مقالاتمقالات مختارة

الأساطير الدّينية المؤسِّسة لإسرائيل

الأساطير الدّينية المؤسِّسة لإسرائيل

 

بقلم ناصر حمدادوش

 

تشكّل الأساطير رموزًا مخيالية، تدخل في الشّعور الوجداني العام وتتغزّل بالملامح العاطفية والمثالية للإنسان لتلهب المشاعر وتعطي الأمل في مستقبلٍ هو أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة، وهو ما يجعل بعض هذه الأساطير تتوغّل بعمق وتتدخّل بقوّة في ذهنية صانع القرار السياسي وتتجاوز الحقوق والقوانين والأعراف المتفق عليها في ركائز العلاقات بين الأفراد والشعوب والدول.

ومن أخطر الأساطير الدّينية في العصر الحديث: خرافةُ قيامِ إسرائيل كوطنٍ قومي لليهود في فلسطين. وفي الوقت الذي يضغط فيه الغربُ على العالم العربي للتحرّر من الماضي ويزايد عليه بالحرّية والديمقراطية والدولة المدنية؛ يتّجه الكيان الصهيوني المدعوم من الغرب نفسه إلى الغرق في الماضي والتوجّه نحو أساطير الدولة الدينية والكيان العنصري والسياسة الدموية. وقد انطلقت الصهيونية العالمية كحركةٍ سياسية إيديولوجية وثيقة الصّلة بالمشاريع الاستعمارية المعاصرة، إلاّ أنّ حُلم إيجادِ وطنٍ قوميّ لليهود في العالم لا يمكن تحقيقه ولا التعبئة له إلاّ بدغدغة العواطف الدينية لليهود لإقناعهم بالهجرة إلى هذه الأرض، ولم تجد إلاّ أسطورةً في التوراة المحرَّفة بأنّ الله وعد بني إسرائيل بأرض الميعاد وهي فلسطين على لسان سيّدنا إبراهيم عليه السلام.

وتظهَر هذه الأسطورة الخطيرة من التسمية الدّينية لهذا الكيان (إسرائيل)، وهو اسمٌ لنبي الله يعقوب عليه السّلام أحدُ أبناء سيّدنا إبراهيم عليه السّلام، مع أنّ الله تعالى قطع هذه الصّلة المزعومة لهم به، فقال تعالى: “ما كان إبراهيمُ يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولكن كان حنيفًا مسلمًا..” (آل عمران: 67)، لأنّ اليهودية منسوبةٌ إلى “يهودا” وهو أحد بني إسرائيل الـ11 من إخوة سيّدنا يوسف ابن يعقوب ابن إبراهيم عليهم السلام، المشار إليهم في قوله تعالى: “إذ قال يوسف لأبيه يا أبتِ إنّي رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين”. (يوسف: 04). وهو ما يفرض علينا معرفة الأسس الوهمية لقيام هذا الكيان السرطاني في خاصرة الأمة، وأنّ الصهيونية ما هي إلاّ مجردُ عقيدةٍ قومية عنصرية امتطت الدّيانة اليهودية والتوراة المحرَّفة لإقامة إسرائيل كدولةٍ دينيةٍ مزعومة.

وقد وسّعت الصهيونية من حجم تعبئتها الإيديولوجية لصالح هذه الأسطورة بزعمها أنّ فلسطين أرضٌ بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرض، مع أنّ قرار الأمم المتحدة الذي قامت عليه خرافة إسرائيل سنة 1948م يعترف بوجود شعب، وأنّ قرار التقسيم للدولتين يؤكّد ذلك، وأنّ حقّ عودة اللاجئين هو حقٌّ معترفٌ به أمميًّا منذ ذلك التاريخ. لقد كان الخطابُ المفعم بالعنصرية الدينية هو ما أعلنَه بشكلٍ صارخٍ في وجه العالم بأسره أوّلُ رئيسِ وزراءٍ إسرائيليٍّ (بن غوريون) عام 1948م في الأممِ المتّحدة، مع أنه لم يكن رجلاً متديّنًا إلاّ أنه تبجّح بهذه الأسطورة القبيحة حين قال: (قد لا تكونُ فلسطينُ لنا بالحقِّ السياسيّ أو القانونيّ ولكنّها حقٌّ لنا على أساسٍ ديني، فهي الأرضُ التي وعدَنا اللهُ بها وأعطانا إيّاها من الفراتِ إلى النيلِ). وهو ما يعني نقل مركز الثّقل في التبرير لهذا الحقّ من التبرير السياسي بحقّ الشّعوب في تقرير المصير إلى التبرير الديني بخلق علاقة وهمية بين الدّين اليهودي وأرض فلسطين، أي التضحية بالمبرّر السياسي العقلاني لصالح المبرّر الدّيني الخرافي اليهودي.

ويُعدُّ الحديث عن أرض فلسطين هو الأقدم في الأدب اليهودي قبل أن تظهر الصهيونية كفكرةٍ سياسية للدولة المزعومة إسرائيل على يد (تيودور هرتزل)، وأنّ زيارات اليهود لها والحجّ إليها والتعلّق بها للمكانة العاطفية والمقدسّة لها وليس للارتباط السياسي أو الإيديولوجي بها في البداية، إلا أنّ الصهيونية السياسية تلوّنت بالصبغة الدينية واستغلت هذه العاطفة المقدّسة ووحّدت من تياراتها للاستثمار في هذا البُعدي الدّيني للأرض، وهو ما جعلها بارعةً في توظيف الدّين لأغراضٍ سياسية، ودفْع العالم للاعتراف بيهودية الدولة لإسرائيل، وإسقاط حقّ العودة والتطهير العرقي والتمييز العنصري على أساس الدّين. ووجدت الصهيونية العلمانية في هذا البُعد الديني للأرض الفرصة في إغراء اليهود في العالم بالهجرة إلى فلسطين، واشتقاق الحقّ السياسي والتاريخي من الحقّ الديني لها بالصناعة المحكمة في السّردية الدينية للتاريخ بالنسبة إليهم.

مثل هذه الأساطير الدينية لليهودية هي نفسها الأساطير المسيحية الإنجيلية المسيطرة على أمريكا، والتي تربط السياسة الأمريكية اتجاه إسرائيل بالعقيدة الدّينية، وربط العودة الثانية للمسيح بقيام الدولة اليهودية وعاصمتها القدس الموحّدة، وقد سبق للكونغرس الأمريكي يوم 24 أكتوبر 1995م أن قرّر بأنّ القدس هي العاصمة الأبدية والموحّدة لإسرائيل، لأنها كما يقول: الوطن الرّوحي لليهودية. إلاّ أنّ هذه الأساطير الدينية للصهيونية بأنّ فلسطين هي (أرض الميعاد)، واليهود هم (شعب الله المختار)، وأنّ القدس في أدبياتهم هي (مركز تلك الأرض)، وأنها (عاصمة الآباء والأجداد)، وأنها (مدينة يهودية بالكامل) يُبطلها بالكامل عالمُ الآثار الإسرائيلي الشهير (إسرائيل فنكلشتاين) من جامعة تل أبيب بنفيه وجود أيّ صلةٍ لليهود بالقدس، وأكّد في تقرير نُشر بتاريخ 5 أوت 2011م (أنّ علماء الآثار اليهود لم يعثروا على شواهد تاريخية أو أثرية تدعم بعض القصص الواردة في التوراة..)، والأكثر من ذلك فإنه يشكك في قصة داوود، وهي الشخصية التوراتية الأكثر ارتباطاً بالقدس حسب معتقدات اليهود، موضحًا أنه: (لا يوجد أساسٌ أو شاهدُ إثبات تاريخي على وجود هذا الملك الذي اتخذ من القدس عاصمة له..)، مؤكداً (أنّ شخصية داوود كزعيمٍ يحظى بتكريم كبير لأنه وَحّد مملكتي يهودَا وإسرائيل هو مجرد وَهْم وخيال لم يكن له وجودٌ حقيقي.)، و(أنّ ما يتعلق بهيكل سليمان، لا يوجد أيُّ شاهدٍ أثري يدلّ على أنه كان موجودًا بالفعل.). ويقول المؤرّخ اليهودي (شلومو ساند) في كتابه (كيف اختُلق الشعب اليهودي؟) إنّ القومية اليهودية خرافة، وأنّ اليهود الذين يعيشون اليوم في (إسرائيل) ليسوا على الإطلاق أحفاد (الشّعب العتيق) الذي عاش في مملكة يهودا، وأنّ اليهود لم يُطرَدوا من الأراضي المقدسة، ومعظم يهود اليوم ليست لهم أيّ أصول عرقية في فلسطين التاريخية.

ويرى المفكر اليهودي الفرنسي (جاكوب كوهين): (أنّ المحرقة ذريعة اتخذها الصهاينة لجلب اليهود إلى فلسطين، لأن الصهيونية كأيديولوجية سياسية كانت منبوذة من قبل 99% من الحاخامات المتدينين، فضلا عن وجود نصّ ديني يقول بأنه ممنوع على اليهود المتديّنين الهجرة جماعات إلى فلسطين إلاّ بعد عودة المسيح)، إلاّ أنّ المحرقة اعتُبرت حدثًا مقدَّسًا أسهم في شرعنة تأسيس إسرائيل، ورفَع المنع الدّيني من هجرة المتدينين إليها. أمّا من الناحية السياسية المعاصرة فلم تكن هناك دولةٌ تسمّى إسرائيل إلاّ في بداية ذلك الحُلم الشيطاني لمؤسّس الصهيونية (تيودور هرتزل) يوم 03 مارس 1897م حين قال: (في مدينة بازل فكّرت في دولة اليهود، لو قلت هذه الفكرة بصوتٍ عالٍ اليوم لقُوبِلت باستهزاءٍ عالمي.. في غضون خمس سنوات، ربما خمسين سنة سيستوعب كلُّ الناس هذه الفكرة.)، وفعلاً بعد 50 سنة أي سنة 1948م تمّ الاعتراف بهذا الكيان الغريب كدولةٍ في الأمم المتحدة! فأين هو العقل الواعي والضّمير الإنساني الذي يقبل بقيام دولةٍ على انقاض أساطير دينية وسياسية وهمية؟.

 

(المصدر: صحيفة بوابة الشروق الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى