الأفضلية بين العشر الأوائل من ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان
بقلم أ. د. فؤاد البنا
قضت حكمة الله بجعل الأيام والليالي أوعية للابتلاء الدنيوي الكبير؛ حتى يرى الله من سيقوم من عبيده بالاستجابة له ولرسوله في ما دعاهم إليه مما يحييهم حياة طيبة لا تخلو من مشاق وكُبَد، ويرى هل سيملأون هذه الأواني بالأعمال الحسنة أو بالسيئة!
ومثلما اصطفى الله بعض البشر بعلمه وفضله فقد اصطفى بعض الأوقات، حيث اصطفى بعض الساعات من الأيام والليالي، واصطفى الجمعة من بين أيام الأسبوع، واصطفى أياماً من الشهر وشهراً من العام، كما أشارت إلى ذلك نصوص الوحي في مواضع متعددة كما هو معلوم.
ومن يتدبر ما ورد في القرآن وما صحّ من أحاديث المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم؛ سيصل إلى حقيقة مفادها أن أفضل أيام العام هي العشر الأوائل من ذي الحجة، وأن أفضل الليالي هي ليالي العشر الأواخر من رمضان، بمعنى أن الشمس لم تطلع على أيام أفضل من عشر ذي الحجة ولم يبزغ القمر على ليالي أفضل من عشر رمضان.
بالنسبة لعشر ذي الحجة فقد ذكر مفسرون أنها المقصودة بقوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات}، وأبانت بعض الأحاديث الصحيحة أنها خير أيام طلعت عليها الشمس، أما عشر رمضان فقد أقسم الله بها في مطلع سورة الفجر بقوله تعالى: {والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسري}، ومع أن الليالي قد يقصد بها في لغة العرب الوقت الذي يستغرق ال ٢٤ ساعة، فإن المرجح أن المقصود بها ليالي رمضان، ومما يؤكد أن المقصود بالقسَم هنا هو العشر الأواخر من رمضان، أن ليالي عشر رمضان هي خير ليالي العام، ففيها ليلة القدر التي تنزل فيها القرآن الكريم، وليلة القدر وحدها خير من ألف شهر بنص القرآن، وفيها تتنزل الملائكة بأقدار الله وفيها يُفرق كل أمر حكيم، وبجانب ذلك فهي من الليالي التي تصفد فيها الشياطين وتغلق أبواب النيران وتفتح أبواب الجنان، بجانب أن النافلة تكتب فيها بفريضة!
ومع أن الأفضلية الزمنية منحة رحمانية يتصرف الله فيها وحده كما يشاء، إلا أن من الواضح أن الله فضّلها لأسرار أودعها فيها، وتكريماً لفرائض متصلة بها، فقد ارتبطت العشر الأواخر من رمضان بفريضة الصيام وتنزّل القرآن وفيها أفضل ليالي العام على الإطلاق وهي ليلة القدر التي ذكرها القرآن في سورتي القدر والدخان، وجاءت العشر الأوائل من ذي الحجة مرتبطة بفريضة الحج وفيها يوم الحج الأكبر وهو أفضل أيام العام بدون منازع، مثلما أن ليلة القدر أفضل ليالي العام من دون خلاف. ومن المعلوم أن أهم مشاعر الحج تتم في النهار وعلى رأسها الوقوف في عرفة.
ولأن هذه الأيام والليالي مواسم جهاد وحصاد بالنسبة للمؤمنين، فقد ختمها الله بجائزتي فرح واستبشار ليفرح المؤمنون العاملون بفضل الله عليهم الذي منحهم زادي الصيام والحج حتى يساعدهم في مغالبة مشاق الطريق، وتفضّل عليهم ببركة تلك الليالي والأيام، حيث ختم عشر ذي الحجة بعيد الأضحى وختم ليالي رمضان بعيد الفطر.
وصفوة القول إن هاتين العشريتين هما أفضل موسمين في العام، لكن الأوقات تتفاوت وفقا لقانون النسبية الذي له حضور واسع في القرآن، فالليالي أفضل في عشر رمضان، والنهارات أفضل في عشر ذي الحجة، وبهذا تتكامل النصوص ولا تتناقض. ويعلم الله أن هذه النتيجة تفتقت في عقلي بعد جمع الأدلة دون أن أعرف أن هناك من قال بهذا التفاوت بين الليالي والأيام، وقد سبق ونشرت هذا المقال من قبل، وقبل أيام قليلة فقط غمرني الفرح حينما علمت أن شيخ الإسلام ابن تيمية توصل من قبل إلى هذا التفريق.