الأثر العكسي للاستبداد السياسي على فتوى المفتي!
بقلم د. محمد علي المصري
يبدو أن تأثير السلطة على المفتين لا يتوقف فقط في (موافقة) بعض المفتين لأهواء الحكام، واتجاهاتهم السياسية، وتمرير تلك السياسات بصبغة شرعية من خلال الفتاوى، وفي الحقيقة فإن هذا مشاهد ومعروف تاريخيًا وحاليًا …
لكن العجيب أن نجد لهذا الاستبداد أثرًا عكسيًا على المفتي، إذ إنه بدلا من أن يوافق اتجاه السلطة السياسية،
ولأنه (يقاوم) سطوتها وضغطها؛ نجده يأخذ الجانب المقابل لرأي السلطة،
دون أن يكون له في هذا غرض أو هدف، لكنه تأثير انعكاسي لا شعوري!
ربما تجد أن هذا الكلام غريبًا ..!!
وفي الحقيقة فإن بعض النماذج التاريخية ربما تفَسَّر على هذا النحو ..
ففي فتوى الشيخ محمد عليش صاحب كتاب (فتح العليّ المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك)، ت 1299هـ، ومفتي المالكية بمصر في حينه،
قد ضمّن فتواه في (تطعيم) طفل من بعض الأمراض، فقال ما نصه: (هذا الفعل غير جائز.. وأنه بمثابة إدخال ضرر، وتغرير بنفس طفل وأطرافه،
وأنه عمل من أعمال المجوس يتحيلون به لتطويل الحياة)!،
ثم أنهى فتواه بقوله:
(ولم أر من صرح بالحكم في هذه النازلة التي عمت فيها البلوى وأجبر الظلمة وأعداء الدين العامةَ عليها، ومن وقف على نص قديم فيها فليلحقه بهذا وأجره على الله)!
وقد يقال أن هذا هو اتجاه الشيخ، رحمه الله، في فتاويه،
وقد قمت بجردها كلها، وأستطيع أن أقول أن الرجل بالفعل يميل إلى الاعتماد على النص الثابت عن أئمة المالكية السابقين،
وبالطبع كان هذا اتجاهًا عامًا لمفتيي المذاهب المتأخرين.
لكن دراسة فتاوى الشيخ، رحمه الله، أيضا تؤكد أيضًا أخذه (بالجديد)، وإفتائه في (النوازل)،
حتى وإن كانت على غير مثال سابق، ولم يكن فيها (نص) لأئمة المذهب رحمهم الله تعالى!
فمن ذلك إجازته للتليغراف في إثبات البلاغ بدخول شهر رمضان، وإلزام الصيام به (فتح العلي المالك 1/180) …
فما الفرق بين الفتويين؟!
بالطبع قد تكون محددات المخالفة بينهما كثيرة، ولا يمكن الجزم قطعًا بفارق، ولا تتسع هذه الكلمة لبحث الاحتمالات وترجيح أحدها،
لكن ما يلفت النظر في التغاير بين الفتويين أن المصل المذكور في الفتوى الأولى كان (اتجاه الدولة) أو السلطة في إجبار الناس على (التطعيم بالمصل) عنوة منذ عهد محمد علي باشا،
حتى إن الجبرتي تكلم عن (الكورنتينة) التي يعتقد أنها تمنع مرض الطاعون،
وذم الجبرتي قاضي الشريعة الذي وافق قول محمد علي واتجاه الدولة في هذا الوقت،
وفي المقابل فقد كان محمد علي -السلطة- يرى أن رفض (الأهالي) ناشئ من كونهم (عديمي الإدراك وحيوانات لا يفرقون بين الخير من الشر)!!
ويضاف إلى هذا أيضا أن الشيخ محمد عليش مفتي المالكية في مصر كما ذكرنا، ويتركز المالكية في صعيد مصر (جنوبها)،
وبالرغم من أن الشيخ محمد عليش قاهري المولد والتعليم؛ إلا أنه وباعتبار اختلاطه وانغماسه بالمالكية (أهل الصعيد) تَعَلُّمًا وتعليمًا وإفتاءً، قد تطبع بطباع أهل الصعيد الذين يُعرفون بالأَنَفة،
ورفض الإكراه على الفعل، حتى وإن كلفهم حياتهم، يتوارثون هذه الخصال كابرًا عن كابر، حتى إنه في بعض الفترات كانوا شبه منفصلين عن السلطة المركزية بالقاهرة في إدارة شؤونهم،
وكان من يسيطر على الوجه البحري والقاهرة يجد صعوبة ومقاومة في (إخضاع) الصعيد للسلطة المركزية …
في ظل هذه العوامل من الضغط السلطوي لتمرير فكرة التطعيم والمصل، ومحاولة حَمْل الناس عنوة على الأخذ به، مع توفر الطبع أو التطبع في مقاومة الإكراه؛ قد نجد جوابًا عن الفرق بين الفتويين!
أو على الأقل عاملاً هامًا في التغاير بينهما، وفي مقاومة الاستبداد والسلطة بالتمسك (النصي) في الفتوى، وإن كان حقيقتها اتخاذ موقف (مناوئ) للاستبداد!
المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية