مقالاتمقالات مختارة

الأحداث الكونية .. وصناعة الوعي

الأحداث الكونية .. وصناعة الوعي

بقلم د. عطية عدلان

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
لا يمكن تصنيف الأحداث التي تقع في منطقتنا من ثورات وانقلابات وقتل وهرج وتآمر ومكائد على أنها أحداث كونية صرفة لا تَعَلُّقَ لها بإرادة الإنسان؛ لأنَّها جرت بمشيئة الخلق – محسنهم ومسيئهم – وبكامل اختيارهم، ووقعت بكسب أيديهم، وبحصد أقلامهم وألسنتهم وآلات حربهم، هذا هو الوجه الإنسانيّ للأحداث، والذي يعكس التكليف والمسئولية، أمَّا بالنظر لما وراء هذا المشهد – بكافَّة صوره الجزئية المتلاحقة – من سنن إلهية تحرك الوجود البشريّ في اتجاه صناعة واقع إنسانيّ جديد؛ فإنّ المشهد يختلف جد الاختلاف؛ ليصير قابلاً لوصفه بأنه كونيٌّ، ترسم ملامحه وتضع سماته يد القدرة وقلم القدر.
لذلك لم تكن موجة الربيع العربيّ مجرد أحداث وتحركات شعبية؛ نجتهد في وزنها وتقييمها ودراسة سلبياتها وإيجابياتها، ومعرفة ما لها وما عليها، وإنما كانت إلى جانب ذلك زلزالاً بشرياً أحدث صدوعاً في التركيبة النفسية والعقلية والشعورية للشريحة البشرية القاطنة لمنطقتنا، وكشف كثيراً مما كان مخبوءا مستوراً، وصاغ إرادة للتغيير قوية ماضية، تذبل أحياناً تحت مطارق المحن ولكنها باقية، تخبو وتخفت وتعلو وتهبط، ولكن لا تموت ولا يلفها الفناء، ولم تكن تلك الانقلابات على الموجة الثورية الآنفة مجرد جريمة ارتكبتها الثورة المضادة بمعاونة إقليمية جاهرة ودعم دوليّ مستتر، وإنَّما كانت إلى جانب ذلك عاصفة عاتية عَرَّت ما تبقى مما كان مستوراً من فضائح وقبائح الأنظمة وأجهزتها ومؤسساتها، وكشفت العلاقة بينها وبين القوى المتحكمة في المنطقة، وفضحت أمراً آخر ما كان ليفتضح بيد أصحابه ولو أنفَقَتْ القلة الواعية عمرها كله في سبيل ذلك، وهو السذاجة والسطحية والجهل بالواقع لدى كافة الاتجاهات المناهضة للاستبداد والمقاومة للظلم ولفساد.
ولا تزال الأحداث تتوالى وتتابع وتتسارع وتتسابق؛ كأنها ثورة كونية على الزيف والخداع؛ تهدف إلى إسقاط الأقنعة وهتك الحجب وكشف المخبوء وراء ركام الوعي المزيف؛ وتساقطت في قلوب الخلق جميع الأوهام وتحطمت كل الأصنام، فأمَّا النظام العربيّ بكافة أجنحته فبرغم بقائه واستعادته لتمكنه وتجذره بالقبضة الأمنية الرعناء لم يعد له وجود في عقول الناس وقلوبهم وقناعاتهم، وأمَّا النظام الدولي بكل مؤسساته الزائفة فقد تهشم على صخور الأحداث المتوالية، فلم يعد أحد يسمع باسم شيء من هذه المؤسسات إلا ويجري بخلده شريط الأحداث المؤلمة وبمحاذاته كل حكايات النفاق والخداع والختل، وفي الجولة الأخيرة تَبَخَّر كل ما تبقي من الاحترام والتوقير للنظام الذي ظل دهوراً مستتراً وراء خدمة الحرمين الشريفين وهو يمارس بأموال المسلمين ومقدرات الأمة أبشع الجرائم؛ إحباطاً للثورات ودعماً للانقلابات وإعانة لكل مستبد ظالم.
لكن الشيء المؤكد هو أنَّ المنتج الوحيد الذي يعد مكسبا كبيرا من وراء كل هذه الأحداث هو ذلك الكمّ الهائل من الحقائق والمعلومات التي تصلح لتشكيل وعي جديد؛ يعد الركيزة الأولى في التغيير المنشود، إلى حدّ إمكان الزعم بأنّ تتابع الأحداث وتواليها وتسارعها وتزاحمها إنما جاء على هذا النحو لكون الحاجة إلى تشكيل الوعي عاجلة وملحة وعلى درجة من الخطورة تستدعي انتفاضة توعوية شاملة؛ وعليه فإنَّ واجب الوقت الأول هو صناعة الوعي على نار الأحداث الكونية الكبيرة؛ ويترتب على هذه النتيجة حزمة من المسلمات، منها أنَّ التأخر في أداء هذا الواجب يعني التأخر في الخروج من ذلك النفق المظلم، ومنها أنَّ أكبر جرم يرتكب في حق هذه الأمة في هذه المرحلة هو تفويت الفرصة على من يسعى لصناعة الوعي النظيف؛ بممارسة التشويه والتزييف.
وأهم تحدّ في معركة الوعي هو تحديد الأعداء وتمييزهم عن الأصدقاء، وإعطاء كل نوع من الأعداء وزنه وحكمه، والاطلاع على ما بينهم جميعاً من علاقات ومصالح؛ وتقييم الأحداث التاريخية التي رسمت ملامح الفترة السابقة، مع قدر ضروريّ من الاستشراف والتنبؤ يبنى على أصول التفكير العلميّ وعلى فهم التاريخ والواقع وربط ذلك كله بالسنن الإلهية التي تحكم حياة الشعوب والأمم والحضارات.
لذلك نجد أن من أهم مقاصد القرآن الكريم وأكبر موضوعاته صناعة وعي إسلاميّ إيماني رشيد؛ لولاه ما استطاع المسلمون أن يديروا الصراع مع الجاهلية التي كانت تموج بالعداوة عليهم آنذاك، ولاسيما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما ارتد العرب قاطبة عن الإسلام إلا أهل مكة والمدينة، وتربصت بالمسلمين من وراء الجزيرة فارس والروم، وأطلت الفتنة برأسها، وصار الصحابة في هذه المحنة ووسط هذا المحيط من العداوات كغُيَمْات مَطِيرة في ليلة شاتية حالكة الظلمة؛ يومها نهض الصحابة خلف أبي بكر لا يترددون ولا يتلعثمون، حتى القضايا القليلة التي اختلفوا في تقديرها كقتال مانعي الزكاة لم يطل اختلافهم إلا بقدر ما تتجمع الفكرة الواحدة في ذهن الرجل الواحد؛ وما ذاك إلا للمستوى الرفيع من النضج والوعي الذي يعصمهم من الزلل ومن تفرق الكلمة.
فانظر – على سبيل المثال – كيف كان القرآن يصنع الوعي بحقائق الرجال والكيانات ويفسر المواقف الصادرة عنها تفسيراً يجلي الحقائق ويكشف المخبوء: ففي شأن الكفار المعاندين ولا سيما أئمة الكفر منهم يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) (البقرة 6) (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)) (الحجر 14-15) (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (الروم 29) (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ) (غافر 4) (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ) (آل عمران 196) (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) (الحجر 2) (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)) (القلم 51-52) (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم 9)، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال 73)؛ لذلك لم ينخدع المسلمون بالكفار ولم يلينوا لهم، ولم يقعوا يوماً في براثن الخداع التي طالما نصبوها لهم، وفرقوا في كل مراحل جهادهم بين الكبراء منهم والضعفاء.
وحتى لا ينخدع المسلمون بأهل الكتاب لكونهم أهل كتاب؛ كان القرآن ينزل بتقرير المفاهيم الصحيحة التي تنبني عليها المواقف الصحيحة: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (البقرة 120) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة 34) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)) (المائدة 51-52).
والأخطر من هؤلاء وهؤلاء المنافقون؛ فأمرهم يخفى وحقيقتهم تستتر وراء غلالة من زخرف القول؛ فليكن البيان في حقهم وافياً: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)) (المنافقون 3-4) (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران 119) (لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) (التوبة 66) (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (المنافقون 8) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران 118) (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)) (الحشر 11-12).

المصدر: رابطة علماء أهل السنة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى