مقالاتمقالات مختارة

الأدب وصناعة وعي الأجيال الجديدة.. تجارب من الصراع العربي الصهيوني

بقلم أحمد التلاوي

مثلت حادثة وفاة الأديب المصري، أحمد خالد توفيق، مجالاً مهمًّا للحديث عن كيفية صناعة #الأدب والروايات على وجه الخصوص، لوعي الأجيال، ولاسيما في مرحلة التكوين، والتي تبدأ من مرحلة الطفولة المتأخرة، وحتى بداية مرحلة الشباب.

فكانت تجارب مثل أحمد خالد توفيق ومحمود سالم، ومن قبلهما مصطفى محمود وأنيس منصور – الأخيران لهما باع كذلك في الكتابات الفلسفية والاجتماعية بجانب الكتابة الأدبية -بمثابة علامة مهمة– بقطع النظر عن طبيعة المحتوى الذي يقدمونه على كيفية صياغة الأدباء والمفكرون الذين يكتبون لمرحلة المراهقة والشباب، لوعي الأجيال التي تنتمي إلى هذه المرحلة.

فكان كل واحد من هؤلاء بمثابة “وزارة” إعلام بكامل أجهزتها، ووزارة ثقافة بكامل أركانها.

وزادت أهمية وتأثير مثل هذه النوعية من الكُتَّاب في ظل اعتماديتهم على أداة شديدة الأهمية كانت ولا زالت هي وسيلة التلقي الأشهر والأكثر انتشارًا في عالم الوسائط المعرفية، وهي كتب الجيب؛ حيث تبيع بمئات الملايين وربما ما يزيد على مليار نسخة، عبر العالم سنويًّا، بشكل لم تصل إليه أية وسيلة معرفة أو وسيط آخر، حتى على شبكة الإنترنت بالنسبة للمادة الواحدة.

إضافة إلى ذلك، فإنه على مستوى المحتوى؛ كانت عوامل الانتشار والنجاح الأكبر –وفق معيار التأثير والقاعدة الجماهيرية– تكمن في بساطة الأسلوب والطرح، ونوعية القضايا التي يتناولها الكاتب، والطريقة التي يقدم بها أفكاره بعيدًا عن التَّقعُّر وفخامة اللفظ من دون محتوىً لمجرد استعراض “العضلات” اللغوية، كما يحلو للبعض أن يفعل لإعطاء عمق زائف لكتاباتهم.

وعبر العقود الطويلة التي عرفها الصراع العربي الصهيوني، والقضية الفلسطينية، كانت هناك الكثير من التجارب التي قادت فيها الرواية، مع مسارات أخرى للتنشئة الفكرية والاجتماعية، قاطرة الوعي العربي في تبيان حقيقة القضية وعدالتها، ورسم مكانة “إسرائيل” باعتبارها “الكيان الصهيوني” و”العدو الصهيوني”.

عبر العقود الطويلة التي عرفها الصراع العربي الصهيوني، والقضية الفلسطينية، كانت هناك الكثير من التجارب التي قادت فيها الرواية، مع مسارات أخرى للتنشئة الفكرية والاجتماعية، قاطرة الوعي العربي في تبيان حقيقة القضية وعدالتها

وفي حقيقة الأمر؛ فإنه من المهم الإشارة في هذا السياق إلى حقيقة مهمة تناولها بعض النقاد والأدباء، ومن بينهم طه حسين ذاته في مرحلة مبكرة من الكتابة الروائية العربية، وهي أن #الرواية العربية قد أخذت مكانة الشعر باعتباره “ديوان العرب”.
ويشير الناقد والكاتب العراقي، الدكتور عبد الله إبراهيم، إلى عدد من الأمور التي مكَّنت الرواية من أن تحتل هذه المكانة في عصرنا الحالي.

فيقول إن الرواية استطاعت أن تأخذ دور الشعر التأريخي والتحليلي المعمَّق لأحوال المجتمعات العربية، وكذلك تبنيها لقضايا هذه المجتمعات، بما فيها القضايا السياسية الهامة، وكذلك ذات الحساسية ، مثل الحريات والحقوق السياسية والاجتماعية، والحروب الأهلية، وقضايا المرأة، وغيرها من الأحداث والقضايا ذات الطابع الجدلي، مما دعاه إلى اعتبارها “السجل الشامل” للحدث والقضية في العالم العربي.

في هذا الإطار، كانت الرواية وكانت الأعمال الأدبية بشكل عام، من أهم العناصر التي ساهمت في تشكيل الوعي العربي، وبالذات لدى الناشئة والشباب فيما يخص القضية الفلسطينية، وعدم الاعتراف بالكيان الصهيوني، وتكريس كراهيته بعد تعريته لينكشف كأهم عدو للأمة، ومعبِّرٍ أساسي عن مشروعات الاستعمار التي لم تنتهي فيها، وتأخذ مجالها على أرضنا.

ومنذ النكبة، بل ومن قبلها، كانت هناك الكثير من الأصوات والأقلام الأدبية التي حذرت من المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، وأخذ أدباء غسان كنفاني، مكانتهم في ميدان النضال الفلسطيني بجوار رموز العمل المُسلَّح، باعتبار أن النضال الأدبي لا يختلف في شيء عن الكفاح المُسلَّح، وأن كلاهما يكمل بعضه البعض.

ولذلك مثَّلت واقعة اغتيال مروان كنفاني باعثًا شديد الأهمية لدور الأدب، وكيف أخاف الكيان الصهيوني، وهو المتترِّس بالأسلحة الحديثة الفتاكة حتى الأسنان، ومدعوم من كل قوى الاستكبار والاستعمار العالمية.

مثَّلت واقعة اغتيال مروان كنفاني باعثًا شديد الأهمية لدور الأدب، وكيف أخاف الكيان الصهيوني، وهو المتترِّس بالأسلحة الحديثة الفتاكة حتى الأسنان، ومدعوم من كل قوى الاستكبار والاستعمار العالمية

بل إن إميل حبيبي، على سبيل المثال، سبق بخطوة، عندما مزج بين النضال من خلال الأدب والصحافة، والنضال المسلح؛ حيث كان أحد مؤسسي عصبة التحرر الوطني في فلسطين عام 1945م، وكان من أهم مَن عبَّروا عن حق العودة، وأهمية عدم خروج الفلسطيني من أرضه.

وبالفعل، عندما مات في العام 1996م، كتبوا على قبره بناءً على وصيته، عبارة مهمة للغاية في تكريس قضية العودة للوطن الفلسطيني التاريخي، وهي: “باقٍ في حيفا”.

ولقد ظهرت أهمية ذلك الأمر بعد بدء عملية “السلام” بين العرب والكيان الصهيوني على يد الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، في النصف الثاني من السبعينيات؛ حيث إنه، وفي أجواء الحرب؛ تكون الأمور واضحةً جلية، فيما تنامت مخاوف عديدة من انسياح خطاب السلام والتطبيع إلى أروقة عقول وأفكار الأجيال الجديدة التي لم تعايش الحرب.

وفي مصر؛ كانت هناك تجربة مهمة للأديب والكاتب محمود سالم، الذي صاغ الكثير من روايات الجيب للأولاد والبنات الذين لا يزالون على أعتاب مرحلة القراءة الحرة العامة، ضمن سلسلة “اللغز”، وسلسلة “الشياطين الـ13” التي أخذت منحىً أكثر عروبية من الطابع المصري الصميم لسلسلة “اللغز” بأبطالها “المغامرون الخمسة”.

فكنا نجد أن الكاتب كان حريصًا على وضع رواية أو قصة بين كل مرحلة وأخرى من السلسلة تتناول مغامرة واجه فيها المغامرون الأبطال الصغار جاسوسًا صهيونيًّا، أو واجهوا عصابة لتهريب المخدرات يرعاها الكيان الصهيوني لتدمير المجتمعات العربية من الداخل، وهكذا.

إلا أن الإنجاز الأهم الذي كان في وقته بالفعل حائط صدٍّ قويًّا تصدى بكفاءة وفاعلية لمرحلة “النسيان” التي دخلها الصراع مع الكيان الصهيوني بعد اتفاقية “السلام” المصرية الصهيونية، ثم الاتفاقيات الفلسطينية والأردنية مع الكيان الصهيوني، كان تجربة روايات مصرية للجيب، التي كان عامل التأثير المهم لها، هو أنها ظهرت قبل ظهور الروافد والوسائط المعرفية الإلكترونية والإعلام الفضائي الذي سحب البساط كثيرًا من تحت المُنَتَج الثقافي الورقي.

فجاءت تجارب مثل سلسلة “رجل المستحيل” التي كرَّست الكيان الصهيوني كعدو رئيسي وأساسي لمصر والعرب، ومع جاذبية شخصية البطل، أدهم صبري؛ انساحت هذه الفكرة إلى ملايين الشباب العربي من المحيط إلى الخليج، وفي المهاجر، لدرجة أنه ظهرت حالة من الرفض الواسع الذي هدد معه الكثيرون بالتوقف عن مطالعة السلسلة عندما تزوج بطلها من شخصية صهيونية، كانت ضابطة “موساد” سابقة، هي سونيا جراهام.

وفي حينه؛ اضطر الكاتب، الدكتور نبيل فاروق إلى الاعتذار، والتأكيد على إيجابية هذا الموقف في أنه كان استفتاءً قدري وغير مباشر أثبت فشل فكرة التطبيع بين الأجيال الجديدة في العالم العربي.

أحمد خالد توفيق الذي رحل عن عالمنا مؤخرًا، كنموذج أيضًا، لم يفتأ في مقالاته وكتاباته التأكيد على الحقيقة السابقة؛ أن العدو الحقيقي للأمة، هو الكيان الصهيوني، وأن المعركة الحقيقية للعرب، إنما هي على أرض فلسطين، داعيًا إلى عدم الانسياق إلى أية محاولات لشغل الرأي العام والأجيال الصاعدة عن هذه الحقيقة.

أحمد خالد توفيق الذي رحل عن عالمنا مؤخرًا، كنموذج أيضًا، لم يفتأ في مقالاته وكتاباته التأكيد على الحقيقة السابقة؛ أن العدو الحقيقي للأمة، هو الكيان الصهيوني، وأن المعركة الحقيقية للعرب، إنما هي على أرض فلسطين

وقدم بدوره نموذجًا كرَّس ذلك كله في الصورة الذهنية للقارئ، من خلال شخصية الطبيب الصهيوني أبراهام ليفي، في سلسلة “سافاري”، وهي الأهم بين مؤلفاته، والذي جعله نقطة تبلور أساسية للحديث عن جرائم الكيان الصهيوني الدائمة ضد الفلسطينيين، منذ بداية الصراع، وحتى الآن.

وفي الأخير؛ فإن الكتابة في هذا المضمار، بحاجة إلى مجلدات، وحديث مطوَّل؛ حيث النماذج كثيرة للغاية، ويبقى أن الدرس الأهم في هذا الصدد، هو أنه لا ينبغي إطلاقًا أن يتم تنحية سلاح القلم، وسلاح الكتابة الإبداعية الأدبية – وغير الأدبية في واقع الأمر – في خدمة القضية الفلسطينية ، والإبقاء على “إسرائيل” في الصورة الذهنية للأجيال الجديدة، باعتبارها “العدو الصهيوني”.

وتزداد أهمية ذلك في ظل كون هذه الأجيال الصاعدة هي الأكثر عرضة للتأثُّر بدعايات “السلام” الموهوم والتطبيع، مع تراجع سلاح البندقية لاعتبارات تكتيكية واستراتيجية تتعلق بالظرف السياسي أو الحالة الداخلية الفلسطينية ؛ حيث إن انسياح الأفكار والأعمال الأدبية أكثر سهولة، وأكثر فاعلية، ويعالج الفتور الذي نشأ عن عوار السياسة الرسمية العربية في المرحلة الراهنة!

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى