مقالاتمقالات مختارة

الأسئلة العقلانية في قضية الإرث

بقلم أ. حماد القباج

لا ينبغي أن يزايد بعضنا على بعض في حرصنا جميعا على حقوق المرأة؛ حفاظا على المكتسبات واستزادة من الإنجازات وإصلاحا لكل أنواع الخلل والنقص ..

وفي إطار اتفاقنا على هذا المقصد الكبير ينبغي أن نطرح السؤال التالي: هل تغيير أحكام نظام الإرث سيكون في صالح المرأة؟

وللإجابة عن هذا السؤال لا بد من طرح سؤال آخر؛ تساعدنا الإجابة عنه على حسن تصور الموضوع، وتقترب بنا إلى الدقة المطلوبة في تشخيص الداء؛ كي نقترب أكثر من الحق الذي اختلفنا حوله:

هل موضوع الإرث موضوع منفك عن باقي المواضيع المرتبطة بحقوق المرأة المالية؟

إن المستحقات المالية للمرأة في التشريع الإسلامي ترجع إجمالا إلى خمسة حقوق:

1 حق التملك

2 الحق في العمل ومستحقاته

3 الحق في المهر عند عقد الزواج

4 الحق في النفقة

5 الحق في الإرث

هذه الحقوق الخمسة تشكل هندسة متكاملة لا تنفك بعض عناصرها عن بعض، ويمكن اعتبارها ثورة تشريعية في مجال حقوق المرأة والدعوة لحفظ وتنمية كرامتها الإنسانية التي تم إهدارها في مختلف التشريعات الوضعية؛ والتي لم تتبلور فيها بعض تلك الحقوق المالية للمرأة إلا بعد مئات السنين من نزول تلكم الهندسة التشريعية الإلهية؛ وعلى سبيل المثال فإن القانون الفرنسي (وهو أكثر القوانين الغربية تقدما في مطلع القرن العشرين) إلى حدود سنة 1938 كان يفرض قيودا مجحفة على حق المرأة في التملك، كما أنه لم يكن يعطيها الحق في الإرث، ولم يكن فيه شيء اسمه حق النفقة أو حق المهر، أما القوانين المتعلقة بمستحقات العمل فبلغت من ظلم المرأة والتعسف في معاملتها درجة مذهلة كما هو الحال في كل الدول الغربية آنذاك؛ وكان ذلك هو السبب المباشر لقيام حركة نسائية على الصعيد العالمي تطالب بحقوق المرأة العاملة ومساواتها في ذلك مع الرجل ..

في هذا الوقت كان التشريع الإلهي سابقا بعصور، وكان الفقه الإسلامي قد أنضج من الأحكام المتعلقة بذلكم التشريع ما يشكل ثروة قانونية تبلغ بها المرأة أسمى المراتب التي تتجلى فيها روعة تلك الهندسة الإلهية وجماليتها وعجز البشر عن الإتيان بمثلها ..

فلما انحدرت المجتمعات الإسلامية إلى حضيض الجهل ولفّتْها أوحال التخلف؛ غطى قبح هذا الواقع ذلكم الجمال؛ ودخلت المرأة في دوامة من الظلم والعدوان الذي كرسه وعمقه: تفاقم نسبة الجهل بأحكام الله تعالى، واستمرار تدني الوعي، وتنامي طغيان الرجال وعدوانهم على النساء، ورسوخ الاستبداد السياسي.

ومن هنا فإنني أعتقد جازما بأن حل معضلة المرأة لن تكون بالتعديلات القانونية فحسب؛ بقدر ما إنها تتوقف على نجاح جهود الإصلاح السياسي، وعلاج الفساد التربوي، ونفض الغبار عن التشريع الإلهي لتتلألأ أنواره من جديد وتضيء هذا الواقع المظلم الذي تعتبر النساء من أكبر ضحاياه ..

أجل؛ لا يمكن الوصول إلى درجات متقدمة في مجال حقوق المرأة مع استمرار عوامل ومظاهر الفساد السياسي، ومع الأزمة المتفاقمة في المنظومة التربوية التي تنتج لنا بشرا لا يحترمون حقا ولا يحفظون كرامة ولا تفلح القوانين في كثير من الأحيان في ردعهم عن الممارسات المخلة بكل أنواع الحقوق ..

إن هذا الفساد التربوي هو أحد أهم أسباب معاناة المرأة وضياع حقوقها؛ ولو أردنا أن نضرب مثالا على ذلك من جملة مئات الأمثلة؛ فلنمثل بحق النفقة على الزوجة؛ فهذا الحق ليس منة للرجل على المرأة ولا صدقة يتصدق بها عليها كما يتوهم بعض الأزواج ويتصرفون بناء عليه؛ بل هو مستحق يعوضها عن شيء من دورها الكبير والهام والحساس في رعاية الطفولة وتنشئة الأجيال الصالحة المصلحة التي تنهض بوطنها وأمتها ..

وفي الوقت الذي يُلزمنا المنطق والعقل بضرورة الاعتراف بهذا الدور وأهميته؛ فإننا نؤكد على أنه لا يخل بحق المرأة في العمل والمشاركة في كل المجالات المجتمعية؛ بما فيها المجال السياسي وتدبير الشأن العام ..

فالمرأة تحتفظ بحقها الكامل في ذلك؛ لكنها مدعوة في الوقت نفسه لوضع الميزان لترجيح الأولويات بالقسطاس المستقيم؛ وهذا الميزان والقسطاس يُرَجّح في الغالب أن حاجة المجتمع للزوجة الحنون الدافئة، والأم الواعية العارفة بأسرار التربية ومقاصد التنشئة الإصلاحية؛ حاجة المجتمع إلى هذا الصنف من النساء أكبر بكثير من حاجته إلى وزيرة تدبر الموارد المائية للبلاد، أو مهندسة تخطط في المجالات الإعلامية أو المعلوماتية أو الزراعية أو غيرها ..

مع احترامنا لكل هذه الوظائف وأمثالها، وتأكيدنا على أهميتها وحق المرأة في ممارستها؛ لكن هذه الأهمية تتضاءل أمام أهمية صنع الموارد البشرية وتنمية الرأسمال البشري؛ وحسبنا في البرهنة على هذه القناعة أن أكثر القوانين تقدما اليوم في الدول الغربية تفرض نفقة للمرأة التي ترجع إلى بيتها وتعطي الأولوية لأدوارها فيه ..

في هذا السياق نتساءل:

هل يعقل أن يقال: يجب أن تتساوى المرأة مع الرجل في حق العمل خارج البيت بما يعنيه هذا من إسقاط حقها في النفقة؟

وهذا لازم؛ لأن تحقيق المناصفة في حق العمل يعني انتزاع عدد كبير من الوظائف من الرجال؛ وهو ما يؤدي إلى ارتفاع خطير في نسبة البطالة بينهم؛ فلا يصح أن ننتزع من الرجل وظيفة لصالح زوجته ثم نلزمه بنفقتها.

إن تغيير أحكام الإرث بما يحقق المناصفة الكاملة بين الذكور والإناث؛ تلزمنا بإعفاء الرجال آباء وأزواجا من شيء اسمه حق النفقة على المرأة؛ ومكاسب المرأة بتغيير أحكام الإرث ستكون أقل بكثير من المكاسب التي تجنيها من حق النفقة.

وبهذا يظهر لنا أن إحداث تغيير من هذا القبيل في الهندسة الإلهية للحقوق المالية؛ هو مضر بالمرأة وليس في صالحها.

ولو فعلنا ذلك؛ فحرمناها من حق النفقة وألزمناها بالعمل خارج البيت ومنافسة الرجال على الوظائف والمناصب؛

لو فعلنا هذا؛ فما هو مصير الأسرة؟

لا شك أن مصيرها سيكون هو مزيدا من الخراب والدمار والتفكك ..

ولاشك أن هذا التفكك والدمار سيكون أكبر حجما من ذاك الذي حل بالمجتمعات الغربية؛ لأن هذه الأخيرة خففت من آثار ذلك الدمار بما قامت به من إصلاحات سياسية جعلت الدولة أقدر على تدارك الحقوق المالية وعلاج كثير من المشاكل المترتبة على تفكيك الأسرة وتخريبها ..

وعلى سبيل المثال؛ فإنها لما أجهضت الحقوق المعنوية للأم؛ حاولت على الأقل أن تخفف من حدة هذه المصيبة بنوع من التعويضات المادية وإيجاد منظومة من دور العجزة متكاملة الخدمات ..

أما في عالمنا العربي؛ فالإصلاحات السياسية متعثرة إن لم نقل مشلولة القدمين، ومنظومة التربية والتعليم لا تزال في غيبوبة، والأسرة تصارع من أجل البقاء؛ فهل نزيد على هذا كله عوامل أخرى من عوامل التخريب والتفكيك لمنظومتنا الأسرية؟؟

وإذا كانت كثير من النساء تضطر لترك واجبها في تنشئة أفراد الأسرة والعمل لإعالة أقاربهن؛ فإن التدبير السياسي هو المسؤول عن هذه الضرورة، وهو الذي يتحمل مسؤولية خلق التوازن الذي تنسجم فيه كل هذه المستحقات والمستلزمات: “أمن الأسرة”، “حق النفقة على الزوجة”، “واجب الدولة في النفقة على المعوزات”، “حق المرأة في العمل” ..

فليس من المنطقي أن يتخلى السياسيون وصناع القرار عن واجبهم في هذا الصدد؛ ونحمل التبعات لنظام توارث يسد ثغرة هامة في منظومة مالية واجتماعية منسجمة ومتكاملة ..

لو تحلينا بالقدر الكافي من الوعي والإنصاف؛ لعلمنا بأن مصلحتنا رجالا ونساء؛ هي بالدرجة الأولى في إعادة ترميم ما تهاوى من بنيان الأسرة، وإعادة إنتاج نموذج أسري قائم على الوعي وفقه التربية الناضجة الفعالة، نموذج يغيب فيه الاستبداد والاستعلاء الذكوري ويتحمل فيه الجنسان المسؤولية ويستفيدان من الحقوق على قدم المساواة، نموذج يدبّ في أوصاله دفئ التراحم والمودة والسكينة، بدل أجواء الصراع والتحاقد التي أضحت الأسرة بسببها صحراء مقفرة تتجول فيها العقارب والأفاعي التي تنال من كل قدم تريد أن تخفف من وحشة تلك الخلوات ..

فلنتدارك هذا الواقع المؤسف؛ ولنقم بدورنا في إصلاحه، ولنترك نظام الإرث على حاله؛ فإنه كامل وقائم بدوره في إطار هندسة تشريعية جميلة؛ كيف لا وهو تنزيل من حكيم حميد سبحانه وتعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]

(المصدر: موقع أ. حماد القباج)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى