الأصول العشرة لنقد معضلة الشر
بقلم رضا زيدان
الأصل الأول (لله ملك السماوات والارض):
أن الله هو المتفرّد بالملك والتصرّف، وأن هذا التصرّف دائر بين العدل والفضل والحكمة والمصلحة لا يخرج عن ذلك، وأن الخير كله بيديه ليس لأحد معه منه شيء، قال تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(آل عمران: 26).
الأصل الثاني (الشر ليس إليه):
رغم أن الله خالق كل شيء إلا أن:
1- الشرّ ليس إليه، كما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يثني على ربه بذلك في دعاء الاستفتاح في قوله: (لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت). فتبارك وتعالى عن نسبة الشرّ إليه، بل كل ما نسب إليه فهو خير.
ولكن، قد يقال: إن الله هو الذي خلق المخلوقات التي تسبّب في وجود الشر، والجواب كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية إن:
2- القبائح يتّصف بها من كانت فعلًا له كما يفعلها العبد وتقوم به ولا يتّصف بها من كانت مخلوقة له إذا كان قد جعلها صفة لغيره، كما أنه سبحانه لا يتّصف بما خلقه في غيره من الطعوم، والألوان، والروائح، والأشكال، والمقادير، والحركات وغير ذلك؛ فإذا كان قد خلق لون الإنسان لم يكن هو المتلوّن به وإذا خلق رائحة منتنة أو طعمًا مرًّا أو صورة قبيحة ونحو ذلك مما هو مكروه مذموم مستقبح لم يكن هو متّصفًا بهذه المخلوقات القبيحة المذمومة المكروهة والأفعال القبيحة. ومعنى قبحها كونها ضارة لفاعلها وسببًا لذمّه، وعقابه، وجالبة لألمه وعذابه. وهذا أمر يعود على الفاعل الذي قامت به؛ لا على الخالق الذي خلقها فعلا لغيره.[1]
الأصل الثالث (لا ينكر الحكمة الظاهرة إلا جاحد):
يشهد الوجود لله بحكمته وعنايته بخلقه، وما في مخلوقاته من الحِكم، والمصالح، والمنافع، والغايات المطلوبة، والعواقب الحميدة أعظم من أن يحيط به وصف أو يحصره عقل، ويكفي الإنسان فكره، وخلقه، وأعضائه ومنافعها، وقواه وصفاته وهيأته؛ فإنه لو استنفد عمره لم يُحط علمًا بجميع ما تضمّنه خلقه من الحِكم والمنافع على التفصيل والعالم كله بهذه المثابة، ولكن لشدّة ظهور الحكمة ووضوحها وجد الجاحد السبيل إلى إنكارها. وهذا شأن النفوس الجاهلة الظالمة كما أنكرت وجود الصانع تعالى مع فرط ظهور آياته ودلائل ربوبيته بحيث استوعبت كل موجود ومع هذا فسمحت بالمكابرة في إنكاره.[2]
الأصل الرابع: (إدراك سنة الله):
سنة الله في خلقه وأمره فعل الخير الخالص والراجح، والأمر بالخير الخالص والراجح، فإذا تناقضت أسباب الخير والشرّ، والجمع بين النقيضين محال، قدّم أسباب الخير الراجحة على المرجوحة ولم يكن تفويت المرجوحة شرَّا ودفع أسباب الشرّ الراجحة بالأسباب المرجوحة، ولم يكن حصول المرجوحة شرًّا بالنسبة إلى ما اندفع بها من الشر الراجح.
وكذلك سنته في شرعه وأمره فهو يقدّم الخير الراجح وإن كان في ضمنه شر مرجوح ويعطّل الشرّ الراجح، وإن فات بتعطيله خير مرجوح. هذه سنته فيما يحدثه ويبدعه في سماواته وأرضه وما يأمر به وينهى عنه.
وكذلك سنته في الآخرة وهو سبحانه قد أحسن كل شيء خلقه وقد أتقن كل ما صنع، وهذا أمر يعلمه العالمون بالله جملة ويتفاوتون في العلم بتفاصيله.
وإذا عرف ذلك فالآلام والمشاق إما إحسان ورحمة، وإما عدل وحكمة، وإما إصلاح وتهيئة لخير يحصل بعدها، وإما لدفع ألم هو أصعب منها، وإما لتوّلدها عن لذّات، ونعم يولّدها عنها أمر لازم لتلك اللذات، وإما أن يكون من لوازم العدل، أو لوازم الفضل والإحسان؛ فيكون من لوازم الخير التي إن عطّلت ملزوماتها فات بتعطيلها خير أعظم من مفسدة تلك الآلام[3].
الأصل الخامس (المكاره أسباب قدرها الله للخير):
استقرّت حكمته سبحانه أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة والتعب، ولا يدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق، ولذلك حفّت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات، ولذلك أخرج صفيه آدم من الجنة وقد خلقها له واقتضت حكمته أن لا يدخلها دخول استقرار إلا بعد التعب والنصب؛ فما أخرجه منها إلا ليدخله إليها أتم دخول، فلله كم بين الدخول الأول والدخول الثاني من التفاوت. وكم بين دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في جواد المطعم بن عدي ودخوله إليها يوم الفتح. وكم بين راحة المؤمنين ولذتهم في الجنة بعد مقاساة ما قبلها وبين لذتهم لو خلقوا فيها. وكم بين فرحة من عافاه بعد ابتلائه وأغناه بعد فقره وهداه بعد ضلاله، وجمع قلبه بعد شتاته وفرحة من لم يذق تلك المرارات. وقد سبقت الحكمة الإلهية أن المكاره أسباب اللذات والخيرات كما قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)[4].
الأصل السادس (الفعل ينظر له من وجهين):
الشرّ في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله، وخلقه وفعله وقضاؤه وقدره كل خير، ولذلك تنزّه عن الظلم الذي هو وضع الشيء في غير موضعه؛ فأسماؤه الحسنى تمنع نسبة الشرّ والسوء والظلم إليه مع أنه سبحانه الخالق لكل شيء فهو الخالق للعباد وأفعالهم وحركاتهم وأقوالهم. والعبد إذا فعل القبيح المنهي عنه كان قد فعل الشرّ والسوء، والربّ سبحانه هو الذي جعله فاعلًا لذلك، وهذا الجعل منه عدل وحكمة وصواب؛ فجعله فاعلًا خير والمفعول شر قبيح؛ فهو سبحانه بهذا الجعل قد وضع الشيء موضعه لما له في ذلك من الحكمة البالغة التي يحمد عليها؛ فهو خير وحكمة ومصلحة، وإن كان وقوعه من العبد عيبًا ونقصًا وشرًّا، وهذا أمر معقول في الشاهد؛ فإن الصانع الخبير إذا أخذ الخشبة العوجاء والحجر المكسور واللبنة الناقصة فوضع ذلك في موضع يليق به ويناسبه كان ذلك منه عدلًا وصوابًا يمدح به، وإن كان في المحل عوج ونقص وعيب يذمّ به المحل، ومن وضع الخبائث في موضعها ومحلها اللائق بها كان ذلك حكمة وعدلًا وصوابًا، وإنما السفه والظلم أن يضعها في غير موضعها؛ فمن وضع العمامة على الرأس والنعل في الرجل فقد وضع الشيء موضعه ولم يظلم النعل والزبالة إذ هذا محلهما. ومن أسمائه سبحانه: العدل والحكيم الذي لا يضع الشيء إلا في موضعه؛ فهو المحسن الجواد الحكيم العدل في كل ما خلقه، وفي كل ما وضعه في محله وهيأه له، وهو سبحانه له الخلق والأمر؛ فكما أنه في أمره لا يأمر إلا بأرجح الأمرين ويأمر بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وإذا تعارض أمران رجح أحسنهما وأصلحهما وليس في الشريعة أمر يفعل إلا ووجوده للمأمور خير من عدمه ولا نهي عن فعل إلا وعدمه خير من وجوده[5].
الأصل السابع (الخير غالب):
من تأمّل هذا الوجود علم أن الخير فيه غالب، وأن الأمراض وإن كثرت فالصحة أكثر منها، واللذات أكثر من الآلام والعافية أعظم من البلاء والغرق والحرق والهدم ونحوها وإن كثرت فالسلامة أكثر. ولو لم يوجد هذا القسم الذي خيره غالب لأجل ما يعرض فيه من الشرّ لفات الخير الغالب وفوات الخير الغالب شرّ غالب. ومثال ذلك النار؛ فإن في وجودها منافع كثيرة وفيها مفاسد لكن إذا قابلنا بين مصالحها ومفاسدها لم تكن لمفاسدها نسبة إلى مصالحها، وكذلك المطر، والرياح، والحرّ، والبرد وبالجملة فعناصر هذا العالم السفلي خيرها ممتزج بشرها ولكن خيرها غالب[6].
الأصل الثامن (الشر نسبي):
الشر نوعان: شر محض حقيقي من كل وجه وشر نسبي إضافي من وجه دون وجه، فالأوّل لا يدخل في الوجود إذ لو دخل في الوجود لم يكن شرًّا محضًا، والثاني هو الذي يدخل في الوجود.
فالأمور التي يقال هي شرور إما أن تكون أمورا عدمية أو أمورا وجودية:
فإن كانت عدمية: فإنها إما أن تكون عدمًا لأمور ضرورية للشيء في وجوده أو ضرورية له في دوام وجوده وبقائه أو ضرورية له في كماله، وإما أن تكون غير ضرورية له في وجوده ولا بقائه ولا كماله، وإن كان وجودها خيرًا من عدمها. فهذه أربعة أقسام:
فالأوّل كالإحساس والحركة والنفس للحيوان.
والثاني كقوة الاغتذاء والنمو للحيوان المغتذي النامي.
والثالث كصحته وسمعه وبصره وقوته.
والرابع كالعلم بدقائق المعلومات التي العلم بها خير من الجهل وليست ضرورية له.
وأما الأمور الوجودية فوجود كل ما يضاد الحياة والبقاء والكمال كالأمراض وأسبابها والآلام وأسبابها، والموانع الوجودية التي تمنع حصول الخير ووصوله إلى المحل القابل له المستعدّ لحصوله كالمواد الردية المانعة من وصول الغذاء إلى أعضاء البدن وانتفاعها به وكالعقائد الباطلة والإرادات الفاسدة المانعة لحصول أضدادها للقلب.
إذا عرف هذا فالشرّ بالذات هو عدم ما هو ضروري للشيء في وجوده أو بقائه أو كماله، ولهذا العدم لوازم من شرّ أيضًا، فإن عدم العلم والعدل يلزمهما من الجهل والظلم ما هو شرور وجودية، وعدم الصحة والاعتدال يلزمهما من الألم والضرر ما هو شر وجودي. وأما عدم الأمور المستغنى عنها كعدم الغنى المفرط والعلوم التي لا يضرّ الجهل بها فليس بشر في الحقيقة، ولا وجودها سببًا للشر، فإن العلم منه حيث هو علم والغنى منه حيث هو غنى لم يوضع سببًا للشرّ وإنما يترتب الشرّ من عدم صفة تقتضي الخير كعدم العفة والصبر والعدل في حق الغنى؛ فيحصل الشرّ له في غناه بعدم هذه الصفات، وكذلك عدم الحكمة ووضع الشيء موضعه، وعدم إرادة الحكمة في حق صاحب العلم يوجب ترتب الشرّ له على ذلك.
فظهر أن الشر لم يترتب إلا على عدم وإلا فالموجود من حيث وجوده لا يكون شرًّا ولا سببًا للشر فالأمور الوجودية ليست شرورا بالذات بل العرض، حيث أنها تتضمّن وجوها للخير وجوها للشرّ، مثال ذلك ماء جار في نهر إلى أرض يسقيها وينفعها فكماله في جريانه حتى يصل إليها فإذا عدل به عن مجراه وطريقه إلى أرض يضرها ويخرب دورها كان الشر في العدول به عما أعدله وعدم وصوله إليه[7].
الأصل التاسع (لا معنى للخير إلا بوجود الشر):
لا معنى لطلب وجوه الخير للأمور فقط، فلا معنى أن يقول الملحد أريد عالما فيه كافة وجوه الخير التي نجدها في عالمنا ومع ذلك لا شر فيه، لأن في ذلك تناقض، حيث أن الثابت أن لوازم هذا الخلق وهذه النشأة وهذا العالَم لا بد منها، وإلا ما كان هناك قوانين طبيعية لا تتخلّف، ولو قدر عدمها لم يكن هذا العالم بل عالما آخر ونشأة أخرى وخلقاً آخر، وذلك بمنزلة السؤال: هلا تجرد الغيث والأنهار عما يحصل به من تغريق وتخريب وأذى؟ وهلا تجرّدت الشمس عما يحصل منها من حر وسموم وأذى؟ وهلا تجرّدت طبيعة الحيوان عما يحصل له من ألم وموت وغير ذلك؟ هلا تجرّد بدن الإنسان عن قبوله للآلام والأوجاع واختلاف الطبائع الموجبة لتغيّر أحواله؟ وهلا تجردت فصول العام عما يحدث فيها من البرد الشديد القاتل والحر الشديد المؤذى؟
فهل يقبل عاقل هذا السؤال أو يورده؟ وهل هذا إلا بمنزلة أن يقال: لم كان المخلوق فقيرًا محتاجًا والفقر والحاجة صفة نقص، فهلا تجرد منها وخلعت عليه خلعة الغنى المطلق والكمال المطلق؟ فهل يكون مخلوقاً إذا كان غنياً غنى مطلقًا؟[8]
وهذا التناقض المنطقي يشبه تناقض سؤال: هل يستطيع الله أن يخلق صخرة أكبر منه أو أن يخلق إلها آخر وغير ذلك.
الأصل العاشر (رد المتشابه إلى المحكم):
إن الله كامل في أوصافه وأسمائه وأفعاله فلا بد من ظهور آثار ذلك في العالم، لكن قد لا تظهر الحكمة الإلهية في فعل ما، وهنا يكفينا من حيث الجملة أن لله حكمة فيه، وإن لم نعرف التفصيل، ونرد هذا المتشابه إلى المحكم.
وعدم علمنا بتفصيل حكمته بمنزلة عدم علمنا بكيفية ذاته؛ وكما أن ثبوت صفات الكمال له معلوم لنا وأما كنه ذاته فغير معلومة لنا فلا نكذب بما علمناه ما لم نعلمه. وكذلك نحن نعلم أنه ” حكيم ” فيما يفعله ويأمر به وعدم علمنا بالحكمة في بعض الجزئيات لا يقدح فيما علمناه من أصل حكمته؛ فلا نكذب بما علمناه من حكمته ما لم نعلمه من تفصيلها. ونحن نعلم أن من علم حذق أهل الحساب والطب والنحو ولم يكن متّصفًا بصفاتهم التي استحقوا بها أن يكونوا من أهل الحساب، والطب، والنحو لم يمكنه أن يقدح فيما قالوه؛ لعدم علمه بتوجيهه. والعباد أبعد عن معرفة الله وحكمته في خلقه من معرفة عوامهم بالحساب والطب والنحو فاعتراضهم على حكمته أعظم جهلا وتكلفا للقول بلا علم من العامي المحض إذا قدح في الحساب والطب والنحو بغير علم بشيء من ذلك[9].
[1] مجموع الفتاوي 8/123
[2] شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن القيم، دار المعرفة ص205
[3] المرجع السابق ص250
[4] المرجع السابق ص225
[5] المرجع السابق ص180
[6] المرجع السابق ص184
[7] المرجع السابق ص182
[8] طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم، دار السلفية ص103
[9] مجموع الفتاوي 6/128
(المصدر: موقع “يقين لنقد الإلحاد واللادينية)