الأسئلة الثلاثة وضبط المسار
بقلم د. سيرين الصعيدي
بعث الله سبحانه وتعالى محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة وأقام على الناس الحجة، ولم يأل جهدا في سبيل إصلاحهم وهدايتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور والنجاة بهم من النار والفوز بالجنان.
فأبان لهم طريق الهدى ليسلكوه وطريق الغي ليجتنبوه، وأرشدنا للسبل التي من خلالها نستطيع أن نتحقق بهذه العبودية ونتخلق بها فلا نحيد عنها ما تعاقب الليل والنهار وما تلاحقت الأنفاس، ووضع لنا أسس السلامة وأسباب النجاة فجاء هذا الحديث الشريف على اختلاف رواياته بمثابة المنارة التي تضيء لنا ظلمة الطريق والبوصلة التي ترشدك لهدفك وتوجه سعيك وطاقتك في هذه الحياة وفق مراد الله لا وفق مزاجك ومرادك.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:”وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ له من رَبُّكَ فيقول رَبِّيَ الله فَيَقُولَانِ له ما دِينُكَ فيقول دِينِيَ الْإِسْلَامُ فَيَقُولَانِ له ما هذا الرَّجُلُ الذي بُعِثَ فِيكُمْ قال فيقول هو رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولَانِ وما يُدْرِيكَ فيقول قرأت كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ ….قال فَيُنَادِي مُنَادٍ من السَّمَاءِ أَنْ قد صَدَقَ عَبْدِي فافرشوه من الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا له بَابًا إلى الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ من الْجَنَّةِ قال فَيَأْتِيهِ من رَوْحِهَا وَطِيبِهَا قال وَيُفْتَحُ له فيها مَدَّ بَصَرِهِ قال وَإِنَّ الْكَافِرَ فذكر مَوْتَهُ قال وَتُعَادُ رُوحُهُ في جَسَدِهِ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ له من رَبُّكَ فيقول هَاهْ هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي فَيَقُولَانِ له ما دِينُكَ فيقول هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي فَيَقُولَانِ ما هذا الرَّجُلُ الذي بُعِثَ فِيكُمْ فيقول هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي فَيُنَادِي مُنَادٍ من السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ فافرشوه من النَّارِ وَأَلْبِسُوهُ من النَّارِ وَافْتَحُوا له بَابًا إلى النَّارِ” (رواه أبو داود وغيره).
يمثل هذا الحديث الشريف للإنسان المبصر العاقل إبرة البوصلة التي على المسلم أن يضبط سعيه وحركته وسكونه بها، فهي المؤشر الذي يحدد إليك معالم الطريق التي عليك أن تسلك، وتوضح لك المصير الذي إليه أنت كل يوم ترصف خطواتك المتتابعة نحوه، بل قل إن شئت أنّ هذا الحديث أجوبة لأسئلة الامتحان النهائي لخلاصة الحياة التي عشتها وفق ما أمدك الله به من وسائل ومؤهلات، وهو بطاقة فوزك أو خسارتك لقوله صلى الله عليه وسلم: “إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه” (رواه الترمذي).
ففي حمأة الصراع الذي يعيشه الإنسان في هذه الحياة وفي خضم التكالب والتنافس على عرض من الحياة زائل كثير منا من ينسى الغاية من خلقه ابتداء وإلى ما يصير إليه انتهاء، فيتشتت هم الواحد منا ويتفرق شمله ويتمزق جمعه على أمور لو تفكر بها أساساً لأدرك أنها لم تكن في يوم ما مما كُلف به بل زج نفسه فيها اعتباطاً واستكباراً، وقد جاء في الحديث الشريف: “من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له” (رواه الترمذي).
والإنسان من عادته أن يغتر بقوته ووقته وغناه وصحته وسرعان ما ينسى أنّ نعيم الحياة بكل أشكاله وألوانه لا يكاد يذكر في لحظة ألم عابرة في حياة الإنسان فكيف به عند سكرات الموت التي لو نجا منها أحد لكان النبي المصطفى، فأين كل النعم بل أين الحياة كلها وماذا عساها تغني عن المرء شيئاً؟! وهي أول من تركته وآلت لغيره، وماذا عساها تدفع عنه وقت سؤاله في حفرة بات يسكنها من تراب بعد ما كانت القصور له مسكناً ومسرحاً؟!.
ثلاثة أسئلة حري بالإنسان أن يقف أمامها بجدية متدبرا متفكرا إذ هي مدار سعيه في الحياة وهي أول الخطوات على طريق الجنة إن اجتازها بنجاح ، فانشغال الناس عما كُلفوا به أساسا بأمور لم يُكلفوها هو الذي أدى بهم إلى التخبط في سعيهم والنكوص إلى الوراء في كل أمورهم وشؤونهم فأصبحوا في الذيل بعدما كانت لهم الريادة والسيادة، واستقروا بالقاع بعدما كانت القمم مقرهم ومأواهم.
فجاء هذا الحديث من الصادق الصدوق ليختصر لك كثيرا من تفاصيل أنت غني عنها بل ويضبط سعيك ويركز طاقتك في الدائرة التي كلفك بها ربك ضمن المسؤولية والغاية التي اختصك بها فالعمر وإن طال لهو أقصر من أن تستنزفه في الكماليات وقد وليت ظهرك للضروريات التي لا يستقيم لك من دونها أمر آخرتك ودنياك.
العمر وإن طال لهو أقصر من أن تستنزفه في الكماليات وقد وليت ظهرك للضروريات التي لا يستقيم لك من دونها أمر آخرتك ودنياك
فما أشبه حالنا وقتها بمسافر أنفق وقته بالتمتع بمناظر خلابة على جنبات الطريق غافلا عن غروب الشمس الذي كاد أن يبلغه دون بلوغ أرض وطنه وأهله ، أو بذاك الطالب الذي شغلته قصاصات من شعارات للإعلانات جذابة فأدركه الوقت دون أن يتصفح أجوبة لأسئلة امتحان قد قرره أستاذه مسبقا، فماذا يجدي الندم وقتها؟! ولله المثل الأعلى.
وهذا حال البشرية مع قصة الوجود وغايته وحقيقة النهاية التي نسير إليها حتماً بخطوات ثابتة وإن تغافلنا عنها أو نسيناها في خضم تنافسنا على هذه الزائلة، فهذا الحديث الشريف قد أراح الإنسان من أن يشتت جهده في توقع ما هو مطلوب منه وما سيسأل عنه، بل إنه بصريح منطوقه أنّ أول ما يسأل عنه المرء في قبره إنما هو أمور عقيدته التي إن سلمت وصفت فاز وفلح ونجا.
من ربك، ما دينك،من نبيك؟! كثير منا يحفظ أجوبة هذه الأسئلة عن غيب بل بساطة ظاهرها توهم كثير منا أنها سهلة الإجابة وهذا عين الغفلة وحقيقتها، فليس الأمر متعلق بحفظ كلمات وتعريفات ومصطلحات، بل إن الإجابة عنها تتطلب منهج حياة كاملة لا تتوجه فيها إلا لرب ومعبود واحد، وقد تبرأ قلبك قبل لسانك من كل معبود سواه .
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تتطلب منهج حياة كاملة لا تتوجه فيها إلا لرب ومعبود واحد، وقد تبرأ قلبك قبل لسانك من كل معبود سواه
الإجابة عن سؤال من ربك لا تأتي توقعاً أو احتمالاً أو صدفة، بل يثبت الله المسؤول ويلقنه جوابه وحجته لحديث المصطفى: “المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)[سورة إبراهيم: آية27]” (رواه البخاري) ، وهذا إذا كان قد أقام حياته وفق منهج ربه فالتزم أوامره واجتنب نواهيه بكامل حريته وإرادته وقناعته يحتكم لشرع الله وقلبه موقن تترجم أعماله أقواله وقناعاته، بعيدا عن عادات ورثها من الآباء والأجداد على نهج الذين قال الله فيهم: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ)[سورة الزخرف: آية22].
أما سؤال ما دينك فكيف بالإجابة عنه إذا كان هذا المسؤول قد تحرر وانعتق من ربقة الدين حال حياته فكان أبعد الناس عنه، بل ويزيد أنه إذا ذُكر أمامه رأي الدين في مسألة أو قضية ما أخذته العزة بالإثم وسخر واستهزأ من معالجة هذا الدين لشتى القضايا متهماً إياه بالرجعية والتخلف تارة وأخرى بالتشدد وناصب أتباعه العداء والحقد وأخذ على عاتقه لواء الحرب!
وكيف ترجو الإجابة على من نبيك يا من تنكرت له في حياتك، فخالفت أحوالك سنته وأقواله، اتبعت كل ناعق وكلّت قدميك باتباع كل أمر مستورد سواء كان سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو أي مجال، كان ولم تسمح لنفسك أن تصغي لمن جاء مبلغا عن ربه ورسول السماء إلى الأرض، وهل يعقل لمن تنكر لشيء في حياته أن يتعرف إليه بعد مماته؟!.
إنّ هذه الأسئلة التي هي أو ما نسأل عنها هي رأس الهرم بالضروريات بل هي الهرم كله ، إذ لن نسأل كم من الأموال جمعنا ، أو كم من القصور شيدنا، بل ستلغى فوارق الجنس واللون واللغة والغنى والأنساب والأحساب تلك الفوارق التي قدسناها وعظمناها من دون الله، بل السؤال موجه عن مدى معرفتك والتزامك بالرسالة والمُرسل والرسول.
وإذا تنبهت وتفقهت لذلك طُويت عنك مسافات البحث وكُشفت الغشاوة عن بصيرتك، وركزت جهدك وجل اهتمامك وأولوياتك على حقيقة الامتحان وطبيعة أسئلته التي أخبرك بها مسبقا الرحمة المهداة لك وللعالمين، وما عليك إلا أن تبذل وسعك وتلزم باب سيدك ومولاك وتسأله الثبات والرشد والسداد.
(المصدر: موقع بصائر)