مقالاتمقالات مختارة

الأخذ من التاريخ.. بين حَرفية النقل وضوابط التطور الإنساني

بقلم أحمد التلاوي

من بين أهم الوسائل التي تتوسل بها الأمم والجماعات في التخطيط لحاضرها ومستقبلها؛ الأخذ من التاريخ، سواء أكان تاريخها أم تاريخ الأمم الأخرى.

وتعود أهمية الأخذ من التاريخ إلى أكثر من عامل، بعضها موضوعي والبعض الآخر معنوي.

ومن أهم البواعث الموضوعية لدراسة #التاريخ وأخذ الدروس المستفادة منه، أنه حدثٌ وقعَ وانتهى، ويمكن من خلاله بسهولة دراسة الأدوات الملائمة، والابتعاد عن مكامن الخطأ، وتوقع النتائج، وكل ما من شأنه رسم سياسة تعامل سليمة مع موقف أو واقع ما.

كما أن استحضار التاريخ له جوانبه المعنوية المهمة في حشد همم أبناء الأمة من خلال توسُّم تاريخ انتصاراتها ، وتذكُّر عوامل المجد والفخَار، وكل ما من شأنه رفع الروح المعنوية للناس.

إلا أن الأخذ من التاريخ على كلا المستويَيْن له ضوابطه التي ينبغي وضعها في الحسبان، وإلا تحول الأمر إلى نقيضه، وأدى ذلك إلى فشل وخسائر.

وبداية، نشير إلى أن هناك علماً كاملاً، أو باباً مستقلاً في الفلسفة، يُسمَّى “فلسفة التاريخ” أو “Philosophy of History”، وهذا الباب يختص بدراسة المنطق العام الذي يحكم التاريخ الإنساني في حقبة ما، أو في فترة سياسية ما، واستخلاص الدروس والعبر العامة من أجل الاستفادة منها في تحسين مستوى عملية صناعة القرار عند الإنسانية.

هناك علمٌ كاملٌ، أو بابٌ مستقلٌ في الفلسفة، يُسمَّى “فلسفة التاريخ” ، وهذا الباب يختص بدراسة المنطق العام الذي يحكم التاريخ الإنساني في حقبة ما، أو في فترة سياسية ما، واستخلاص الدروس والعبر العامة من أجل الاستفادة منها في تحسين مستوى عملية صناعة القرار عند الإنسانية

ومن بين أشهر من كتب في هذا الاتجاه، آرنولد توينبي وجون ستيوارت ميل، وكلاهما بريطاني، وبشكل عام فإن فلسفة التاريخ هو علم تخصص فيه فلاسفة ومفكري المدرسة الأنجلو ساكسونية، والمدرسة الجرمانية، مثل نيتشه وهيجل وشبينجلر، إلا أنه كالعادة علم لاتيني قديم، كان ربما أول من بدأ في البحث فيه، ووضع أسسه، القديس أوجستينوس أو القديس أوجستين الذي عاش بين القرنَيْن الرابع والخامس الميلاديَيْن.

وهو أمر مختلف قليلاً عن فكرة الحتمية التاريخية التي نادى بها الماديون والشيوعيون المحدثون والمعاصرون، وأصّل لها ماركس وإنجلز في كتاباتهم؛ حيث إن فلسفة التاريخ أقرب إلى العمرانيات، التي تهتم بدراسة القواعد والقوانين العامة التي تحكم صيرورات المجتمعات الإنسانية بشكل عام.

ولا يتناقض ذلك مع الدين في شيء؛ حيث إن القصص القرآني حَافِل بالكثير من الحوادث التاريخية للأمم السابقة، استخلص منها المفسرون الأوائل والمتأخرون الكثير من الدروس العامة والعِبَر  التي ينبغي الأخذ منها؛ لتفادي أن ينال الأمة مثلما نالت الأمم السابقة من عقاب ربها.

وبالعودة إلى نقطة الضوابط فإنه من بين أهم ما ينبغي على المسلمين المعاصرين العمل به عند دراسة التاريخ والتعلُّم منه، مراعاة التطور، ومراعاة الواقع.

من بين أهم ما ينبغي على المسلمين المعاصرين العمل به عند دراسة التاريخ والتعلُّم منه، مراعاة التطور، ومراعاة الواقع

ونعني بمراعاة التطور، هو ضرورة دراسة المتغيرات التي طرأت على الحالة التاريخية المماثلة لما هو معروض الآن من قضايا وحوادث، بحيث يمكن فهم ما تغير والتعامل على أساسه.

وبالمثل مراعاة الواقع؛ بحيث ينبغي أن يوضع الأمر الواقع القائم في الحسبان، والانطلاق منه، وهو أمر شديد الوضوح في السيرة النبوية عندما التزم الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، في عملية بناء الدولة الأولى، دولة المدينة، بواقع القوى وتوزيعها في المدينة، ثم العمل على تغيير ما يتعارض منه مع مصالح الجماعة المسلمة بالأداة المناسبة لكل حالة، بدءًا من أساليب العمل الساسي، ووصولاً إلى الحرب.

فما ينبغي أخذه من التجارب التاريخية إنما هو القوانين شديدة العمومية، أما على مستوى التنفيذ فإن المتغيرات التي طرأت، والواقع القائم، ينبغي أن يكونا في المقدمة.

فعلى سبيل المثال، عندما نتكلم عن إسقاط سياسة صلاح الدين في توحيد الأمة، والقضاء على قوى الممانعة، قبل الانطلاق إلى تحرير بيت المقدس من الصليبيين، أو سياسة نور الدين زنكي في ذات الاتجاه -فهذا ليس معناه الأخذ بها حرفيًّا.

فأولاً- يجب الوضع في الحسبان أن أية تجربة تاريخية تلت مرحلة دولة النبوة إنما هي اجتهاد بشري، مع انقطاع الوحي، وحتى الرسول الكريم، محمد “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، والذي كان مؤيَّدًا بالوحي، كانت له اجتهاداته التي شاءت حكمة الله عز وجل أن يقوم الصحابة باقتراح آراء أخرى، وأيدها القرآن الكريم؛ لكي يعلمنا الله تعالى أن أي اجتهاد بشري قابل للمراجعة، وأن نتعود على مجادلة القائد في المصلحة، وفق قواعد الأدب والتربية الإسلامية المرعية.

يجب الوضع في الحسبان أن أية تجربة تاريخية تلت مرحلة دولة النبوة إنما هي اجتهاد بشري

الأمر الثاني- وهو المهم فيما نحن بصدده، فقد يكون ما قام به صلاح الدين، أو نور الدين زنكي، أو قُطُز، وغيرهم من القادة العِظَام الذين أسسوا لدولٍ قوية في العالم الإسلامي -هو الصواب، ولكنه الصواب وفق مقاييس عصورهم في التعامل مع الأمور والمواقف المختلفة.

أي أنه في حال الأخذ بنماذج تاريخية ينبغي مراعاة الفوارق بين العصور وعوامل التطور المختلفة ، وهذه قوانين عمرانية لا خلاف عليها.

ومن بين أهم العوامل التي يجب وضعها في الحسبان في الوقت الراهن، العامل الصناعي، والذي غيَّر في مفاهيم العالم بأسره؛ فتحول إلى عالم من الوفرة، مما أدى إلى نتائج ضخمة غيرت وجه العالم، كان من بينها موجات الاستعمار الغربي ذاتها.

فصار هناك الإنتاج الصناعي، الذي أدى إلى ضرورة الخروج خارج الحدود للبحث عن المواد الخام، وتصريف المنتجات الزائدة، وصار هناك كذلك الحرب الصناعية التي أدت إلى توصُّل البشرية إلى نوعيات من الأسلحة أكثر فتكًا؛ حيث يمكن الآن بضغطة زر واحدة، أن تُباد مدينة بل دولة كاملة بقنبلة واحدة!

أضف إلى ذلك تعقد شكل العمران وبناء المدن، ففي القرن السادس عشر، التهم حريق واحد العاصمة البريطانية لندن بالكامل، بينما الآن تعقد كثيرًا شكل المدن وتفاصيلها، وصارت أكبر بمراحل، وأكثر تشابكًا وتنوعًا فيما يُعرَف بالكوزموبوليتانية “cosmopolitan”.

ووفق تصنيف علوم الاجتماع فإن اتصاف مدينة بصفة “الكوزموبوليتانية”، يعني أنها قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي، وعلى قدر كبير من التنوع، بحيث يمكن القول إن بعض مدن عالمنا الحالي، وبالذات العواصم الكبرى؛ تساوي دولاً قديمة بأكملها.

وبالتالي لم يعد قرار الحرب سهلاً كما كان في الماضي؛ حيث نقلت هذه التطورات مفهوم الحرب ومفهوم الصراع المسلح بشكل عام، عن الماضي، نقلة مختلفة تنبغي مراعاتها .

ففي الماضي كانت الحروب تتم في المساحات المفتوحة، وكان ضحاياها يقتصرون على قوات الجيوش المتحاربة، وحالات تدمير المدن عبر التاريخ بعد غزوها؛ تبرز نماذج محدودة، ولذلك خلدها التاريخ، مثل القدس وقت نبوخذ نصَّر والصليبيين، وطروادة وقت حروب الإغريق والرومان.

أما الآن فإن حروب المدن، والحروب الأهلية، والخراب الناتج عنها، يمكنها أن تؤدي إلى متغيرات وعواقب ديموجرافية وسياسية، بجانب الخسائر الاقتصادية والبشرية، بشكل أكثر عمقًا بكثير من الماضي.

وبالتالي فإنه، وبكل تأكيد، ووفق ما نقله التاريخ عن بُعد نظره ورشادته؛ فإنه لو بُعِث صلاح الدين الآن كان سوف يتصرف بمنطق مختلف. ففي المفهوم القريب للحرب –على سبيل المثال– فإن أقوى فرسان صلاح الدين؛ لا يستطيع الصمود أمام دبابة الآن. وقتها صلاح الدين كان سوف يُعِدّ عدة مختلفة، وهكذا.

لو بُعِث صلاح الدين الآن كان سوف يتصرف بمنطق مختلف. ففي المفهوم القريب للحرب –على سبيل المثال– فإن أقوى فرسان صلاح الدين؛ لا يستطيع الصمود أمام دبابة الآن. وقتها صلاح الدين كان سوف يُعِدّ عدة مختلفة

وكذلك قوانين ومفاهيم السياسة والحكم بشكل عام نجدها الآن صارت شديدة الاختلاف والتعقيد عن الماضي، بحيث لا يمكن بحال نقل تجارب الماضي إلى الحاضر، حتى ولو ظل التاريخ قائمًا ببعض صوره ومفاهيمه، مثل الدستور، ومجالس الشيوخ، وفكرة المؤسسات التمثيلية المنتخبة من قبل الشعب.

وفي هذا الإطار فإن مسألة الأخذ من التاريخ، وإسقاطه على حالات ومواقف آنية، ينبغي معها أن يكون الأمر على أكبر قدر ممكن من التدقيق، وأن يكون الأخذ من القوانين العمرانية العامة، التي تُعتبر من الثوابت، على أن تكون الأولوية معطاة لدراسة عوامل الفشل، فيما تفرض عوامل التطور البحث عن بدائل جديدة في كل يوم من أيام حياة الإنسان على وجه هذه الأرض.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى