الأبعاد الفكرية في موقف فرنسا من الرسوم المسيئة للإسلام
بقلم بلال التليدي
تقدم الخطاطة الماركسية تفسيرا مهما لعلاقة الإيديولوجي بالسياسي، فقد اعتادت أن تعرف الإيديولوجية باعتبارها وعيا زائفا، تنتجها الطبقة المتحكمة، لكي تلهي القوى التي تشكل نقيضها الاستراتيجي، فتصرفها عن حقيقة الصراع. فقد أصبح مشهورا في التحليل الماركسي، أن مبدأ أي صراع، هو كشف زيف الإيديولوجيا التي تنتجها هذه الطبقات، وإبراز طبيعة الصراع الحقيقي، الذي تحاول القوى المتحكمة إخفاءه.
غير أن عملية التحرر من زيف النقاشات والصراعات التي تنتجها الطبقات المتحكمة وتدير خيوطها وتوجه مخرجاتها، يخاض على ساحة الفكر أولا، قبل أن ينتقل إلى الساحة الحقيقة للصراع، أي مسرح السياسة، التي تتصرف فيه التناقضات المصلحية الكبرى.
نستعير هذه المقدمة، لننقل فعاليتها النظرية لفهم طبيعة الجدل المثار اليوم في فرنسا على خلفية الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، وموقف الدولة الفرنسية منها، وخلفيات هذا الموقف، وما يختفي خلفه من تناقضات مفصلية لا يريد الساسة الفرنسيون كشفها للجمهور.
الرسوم المسيئة للرسول عليه السلام وقواعد الجمهورية.. نقاش القشرة السطحية
الكل يعرف القصة كيف بدأت، وكيف انتهت، بدأت باستهداف النبي صلى الله عليه وسلم في فصل دراسي، لا يمكن تسويغه بمقتضيات المنهاج التربوي، ولا بمقتضيات القانون، وانتهى إلى اصطفاف الدولة إلى جانب نشر هذه الرسوم المسيئة، وخلق عدو كبير اسمه “الإسلاموية الراديكالية” الذي يستهدف مبادئ الجمهورية، ويهدد الأمن والاستقرار بفرنسا !
للمراقب أن يسجل تحولا كبيرا في الموقف الفرنسي، ففي أزمة الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم التي نشرتها مجلة شارلي إيبدو سنة 2006، حاولت الدولة أن تلتزم ظاهريا الحياد، فحاولت إفهام العالم العربي والإسلامي، أن دولة فرنسا، لا يمكن لها أن تتدخل لمنع وسائل الإعلام من التعبير عن رأيها، وأن أي سلوك منها في هذا الاتجاه، سيعرضها للمساءلة والاتهام، بضرب النموذج العلماني الفرنسي، أو مصادمة مبادئ الجمهورية. لكن مع أزمة الرسوم الحالية، فقد تورط ماكرون، وورط معه الدولة الفرنسية، حين أخرجها من دائرة الحياد، قبل أن يضطر إلى تعديل الموقف في لقائه بالجزيرة، والانعطاف للموقف السابق الذي عبرت عنه سنة 2006، والزعم بأن تصريحاته قد حرفت، أو أولت على غير ما هي عليه.
لا يهم أقام ماكرون بهذا التعديل الجزئي تحت ضغط الخوف على مصالح فرنسا بسبب حدة المقاطعة الفرنسية، أم قام بذلك تحت ضغط من الداخل، فالمجتمع السياسي في فرنسا، لم يبد دعما كافيا لماكرون، بل بالعكس من ذلك، اشتدت الانتقادات الموجهة إليه، على خلفية محاولته الهروب إلى الأمام، وافتعال عدو خارجي، لخلق جبهة داخلية قوية تسنده، بعد أن أظهرت أسهمه في سوق السياسة انخفاضا كبيرا.
لطالما طرح خطر الإسلام على الهوية الفرنسية، ونقل إلى خانة الأولويات الاستراتيجية، لكن الإحصائيات الرسمية، تقول بأن الإسلام يتقدم بوتيرة أكثر من المتصور وتلك هي المعضلة في فرنسا. بل ذلك هو الجزء المخفي من الصراع.
نقاش السطح، أو القشرة، يدور في حلقات كثيرة، بعضها انتخابي، وهل فعل ماكرون ذلك لكسب أصوات اليمين المتطرف، وبعضها سياسي، وهل أراد ماكرون أن يبرر فشله في مواجهة كورونا بافتعال معركة مع عدو خارجي، وجر فرنسا للحرب مع شبح مجهول لا تعلم قسماته، وبعضها فكري، وهل ردة الفعل الإسلامية الواسعة ضد الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم تشكل تهديدا حقيقيا للنموذج العلماني الفرنسي ولمفهوم الحرية الذي عليه قامت الجمهورية الفرنسية؟
الرئيس الفرنسي، يحدد عدوه بكل وضوح، إنه “الإسلاموية الراديكالية”، ووزير الداخلية، يخشى أن يعترض عليه، بكون فرنسا لم تعرف أي عمل إرهابي منذ سنة 2017، فأراد أن يجعل من العمليات الثلاثة الأخيرة، التي جاءت على خلفية الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليسه وسلم، مسارا لم يتوقف، وأن الاستخبارات الفرنسية، تفكك كل شهر خلية بمخططات إرهابية كبرى، وأن فعاليتها الأمنية، إن أسعفتها في ذلك مرات عديدة، فقد لا تسعفها في المستقبل، وقد ينتج عن ذلك تقديم كلفة ثقيلة.
الجمهور ليست له معطيات عن هذه الخلايا والعمليات المفترضة، لكن صورة الحوادث الثلاث ماثلة أمام عينه، وأن ذلك يكفي بالنسبة لخطاب وزير الداخلية لكي يجد التفاعل المطلوب، أو للدقة، لكي يخلق الرعب المطلوب.
الدارسون للسياسة الخارجية الفرنسية، يعلمون أن فرنسا هي التي عرقلت مساعي الاتحاد الأوروبي للتجاوب مع مطالب تركيا في مواجهة خطر داعش، ودعمها في ذلك، حتى اضطرت تركيا للتهديد أكثر من مرة، بأنها لن تتحمل وحدها مسؤولية إيواء ملايين اللاجئين السوريين، وأنها ستفتح الحدود لهم حتى يتحمل الآخرون مسؤولياتهم في مواجهة التهديدات الإرهابية التي يشكلها تنظيم داعش.
المختصون في دراسة الإرهاب يعلمون أن فرنسا توجد في الدرجة المتوسطة للخطر الإرهابي، وأن درجة الخطر نزلت بست درجات كما يفيد بذلك مؤشر الإرهاب العالمي 2019، وأن أوروبا إلى جانب الأمريكتين سجلت أقل النسب من حيث عدد الهجمات والقتلى التي تسببت فيها الجماعات الإرهابية مقاربة بروسيا وآسيا ومنطقة الساحل جنوب الصحراء ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ومع ذلك، تصور التعبيرات الإعلامية الفرنسية التهديد الإرهابي الذي يستهدف البلد، كما ولو كانت فرنسا في وضع آخر غير ما تكشفه هذه المؤشرات التي تستقي معطياتها من الإحصائيات الأمنية الرسمية التي توفرها الدول.
يكشف البناء الداخلي لهذه الحجج جميعها، أنها أشبه ما تكون بفقاعات، أنتجت لكي لا تعيش، ولذلك، لا يتم الحرص على إسناد محتواها بالقدر الكافي من البناء والانسجام الداخلي، فيكفي في ذلك، جرعة من التخويف والإرعاب، فالشروط النفسية التي خلقتها جائحة كورونا، جعلت النفسيات، بل حتى العقول، هشة، تسارع إلى الانهيار الكامل أمام المقولات إذا ما كانت مشحونة بثقافة الخوف.
الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليم وسلم.. نقاش العمق
لنعد تركيب الصورة من جديد، ففرنسا كانت في ورطة حقيقة، في اللحظة التي تداعي فيها المدرس الفرنسي صمويل باتي إلى جعل الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم جزءا من محتوى دراسي، يخضع له في الفصل متعلمون فرنسيون بينهم مسلمين، وازدادت ورطتها أكبر، لما دخل والد التلميذة الفرنسية المسلمة في حملة تواصلية واسعة لإدانة هذا السلوك وفتح نقاش عمومي حوله، ولم تتنفس فرنسا الصعداء حتى وقع الحدث الإرهابي، الذي حول القصة من مظلومية المسلمين في فرنسا إلى مظلومية فرنسا من المسلمين أو من “الإسلاموية”.
لم تكن هذه هي كل الصورة، فإلى جانبها، أو قبلها وخلالها، كان هناك اشتغال حثيث على سياسات متوالية لبناء “إسلام فرنسي”، يتم فيه مراجعة الحقل الديني (الإسلامي) في فرنسا برمته، من منع قدوم أئمة من خارج فرنسا، إلى تكوين الأئمة داخل فرنسا، ومن التحكم في تعليم اللغة العربية، إلى مراقبة المسلمين وتصرفاتهم المالية، ومن إعادة النظر في المنتجات “الحلال”، إلى مراقبة التطوعات والهبات المالية.
الباحثون يعرفون أن نشر تقرير “صناعة الإسلاميين” الذي أغدق الرئيس ماكرون على المركز الذي أنتجه (مركز مونطاني) أمولا طائلة في عز الأزمة كان له ما وراءه، وأن ما يجري اليوم ليس إلا تنفيذا لتوصياته بالحرف.
المسلمون يستشعرون في تغير السلوك السياسي للدولة اتجاههم أن شيئا غير عادي ينتظرهم، ليس فقط من ماكرون، بل من نخب التحت التي تتحكم في بنية السياسة الفرنسية.
أين المشكلة؟ وما جوهر الصراع؟
نقرأ في إحصائيات الديمغرافيا الدينية في فرنسا معطيات مثيرة، ففي سنة 2007، كانت وزارة الداخلية الفرنسية تتحدث عن نسبة ما بين 4.5 و8 في المائة من المسلمين، وفي معطيات سنة 2019، ثمة حديث عن نسبة 15 في المائة من المسلمين داخل المجتمع الفرنسي.
الأرقام تتحدث عن تحول كبير، لكن مراكز التفكير الفرنسية لا تتحدث عن كيف وقع ذلك، ولا عن العوامل المفسرة، ونسبة كل عامل على حدة، وما إذا كان العامل الأقوى هو الهجرة، أم الاقتناع أم الزواج؟ كما تفعل مراكز أمريكية متخصصة في دراسة التحولات الدينية والقيمية مثل مركز بيو مثلا.
مؤكد أن الدوائر الرسمية للدولة، تملك هذه المعطيات، ولا تريد أن تتقاسمها مع الجمهور، وبدل ذلك، تنتج ردود فعل ضد ظواهر اللباس والزي، وتحاول تصوير وجود معركة ضد مبادئ الجمهورية، وضد النموذج العلماني الفرنسي، يقودها إسلام متطرف راديكالي.
المفكرون الفرنسيون يتحذقلون في نقد النظرة الجوهرانية للهوية، ويتخصصون أكثر من غيرهم في تأكيد نسبيتها، وأنها تتغير وتتأثر بالتحولات الكبرى التي تصيب البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لكنهم لا يفعلون ذلك إلا عندما يتعلق الأمر بعرض منتوج مستهلك في الأسواق الخارجية، أي أن الحديث عن نسبية الهوية وخضوعها للتحول يصلح في كل البيئات إلا في فرنسا، التي تحتفظ بهوية جوهرانية ثابتة، هي ما رسمته مبادئ الجمهورية، وبشكل خاص تمثلها لمفهوم الحرية.
لكن فرنسا، مثل غيرها من الدول الديمقراطية، تؤمن بتقييد الحرية بضابط القانون الذي يعبر عن إرادة الأمة، وبضابط النظام العام الذي يعبر عن قواعد التوازن والاستقرار الاجتماعي.
في ألمانيا، كانت المستشارة ميركل، واضحة تماما حينما صرحت بوقوفها ضد نشر الرسوم المسيئة للنبي صلى الله علسه وسلم، وأن الحرية تنتهي عندما تبتدئ حرية الآخرين، وكذلك فعل رئيس الوزراء الكندي، فهم ينطلقون من الثقافة الحقوقية نفسها، لكنهم يدركون أن الحرية تمارس ضمن مقومات الاستقرار والتوازن الاجتماعي، وأنه في اللحظة التي تكون الحرية مربكة لهذا التوازن والاستقرار الاجتماعي، يصير تقييدها ضروريا بل واجبا.
أين المشكلة إذن؟ هل تأخذ عمقها في بعدها الفكري، أم القانوني، أم الحقوقي؟
هي كل ذلك، لكن نقاش العمق فيها، أبعد من ذلك كله، لأنه مرتبط، بتغير قواعد النظام العام ومقوماته في فرنسا، فالإسلام أصبح جزءا لا يتجزأ من هذا النظام، والحرية، لم يعد من الممكن ممارستها في فرنسا، من غير مراعاة قواعد هذا التوازن، ومنها وجود الإسلام في مربع المعادلة، ولذلك، يعتمد الساسة الفرنسيون سياسة الهروب إلى الأمام، لكن جوهر ما يشتغلون عليه هو محاولة الاستدراك، بإعادة تأسيس قواعد ومقومات النظام العام من جديد، أي إنتاج سياسات سريعة من أجل إعادة الإسلام إلى النقطة التي لا يكون فيها فاعلا ضمن مقومات النظام العام، وتلك مشكلة حيوية، يثار حول الأساليب المعتمدة للجواب عنها شكوك كثيرة. فلطالما طرح خطر الإسلام على الهوية الفرنسية، ونقل إلى خانة الأولويات الاستراتيجية، لكن الإحصائيات الرسمية، تقول بأن الإسلام يتقدم بوتيرة أكثر من المتصور وتلك هي المعضلة في فرنسا. بل ذلك هو الجزء المخفي من الصراع.
(المصدر: عربي21)