مقالاتمقالات المنتدى

الأشهر الحرم .. فضلها وفضل العمل الصالح فيها

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الأشهر الحرم .. فضلها وفضل العمل الصالح فيها

 

بقلم الشيخ محفوظ بن الوالد (خاص بالمنتدى)

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبته ومن اهتدى بهداه.
وبعد:

فإن الله سبحانه يخلق ما يشاء ويختار من خلقه ما يشاء..

خلق ملائكته، فاختار منهم المقربين، وخلق بني آدم، فاختار منهم الأنبياء والمرسلين.

وخلق الأرض، فاختار من بقاعها أفضلَها، وهي المساجد، ومن قراها أشرفَها، وهي مكة المكرمة، وطيبة الطيبة، والمسجد الأقصى المبارك.

وخلق الزمان، فاختار من أيام الأسبوع يوم الجمعة، ومن ليالي السنة ليلة القدر، ومن شهور العام شهر رمضان، والأشهرَ الحُرُم.

وإن من فضل الله تعالى على عباده ما امتن به عليهم من الأزمنة المباركة، والأمكنة الفاضلة، التي تُضاعَف فيها الحسنات، وتكفَّر السيئات، وتُرفع الدرجات..

ومن فضل الله تعالى على عبده المؤمن أن يمد له في أجله، حتى يدرك هذه المواسم فيجتهد في عمله.

عن عبد الله بن ربيعة السلمي -وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- عن عبيد بن خالد السلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين رجلين، فقُتل أحدُهما، ومات الآخر بعده، فصلينا عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما قلتم؟)، قالوا دعونا له: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم ألحقه بصاحبه (الذي قتل في سبيل الله)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأين صلاتُه بعد صلاتِه؟ وأين عملُه بعد عملِه؟ فَلَمَا بينهما كما بين السماء والأرض!!)، وفي رواية: (فمكث بعده جمعة).
رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني.

فانظروا كيف سبق هذا المتأخر الذي مات على فراشه ذلك المتقدم الذي قتل شهيدا في سبيل الله!!

ونحن نعيش هذه الأيام العشر الأول من شهر ذي القعدة الحرام، حري بنا الوقوف مع الأشهر الحرم، ببيان فضلها، وفضل العمل الصالح فيها، فالتنبيه على مواسم الخير، والتذكير بفضلها، وفضل العمل فيها، والترغيب في ذلك، هدي نبوي صحيح، وسنة نبوية متبعة.

وسوف نبين فضل الأشهر الحرم أولا، ونبين فضل العمل الصالح فيها ثانيا.

أولا: فضل الأشهر الحرم

قال الله تعالى في سورة التوبة:
{إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم، ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم}.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مبينا هذه الأشهر، مؤكدا على حرمتها، ووجوب احترامها: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنةُ اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجبُ مُضَر، الذي بين جمادى وشعبان). رواه البخاري ومسلم.

وقوله تعالى: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} قال ابن كثير في تفسيره:
“فلا تظلموا فيهن أنفسكم، أي في هذه الأشهر المحرمة، لأنها آكَدُ وأبْلَغُ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف لقوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}، وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام” (تفسير بن كثير 4/130).

وقيل إن الضمير في {فيهن} راجع إلى جميع أشهر السنة، والأول أرجح.

وقد اختُلف في السبب الذي سميت من أجله بالأشهر الحرم، قال ابن رجب رحمه الله في لطائف المعارف:
“واختلفوا لمَ سُميت هذه الأشهر الأربعة حُرُما.
“فقيل: لعظم حرمتها وحرمة الذنب فيها.
“قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: اختص الله أربعة أشهر جعلهن حرما، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، وجعل العمل الصالح والأجر أعظم.

“وقيل: إن سبب تحريم هذه الأشهر الأربعة بين العرب لأجل التمكن من الحج والعمرة، فحرم شهر ذي الحجة لوقوع الحج فيه، وحرم معه شهر ذي القعدة للسير، فيه إلى الحج، وشهر المحرم للرجوع فيه من الحج، حتى يأمن الحاج على نفسه من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه.
“وحرم شهر رجب للاعتمار فيه في وسط السنة، فيعتمر فيه من كان قريبا من مكة”.
(لطائف المعارف ص115)

ومن أيام الأشهر الحرم أيام هي خير أيام الدنيا على الإطلاق، كيوم عرفة.

روى ابن حبان رحمه الله في صحيحه عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الأيام يوم عرفة).

وروى البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام -يعني أيام العشر- قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟، قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء).

وروى الإمام أحمد رحمه الله عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام أعظم، ولا أحب إلى الله العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل، والتكبير، والتحميد).

ثانيا: أفضل الأعمال في الأشهر الحرم

تشترك الأشهر الحرم مع غيرها من الأشهر في بعض أفضل الأعمال الصالحات، والقربات، وتختص عن غيرها ببعض الطاعات والقربات.

وبعض ما سنذكره من هذه الأعمال مشترك بين جميع الأشهر، وبعضه مختص بالأشهر الحرم.

وأفضل هذه الأعمال كلها:

1- أداء الفرائض والتطوعات:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله تعالى قال: مَن عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مِمَّا افترضته، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحبَبْتُه كنتُ سمعَه الذي يَسمع به، وبصرَه الذي يُبصر به، ويدَه التي يَبطشُ بها، ورِجلَه التي يَمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه). رواه البخاري

2- اجتناب المعاصي والسيئات:
إن ترك المعاصي هو الشق الثاني من حقيقة التقوى التي أمر الله بها عباده، فالتقوى هي فعل الأوامر، واجتناب النواهي، امتثالا لأمر الله، واجتنابا لنهيه، رغبة في ثوابه، ورهبة من عقابه.

والمحرمات منها كبائر هي أخطرها، وصغائر هي أكثرها.

وقد تهاون كثير من الناس في كثير من الكبائر، حتى صارت أصغر في أعينهم من الصغائر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، حتى صارت أصغر في حسهم من الذر، وأدق من الشعر!!

وقد صح عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يقولون: (إنَّكم لتعملونَ أعمالاً هي أَدَقُّ في أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشِّعَرِ؛ كُنَّا نَعُدُّها على عَهْدِ رسولِ اللِه -صلى الله عليه وسلم- من المُوبقات!).

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من محقَّرات الذنوب وهي صغائرها: (إياكم ومحقَّرات الذنوب، فإنما مثل محقَّرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطنَ وادٍ، فجاء ذا بعُود وذا بعود، حتى أنضجوا خبزَهم، وإن محقَّرات الذنوب متى يؤخذْ بها صاحبها تهلِكْه) أخرجه أحمد في المسند وصححه الشيخ شعيب الأرناؤوط.

هذا شأن المحقرات من الصغائر، فكيف بالموبقات والكبائر!!

3- التوبة إلى الله تعالى:
التوبة فريضة على كل أحد وفي كل وقت.
(وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون).

وتتأكد التوبة عند استقبال مواسم الطاعات، وأوقات القربات، فبالتوبة تكون التخلية من الذنوب، قبل التحلية للقلوب.

4- أداء الحج والعمرة:
أفضل الأعمال المختصة بالأشهر الحرم هو ما جعلها الله تعالى وقتا خاصا له وهو الحج.

والحج هو ركن الإسلام الخامس، وقد فرضه الله تعلى في كتابه، وعلى لسان رسول صلى الله عليه وسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم في فضله، وفضل العمرة، ومتابعتِهما: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) رواه البخاري.

والحج في هذه الأشهر كالصوم في رمضان، فهي زمانه، ووقته الذي لا يصح إلا فيه.

وقد كانت كل عُمَرِ النبي صلى الله عليه وسلم في الأشهر الحرم.

5- الصيام:
الصيام من أفضل الأعمال، و في الحديث القدسي: (كلُّ عَملِ ابنِ آدم له، إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به) متفق عليه.

وقد وردت في فضل الصيام في الأشهر الحرم أحاديث منها الصحيح ومنها دون ذلك.

وممن صام الأشهر الحرم كلها ابن عمر، والحسن البصري وغيرهما.

وقد وردت أحاديث صحيحة في صيام بعض أيام هذه الأشهر.

ومن ذلك ما ورد في فضل صيام شهر المحرم، فقد روى الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر اللَّه المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل).

ومنه ما ورد في فضل صيام يوم عرفة، فقد روى مسلم رحمه الله عن أبي قتادة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده).

وفي فضل صيام يوم عاشوراء روى مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية، ومستقبلة، و صوم عاشوراء يكفر سنة ماضية).

6- الإكثار من الأعمال الصالحة عامة:
يستحب الإكثار من الأعمال الصالحة عامة، وهذا مطلوب في كل وقت ولكنه يتأكد في الأزمنة والأمكنة الفاضلة.

والأعمال الصالحة كثيرة، وطرقها يسيرة، والموفق من وفقه الله تعالى.

ومن أمثلة هذا الأعمال الصالحة اليسيرة الكثيرة التي ينبغي الحرص عليها، ويغفل عن فضلها كثير من الناس، ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم عند بيانه للأعمال المكفرة للسيئات، الرافعة للدرجات، فبين ذلك بقوله :(ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط) حسن صحيح.

رزقنا الله وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، والتوفيق لما يحبه ويرضاه من الأقوال، والأفعال، والأحوال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى