بقلم أمير سعيد
كيلا يكون تكبيراتنا في العيد آلية، وترديدنا إياها نمطياً، يتعين علينا أن نستلهم معنى التكبير جيداً، ونربط بينه وبين عباداتنا التي شرع فيها التكبير أو أمر به.
حقيقة، تترطب الألسنة بذكر الله، لكن أثر هذا الترطيب اللساني لابد أن يصل إلى القلب، أن يتسلل إلى الجسد كله، استشعاراً بقيمة الذكر ومعانيه.
وإذ ذكر الله سبحانه “التكبير” في الفطر، و”الذكر” عموماً في الأضحى؛ فإن التكبير في العيدين يشمل في معظم صيغه المشروعة الحمد والتهليل والتسبيح ونحوها؛ فالتكبير في العيد – كما في الفطر – يقترن بالحمد، مثلما يقول الله عز وجل: { ولتكبروا الله على ما هداكم } قال القاسمي في محاسن التأويل: “كأنه قيل: ولتكبّروا الله حامدين على ما هداكم”، وقال السمرقندي في البحر المحيط: ” كأنه قيل: ولتحمدوا الله بالتكبير على ما هداكم”.
فللتكبير حمداً لله معنى عظيم، يرتبط جذرياً مع عظم العبادة التي وفق العبد الطائع إليها، إنه التوحيد يعلن ساطعاً في كل الأرجاء وبصوت عالٍ لا يخشى تبعة هذا الإعلان، إنه الأمر بأن نصف الله بالعظمة، ونقول “الله أكبر: وهي جملة تدل على أن الله أعظم من كل عظيم في الواقع كالحكماء والملوك والسادة والقادة ، ومن كل عظيم في الاعتقاد كالآلهة الباطلة ، وإثبات الأعظمية لله في كلمة ( الله أكبر ) كناية عن وحدانيته بالإلهية ؛ لأن التفضيل يستلزم نقصان من عداه والناقص غير مستحق للإلهية؛ لأن حقيقتها لا تلاقي شيئا من النقص، ولذلك شرع التكبير في الصلاة لإبطال ما كانوا يتقربون به إلى أصنامهم، وكذلك شرع التكبير عند انتهاء الصيام بهذه الآية، فمن أجل ذلك مضت السنة بأن يكبر المسلمون عند الخروج إلى صلاة العيد، ويكبر الإمام في خطبة العيد.”، كما يقول الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير.
إنه هكذا، صيحة يصدح به المؤمنون إقراراً لله بالتوحيد، عرفاناً بالتوفيق لعبادة، انسلاخاً من كل متبوع أو مطاع يخالف أمره، إذعاناً وشكراً، انشراحاً وحبوراً، حيث ههنا السعادة الحقيقية، عند إتمام الطاعة، واكتمال العبادة.
إن الهداية إلى الطاعات تستأهل تكبيراً يشق عنان السماء، تستحق شكراً، يقول رشيد رضا في المنار: ” { ولتكبروا الله على ما هداكم } إليه من الأحكام النافعة لكم بأن تذكروا عظمته وكبرياءه وحكمته في إصلاح عباده، وأنه يربيهم بما يشاء من الأحكام، ويؤدبهم بما يختار من التكاليف، ويتفضل عليهم عند ضعفهم بالرخص اللائقة بحالهم”.
وإن التكبير بدوره يحدث في النفس أثراً عالياً يرد العقل إلى مغزى العيد، كاحتفال بإنجاز طاعة، بإعلان المحبة لله عز وجل، وتجديد العهد معه سبحانه وتعالى، إنه استشعار العزة بمعية الله، واستعلاء بعبوديته، إنه التجسيد الحقيقي لمعنى السعادة، وهي العيش في رحاب الله وشريعته.
وإن المشقة التي تحصل في صوم أو حج، في قيام أو في طاعات في أعظم أيام الله ولياليه، شهر رمضان أو عشر ذي الحجة، تلك المشقة هي في حقيقتها قمة السعادة، حين تستحيل إشراقاً وانقياداً، حين تتبدى مشكاة تنير الطريق، وتطوي الدنيا بين جناحي الطاعة والإنابة؛ فقمة السعادة تتحقق بمعية الله، ومعيته لا تستشعر بغير توحيده المعلن بالتكبير، وفي الطاعات بالمسارعة والتبكير.. عند إتمام الطاعة فالتكبير مستحق، ” لأن الحق سبحانه عالم أن عبده حين ينصاع لحكم أراده الله وفيه مشقه عليه (…) وعندما يشعر بأنه قد انتهى منه إنه سبحانه عالم بأن العبد سيجد في نفسه إشراقاً يستحق أن يشكر الله (…) أن تقول: الله أكبر وأن تشكره على العبادة التي كنت تعتقد أنها تضنيك، لكنك وجدت فيها تجليات وإشراقات، فتقول: الله أكبر من كل ذلك، الله أكبر؛ لأنه حين يمنعني يعطيني، وسبحانه يعطي حتى في المنع (…) وتذوق حلاوة التكليف وإن كان قد فوت عليك الاستمتاع بنعمة فإنه أعطاك نعمة أكثر منها (… وسترون) ما يجعلكم تنطقون بـ الله أكبر؛ لأن الله أسدى إليكم جميلاً”، تفسير الشعراوي.
للتكبير صيغه الكثيرة التي وسع في ذكرها العلماء، وجميعها تنحو إلى التكبير والتهليل والتحميد والتسبيح، وفي بعضها تتجلى أيضاً معاني الانتصار، حيث يرد فيه الفضل إلى الله؛ إذ “صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده”.. أكان الانتصار على النفس أو الشيطان أو الأعداء.. إنه خلوص العبادة لله، وثبوت العرفان والشكر إليه، والانصياع إلى أوامره، وتحقيق أصل السعادة وجوهرها.. إن العيد هنا. عند الذكر، عند تمجيد الله، عند إعلان التوحيد بتكبير يشق عنان السماء، إنه صوت يهدر في كل الأرجاء يعلن أن هذه الأمة لا تستخفي بدينها، لا تستنكف عن عبادة ربها، لا تخجل من الصدع بالحق في كل مكان، إنه إعلام للناس كافة أن السعادة في معية الله، والفوز الحقيقي هو بمرضات الله والخضوع لأمره ودوام طاعته.
حينئذ، يصبح للتكبير معناه في النفوس المؤمنة، تحتفظ بكنوزه ولآلئه، وإلا صار التكبير فعلا آلياً يحاكي أجهزة التسجيل والإذاعة. إن التكبير صدع بعقيدة، منهاج لحياة، إسلام وإيمان.. هكذا، لنعش به ومعه، نستصغر كل شيء أمام عظمة ملك الملوك.. إنه “الله أكبر”.
(المصدر: موقع المسلم)