الآيات الغيبية في وباء كورونا وخطورة الغفلة عنها
بقلم محمد هشام راغب
لله تعالى في خلقه سنن كونيه وأخرى شرعية.
السنن الكونية نوعان: سنن جارية ماضية مستمرة، وسنن خارقة معجزة.
السنن الجارية هي الغالبة والسنن الخارقة هي الاستثناء.
السنن الخارقة تكون آيات ظاهرة دالة على عجيب قدرة الله وحكمته وتدبيره. وهذه قد تكون سافرة تماما يراها الناس (كنجاة إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، ونجاة موسى عليه السلام وهو رضيع في صندوق في النيل، فيلتقطه عدوه ويربيه في قصره)، وقد تكون أخفى من ذلك ولكن يراها من يراها بمزيد من التأمل والتفكر، وبين هذه وتلك درجات ودرجات.
وباء كورونا فيه سنن جارية يستطيع أهل الاختصاص أن يلتمسوها بالفحص والملاحظة والإحصاء والتجارب، فتجدهم قد توصلوا إلى أن هذا الفيروس من النوع الذي قد يصيب إنسانا دون أن تظهر عليه أعراض المرض لأيام تصل لأسبوعين، وتوصلوا مبكرا إلى أنه ينتقل من إنسان لآخر، وأنه يبقى حيا في الهواء وعلى الرذاذ وعلى الأسطح لفترات مختلفة، وهكذا. وهذه السنن يجب احترامها وتقديرها والإصغاء لأهل الاختصاص فيها، توعية وإرشادا.
وفي هذا الوباء أيضا من السنن الاستثنائية الغيبية ما نكاد نراه بأعيننا بصورة مذهلة، وأحصي هنا ثلاثا منها، ولا شك أن غيري أيضا رأوا آيات أخرى كثيرة من جوانب مختلفة، في هذا الحدث الجلل.
الآية الأولى من الآيات العجيبة ما نراه من ارتباك هائل في أنظمة الحكم في الدول القوية. لي اهتمام خاص بدراسات الاستغراب وأؤكد هنا أن ما نراه الآن كأنه من حكومات وقيادات غير التي نعرفها. في الغرب مثلا حكوماتهم وزعماؤهم على درجة كبيرة من التعقل وحسن التدبير والرصانة والفكر الجماعي. كل هذا كأنه اختفى في هذه الأزمة، وبدت دول قوية تترنح وما تقوله اليوم تنقضه غدا، والحكومات المركزية في واد والجهات المحلية في واد آخر. ثم لا تنسيق على الإطلاق بين حلفاء تقليديين في أزمة يقع التنسيق الدولي في صميم سبل مواجهتها.
الرئيس الأمريكي ترامب منذ شهر فقط وصف فيروس كورونا بأنه مجرد خدعة سياسية أخرى للقضاء عليه سياسيا، ومنذ أسبوع فقط قال “نحن مسيطرون تماما على هذا الفيروس” وفي اليوم التالي وصفه بأنه “عدو خفي فظيع، ستمتد مواجهته لعدة أشهر”.
الرئيس الفرنسي ماكرون منذ أسبوعين فقط تحدى الأزمة وقال “حياتنا يجب أن تمضي كما هي، وألا نغير من نمطها”، واصطحب زوجته إلى سهرة في مسرح مكتظ ليثبت كلامه. بعدها بأيام (في ١١ مارس) اصطحب زوجته في جولة في الشانزليزيه ليؤكد على أن “حياتنا ستمضي كما هي”. كيف يفعل هذا رئيس عاقل وهو يرى إيطاليا جارة وحليفا لبلاده تفرض إغلاقا وحجرا على كل سكان البلاد، وتغرق في بؤرة عميقة من الوباء المتفشي.
وعلى المستوى التنفيذي، رأينا بلدا بقوة الولايات المتحدة، تتأخر لعشرة أسابيع كاملة دون أن تتخذ تقريبا أي إجراءات، لدرجة أنها لما قررت أن تأخذ الوباء على محمل الجد، فوجئت بأن ليس لديها أدوات لفحص المرضى، ولما اندفعت على عجل لشراء وتصنيع ملايين منها، وبدأت في توزيعها على الولايات، تبين أن أدوات ومواد لازمة لأجهزة الفحص غير متوفرة. صورة بائسة مرتبكة لا تحدث حتى في الدول المتخلفة الفقيرة. وقس على ذلك ما وقع ويقع في إسبانيا والنرويج وسويسرا وألمانيا وهولندا وغيرها وفي كل منها قصص عجيبة من التخبط، وكأن بعض الدول يتم قهرها رغما عنها ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
الآية الثانية ظاهرة، وهي ما استيقظ عليه البشر من خطورة هذا الفيروس الضئيل البسيط، وبالتالي ما يمكن أن يكون عليه الحال إذا تعمدت دولة أو جهة لتصنيعه. الأسلحة البيولوجية أخطر وأشد فتكا من أعتى الأسلحة التقليدية وحتى النووية، وهي أسلحة لا تحتاج لأموال طائلة ولا لمعارف تقنية تقارن بالمعارف النووية. ما يعني أن هذه المنظومة الهائلة من التسلح سيجري إعادة النظر فيها حتما. هذا الفيروس الضئيل يغير موازين القوى، وربما النظام العالمي، بل وظهر تحقيقان هذا الأسبوع، كلاهما يتوقع أن تزيح أزمة كورونا الولايات المتحدة من مكانتها كقوة عظمى، والتقريران أمريكيان.
والآية الثالثة أن العالم كما نعرفه كانت له دائما قيادة تسيطر عليه، أو قيادتان تتنازعانه، وفي كل حالة كانت توجد موازين للقوى تفرض لونا من التوازن واستمرار الحياة. في هذا الوباء، لا نكاد نرى للعالم قيادة واضحة.
الولايات المتحدة لم تتبوأ القيادة العالمية وترث الإمبراطورية البريطانية بعد أفولها، بالثروة والسلاح فقط، ولكن وعلى نفس القدر من الأهمية، على ثلاثة عناصر مهمة:
- الشرعية التي تتدفق من قوة النظام السياسي للحكم
- وتوفير وتقديم المنافع العامة العالمية (أكبر مساهم في المنظمات الدولية)
- والقدرة والاستعداد لحشد وتنسيق الاستجابة العالمية للأزمات (انظر مثلا لقوة وكفاءة وسرعة الحشد بعد الغزو العراقي للكويت، أو حرب البلقان، أو الأزمة المالية عام ٢٠٠٨)
فشلت واشنطن في اختبار أزمة وباء كورونا في العناصر الثلاثة جميعا.
ولأن الفراغ – دائما – يُملأ، فقد تحركت الصين سريعا بعد أن استعادت توازنها بإجراءات صارمة إلى حد القمع، وسارعت بالتواجد على المشهد الدولي، وعندما لم تستجب أي دولة أوروبية لنداء إيطاليا العاجل بخصوص المعدات الطبية ومعدات الحماية، التزمت الصين علنًا بإرسال ألف جهاز تنفس صناعي، ومليوني قناع، و ١٠٠ ألف جهاز تنفس، و ٢٠ ألف بدلة واقية، و 50 ألف مجموعة لفحص كورونا. كما أرسلت الصين فرقًا طبية كاملة و 250 ألف قناع لإيران وأرسلت إمدادات إلى صربيا، التي وصف رئيسها التضامن الأوروبي بأنه مجرد “حكاية خرافية” وأعلن أن “الدولة الوحيدة التي يمكنها مساعدتنا هي الصين”. وتعهد جاك ما مؤسس شركة علي بابا بإرسال كميات كبيرة من مجموعات فحص الفيروس والأقنعة إلى الولايات المتحدة، بالإضافة إلى ٢٠ ألف مجموعة فحص و ١٠٠ ألف قناع لكل بلد من البلدان الأفريقية البالغ عددها 54 دولة!
هذا كله يدخل في العنصر الثالث للقيادة العالمية، وأما قوة النظام الحاكم الداخلي والقدرة على القيادة والحشد الدولي فالصين ما زالت بعيدة عنه.
والشاهد هنا، أن عالما بلا قيادة يُدخل البشرية في طور جديد من الصعب تحديد آلياته وابعاده، والآية الغيبية هنا أوضح من شمس نهار الصيف، فيروس ضئيل ضعيف بسيط يغير أو يعيد تشكيل النظام العالمي للبشر.
وبعد ..
فإن الله تبارك وتعالى مدبر الأمر، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم. ومن حكمته تبارك وتعالى أن يرسل الآيات للناس لعلهم يتفكرون. وقد حذر سبحانه من الغفلة عن الاعتبار بهذه الآيات، وجعل الغفلة المقصودة سببا للحرمان من الهداية وسلوك سبيل الرشاد، فقال تعالى:
{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الاعراف: 146].
وأخبرنا عن بني إسرائيل: {فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين}.
اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا.
(المصدر: طريق الإسلام)