قوم أُعطوا العلم منذ قديم الزمان، ولازالت الصفة العلمية فيهم إلى يومنا هذا، إلَّا أن الله قد ابتلاهم بمجانبة الكياسة في التصرفات إلى درجة الحُمق أحياناً، وهو حمق في المضمون، أو التوقيت، أو المكان. وبسببه سارعوا في توريط أنفسهم، ولا أدلَّ على ذلك من تعاليهم على الله جلَّ جلاله، ومعاندتهم للأنبياء عليهم الصلاة والسلام لدرجة قتلهم، أو الشروع في محاولة قتلٍ محفوفة بالمخاطر والفضيحة كما فعلوا في المدينة مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكتفوا بمجرد التكذيب الذي تشاركهم فيه أمم كثيرة.

ومنه استعداء مَنْ حولهم حتى نُبذُوا من قبل أهل الجوار في أكثر البقاع قديماً وحديثاً. وبغياب الحكمة فقدوا التأني وأصيبوا بسعارٍ من العجلة لتحقيق الأهداف، وشراهةٍ في الاستئثار ومنع الآخرين من النَّقير فضلاً عمَّا هو أكثر، وارتباطٍ لاهثٍ بعالم الشهادة المادي دون التفاتٍ لعالم الغيب مع علمهم به. وإضافة لهذا لم يُحسنوا التعامل حتى مع من تواطأ معهم؛ ففضحوا كثيراً من الأسرار المخفيَّة، وتجسَّسوا على أقرب الحلفاء، وصارت بعضُ تصرفاتهم رعناء معاكسة لما عندهم من علم، ومخالفة لمقتضيات العقل الإستراتيجي اليهودي الذي يشتهرون بامتلاكه.

من هذه التصرفات الهوجاء هجومهم الأخير على سكان حي الشَّيخ جراح، وعلى المصلين في المسجد الأقصى المبارك، وما تبع ذلك من انتكاسات لليهود على الصُّعد الإعلامية، والسياسية، والعسكرية، فضلاً عن الخسائر الاقتصادية، وما قد يلحق هذه الحرب من فضائح ومحاكمات وتراجعات انتخابية، ومن يدري فلربما تكون أحداث أحد عشر يوماً من الرشقات الصاروخية في السماء، والرشقات الإعلامية والجماهيرية على الأرض، بداية انقلاب في موازين كانت ثابتة لا تتزحزح.

فمِن أبرز التغييرات الجوهرية في هذه الأحداث ما شاهده العالم من حضورٍ لافتٍ للسردية الفلسطينية والعربية والإسلامية في شأن العدوان اليهودي، وإقصاء الاستفراد اليهودي والصهيوني في الرواية والتفسير. وحملَ الجزءَ الأكبرَ من هذا النصر الإعلامي فرسانٌ خلف شاشات ربما تكون صغيرة الحجم، بَيْد أنها – قطعاً – كبيرة الأثر وعظيمـة التأثيـر؛ إذ جعلـت مساحات وسائل التواصل الاجتماعي، ووسائط الإعلام الجديد والمتحرك، تنطق بجزء غير يسـير من الحقيقـة بعد زمن استحكم فيه علو الزور والبهتـان اليهـودي مع سفولهما الحقيقي، وتهافتهما أمام التاريخ والمنطق والواقع.

ومن ثمار هذا الحضور الإعلامي المؤثر والمكثف، أن تبدلت لهجة بعض مؤسسات الإعلام التقليدي التي بقي لديها ذرات من الحياء خلافاً للممسوخين الذين ارتضوا مكان الذيل المهين والتابع الذليل. وأسهمت هذه المستجدات كلُّها في إظهار أصوات غربية كانت مكبوتة فيما مضى، أو مصابة بعشىً ليليٍّ وعمىً نهاريٍّ تجاه قضايانا، ولذا سمعنا ورأينا عدداً من الإعلاميين، والمفكرين، والساسة، والبرلمانيين، والمشاهير، يقولون كلماتٍ وتعابيرَ غير معهودة عن إرهاب اليهود، وجرائم العدوان الإسرائيلي، والعنف من قِبَل تل أبيب، وكنَّا نظن فيما مضى أن سماع بعض هذا القول أشبه بالمستحيل!

فذهبت أسطورةُ (الديمقراطية) في دولة الكيان الغاصب، واندثرت قيودٌ كانت تكبِّل أصحاب الحقِّ في تعاملهم مع وسائل الإعلام التي شاع من التهويلات عن سيطرة اليهود عليها ما جعل تطورات هذه الأيام إعلامياً ضرباً من المستحيل الذهني، والذي تبيَّن أنه لم يكن مستحيلاً على أرض الواقع، وأن الآلة الدعائية الضخمة لأعدائنا صنعت لهم تصورات أكبر من الحقيقة حتى تخيفنا، أو تخذلنا، أو ترجف بنا، وحين انجلى الغبار استبانت الحقائق وانكشف الزيف، وظهر أن مارِدَهم الإعلامي قابل لأن يُقهر ويُستعلى عليه.

وزاد من وَقْع الأمر، وارتداد الفعل الأحمق على (إسرائيل) وساستها، ذلكم الهجوم الشرس الذي أدى إلى تدمير المبنى الإعلامي المستخدم من شبكات إعلامية عالمية، وليس فيه أيُّ أثر لعمل عسكري أو مقاوم للعدوان اليهودي. فأصبح هذا المبنى بعد أن هوى فضيحة ووبالاً على (إسرائيل)، ولو أحسن العرب استثمار صور هذا الحدث بلغات العالم، لساهموا في بيان حقيقة اليهود وحرياتهم وإنسانيتهم؛ فعدد غير قليل من شعوب أمريكا وأوروبا يقدسون حرية الصحافة، ويعظِّمون مسألة حماية الإعلاميين، ويجب أن تبقى صورة المبنى وهو يسقط حاضرة في أذهان الناس كلما أراد أحدهم تمجيد اليهود بشيء من الفضائل البريئة منهم والبعيدة عنهم.

كما تضافرت حشود ضخمة مع هذه الهبَّة الإعلامية في العالم الافتراضي، وعبر الأثير، وخلال الأقمار الصناعية، وضمن الصحف والمجلات، وتظاهرت سلمياً على الأرض في دول من ذوات (الفيتو) الظالم المنحاز وغيرها، وجابت تلك الجموع الغاضبة بهدوء عدَّة ولايات أمريكية، وبضع عواصم أوروبية وعالمية، فضلاً عن بلدان عربية وإسلامية، لتؤكد جميعُها على أن صوت الأحرار يعلو حين ينتظم، ويتفوق إذا عرف الهدف، وينتصر إذا تسامى على المشتِّتات، وينال مطلوبه أو بعضه إذا صبر وصابر، ولم يُستَفَز، أو يترك ثغرة ينفذ منها المخربون بالدسائس.

كذلك اضطرت بعض الدول الكبرى والدول الدائرة في أفلاكها إلى الرجوع خطوات نحو الوراء، والنظر للشأن الفلسطيني بما فيه من مظالمَ وانتهاكات إنسانية من قوى الاستكبار اليهودي، بطريقة تُخفِّف من حَنَقِ الغاضبين داخل الأرض المحتلة كلِّها أو في بقاع العالم. وكم أعاقت هذه الحرب ونتائجُها من مشاريع وصفقات، وكم أجهضت الحرب الأخيرة من اتفاقيات ومخططات، أو خففت من سرعتها المتهورة على أقل تقدير.

ولأجل ذلك رفعت بعض الدول والمنظمات راية التوفيق بين الأطراف، وأظهرت أخرى انحيازَها للحق الفلسطيني، وقيادتَها للمفاوضات، وربما تحدثُ تراجعات قريبة في بعض المواقف المتصلِّبة الحديثة، حتى يجد العالم سبيلاً ينفذون منه لمن يستسهل المقاومة من أبطال فلسطين، وغاية هذه الجهود حماية اليهود من بأس أولئك الأبطال ذوي الجدية في الدفاع عن حقوقهم التي تقرُّها الشريعة، ولا تتعارض معها الأنظمة والطبائع الخالية من التحيُّز، وأما الذين اعتادوا على الانبطاح من المنتسبين لفلسطين فلن يرفع بهم أحدٌ من القوى الكبرى والمحيطة رأساً فما دونه!

واللافت أنَّ جلَّهم يصنعون ذلك مراعاة لمصالح (إسرائيل) التي انتصرت على بضعة بلدان عربية وهزمت جيوشَها النظامية المسلحة في ستَّة أيام فقط، بينما عجزت عن سحق أو سلخ أو إسكات شعب أعزل محاصرَ منذ ستين سنة! ويفعلون ذلك وهم الذين تعودنا منهم السكوت حين تسقط حمم (إسرائيل) على رؤوسنا، وتثور براكينها، وتشتعل نيرانها الملتهبة في أراضي بلاد عربية مخلِّفة القتلى والجرحى والدمار، بينما لا نسمع منهم الأصوات العالية المستنجدة والمتدثرة بالسلام وضبط النفس إلَّا على أثر تتابع ذلكم الوافد الجديد بسيل دافق من تلك الرشقات التي سوف تتنامى في العدد، وتختلف في الكيفية والقوة مع الأيام، حتى يقول قائل يهود: انج (عزرا) فقد هلك (كوهين)!

أما المصالح العربية، وحفظ حقوق فلسطين وشعبها، وحقن دمائهم، وحماية نسائهم وأطفالهم وشيوخهم وعامة الناس في أراضيهم، ومنع الدمار في بلادهم ومبانيهم ومزارعهم ومقدساتهم، فمطلبٌ بعيد عن عناية رعاة حقوق الإنسان كما يزعمون، وغير وارد عند تلك العواصم الظالمة المظلمة من واشنطن إلى باريس مروراً بلندن، ولو أن الغلبة كانت لجيش يهود، فلن نجد منهم غير الصدود أو الكلام الخالي من العمل والقيمة، حتى لو مسحت البلدات الفلسطينية بمن وما فيها.

ولا نستغرب ذلك فالكفر ملة واحدة، ودول العالم القوية تدعم مادياً ومعنوياً أيَّ فعل من قبل (إسرائيل) وغيرها ما دام القتيل، والمهدوم بيتُه، والمهجَّر عن أرضه، مسلماً أو عربياً. وترى هذه الدول الراعية للإرهاب الحقيقي أن عدوان إخوتها في الكفر دفاع مشروع عن النفس، ولا غضاضة فيه حتى وإن صار عنفاً على عنف، ولو صدر أيُّ فعل مقاومة من أمتنا فهو لديهم ولدى أتباعهم من بني جلدتنا إرهاب وخلاف لوازمِ الحكمة، وذلك منهج قديم يتواصى به الكافرون والمنافقون!

وعلى أي حال فقد فهمنا وفهم العالم من أحداث فلسطين الأخيرة جملة من الحقائق هي:

  • فلسطين قضية حاضرة في وجدان الشعوب العربية والمسلمة، وشأنها راسخ في الأمشاج وإن اختلفنا، فهي أرض المسرى والمعراج النبوي، والفتح العمري، والاسترجاع من المجاهدين نور الدين وصلاح الدين، وستبقى أرضاً مقدسة بمسجدها، وتاريخ الأنبياء عليهم السلام فيها، وببركاتها الشرعية، وكونها أرض المحشر.
  • القوة هي اللغة الوحيدة التي تُسمع من قبل العالم ومن الأقوياء على وجه الخصوص؛ وإنما يكون الصمم جزاء الكلام المائع والفعل الجبان، والاستنجاد بشرعيةٍ دوليةٍ، أو مجلسٍ فئويٍّ، أو رباعيةٍ صليبيةٍ، أو بيتٍ البياضُ في لونه الخارجي فقط!
  • ستنتهي رقدة هذه الأمة التي طالت في وحل الخبال، وما يجري على الأرض مرة تلو أخرى أشبه بوخزات إيقاظ مرتقب.
  • لا يستطيع اليهود – مع ترسانتهم المخيفة المتنوعة والمدمرة – حماية أنفسهم فضلاً عن غيرهم!
  • فشلت أمريكا ودول أوروبا في نصرة أهم حلفائهم على كثرة ما ترفده بالمال والسلاح والفيتو والإعلام.
  • أولياء الله لا يضرهم من خذلهم وآذاهم، حتى لو تآزرت عليهم حكومات الكفر والزيغ قاطبة.
  • شهر رمضان موسم عزة ونصر للأمة الصائمة المجاهدة حتى يأتي يوم عيد الأعياد والفرح والمسرات.
  • في الإعلام معركة لا تقلُّ عن معارك الحروب والقتال الميداني.
  • ثمة جيل عزيز من الأبطال، وُلِد وهو يرى مقدساته وما يجري حولها، فثبت في أرضه المحتلة، وعَلِم عِلْمَ اليقين مَنْ أعـداؤه، ووَقَر في روعـه أنه منصـور ولا خيار آخـر لديه، وأنه إن لم ينـل مراده فسـيورِّث مفاهيمه لمن خلفه.
  • سيظلُّ المسجد الأقصى المبارك موجِّهاً أميناً لبوصلة الصراع مع الغاصبين، وستنجفل الأمة تلقائياً إلى كلِّ من يدافع عنه ولو تحفظت على بعض مواقفه.
  • فشل جهود تزوير الوعي العربي والإسلامي، واندحار مشروعات نزع فلسطين من الذاكرة الإسلامية والعربية.
  • أهمية الأصوات ذات الأصول العربية في الدول الغربية، وما أولى مدِّ جسور الصلة مع أولئك الذين هاجر أجدادهم، فالمحتد الأصيل يبقى!
  • ثمَّ صدق الله القائل في محكم التنزيل:{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْـخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]؛ فإن القوم لا يرهبهم سوى القوة والاستعداد للمواجهة، ويبدو أن ما حدث في فلسطين – وبعضه غير مسبوق مثل كثافة القصف الصاروخي، وكثرة الدخول إلى الملاجئ، واستعانة متحدثي الجيش المحتل بالقرآن الكريم لأجل السلم، وتحكُّم قادة المقاومة بساعات الحظر على اليهود – قد دفع الإدارة الأمريكية للتعجيل في استرجاع الدول المحيطة لأدوارها القديمة، مع استنهاض بعض ما خَفَتَ أو بَهَتَ من أشخاص ومؤسسات لحفظ ما بقي لحكومة الاحتلال من ماء وجه؛ عقب وقوعها في أزمة ظهرت على وجوه الحكومة المصغرة الصاغرة.
  • إن الأقصى وبقعته المباركة هو البوصلة المؤثرة على أيِّ حَرَاك فوق الأرض المحتلة، ومن يدافع عنه تكون له الأولوية وواجب النصرة بغضِّ النظر عن تقويم جملة مواقفه وتصريحات زعمائه، فالأقصى والقدس وقضية فلسطين كاملة لا يفيد معها الكلام والتفاوض من موضع ضعف، ولن ترفع هذه الإجراءات الهزيلة رأس أحد من المنهمكين فيها؛ لأن الأيام أثبت أنها خالية الوفاض وبلا فائدة، فضلاً عن أن اليهود قوم بُهْتان وغدر ليس لعهد عندهم وفاء، ولا يعطون شيئاً من تِلقاء أنفسهم، فليس لهم إلَّا القوة التي تتشامخ رايتها، ولا تسقط من أيدينا حتى يتسلَّمها المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، فيقضي على مسيح الضلالة الذي يبجله اليهود.

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى