مقالاتمقالات مختارة

اعتكاف رمضان في البيوت بسبب “فيروس كورونا”

اعتكاف رمضان في البيوت بسبب “فيروس كورونا”

بقلم مسعود صبري

في ظل ما يعيشه العالم اليوم من حجر صحي بسبب فيروس كورونا، ومنع غالب سلطات العالم الصلوات في المساجد، فسيشهد هذا العام خلو المساجد في رمضان من صلاة الجماعة وكذلك من صلاة التراويح، بالإضافة إلى منع الاعتكاف في المساجد.

ومع صلاة الناس في البيوت، ووجود ما يعرف بـ( مسجد البيت)، وهو تخصيص مكان للصلاة في البيوت؛ لأجل صلاة الجماعة، يتبادر إلى أذهان بعض المسلمين الحريصين على إقامة السنن واتباع الهدي التفكير في الاعتكاف في البيوت، ويتساءلون عن مدى شرعية، خاصة مع كونه ينافي قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].

تعريف الاعتكاف:

الاعتكاف هو المكث والاحتباس، وهو يعني في اللغة أن يحبس الإنسان نفسه عما كان معتادا أن يفعله.

وهو عند الفقهاء أن يمكث المسلم في المسجد بنية العبادة. قال البجيرمي في حاشيته علىشرح المنهج 2/ 91 : الاعتكاف: اللبث بمسجد من شخص بنية. والأصل فيه قبل الإجماع آيَةُ (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)، وقوله تعالى (وَعَهِدْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ).

وعرفه ابن قدامة في المغني، ج3/186 أن الاعتكاف في اللغة: لزوم الشيء وحبس النفس عليه برا كان أو غيره، وَمِنْهُ قوله تعالى : (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ). وَقَالَ: (يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ)… وهو في الشرع: الإقامة في المسجد على صفة نذكرها، وهو قربة وطاعة، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ) . وَقَالَ : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).

ويعلل ابن قدامة تسمية الاعتكاف بهذا الاسم بما أخرجه ابن ماجة في سننه، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المعتكف:” هو يعكف الذنوب، ويجري له من الحسنات كعامل الحسنات كلها”. وهو حديث ضعيف.

ونقل الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير 1 / 725 معنى جميلا للاعتكاف، فقال: ” ويقال: عكف يعكف عكفا وعكوفا: أقبل على الشيء مواظبا، واعتكف وانعكف بمعنى واحد، وقيل: اعتكف على الخير وانعكف على الشر“.

الحكمة من الاعتكاف:

وبين الصاوي سبب ذكر العلماء للاعتكاف عقب الصوم بقوله: ” لما أنهى الكلام على ما أراده من فروع الصوم، وكان من حكمة مشروعيته تصفية مرآة العقل والتشبه بالملائكة الكرام في وقته، أتبعه بالكلام على الاعتكاف التام الشبه بهم في استغراق الأوقات في العبادات، وحبس النفس عن الشهوات، وكف اللسان عما لا ينبغي“.

فـ”الاعتكاف فيه تسليم المعتكف نفسه بالكلية إلى عبادة الله تعالى طلب الزلفى ، وإبعاد النفس من شغل الدنيا التي هي مانعة عما يطلبه العبد من القربى ، وفيه استغراق المعتكف أوقاته في الصلاة إما حقيقة أو حكما ، لأن المقصد الأصلي من شرعية الاعتكاف انتظار الصلاة في الجماعات ، وتشبيه المعتكف نفسه بالملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ويسبحون الليل والنهار لا يفترون”.

حكم الاعتكاف:

والاعتكاف في رمضان أو غيره سنة من السنن التي يثاب المسلم على فعلها، إلا أن يوجبه الإنسان على نفسه بنذر ونحوه. جاء في المغني لابن قدامة (3/ 186): ” قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف سنة لا يجب على الناس فرضا، إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرا، فيجب عليه. ومما يدل على أنه سنة، فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – ومداومته عليه، تقربا إلى الله تعالى، وطلبا لثوابه، واعتكاف أزواجه معه وبعده، ويدل على أنه غير واجب أن أصحابه لم يعتكفوا، ولا أمرهم النبي – صلى الله عليه وسلم – به إلا من أراده.

وقال – عليه السلام -: «من أراد أن يعتكف، فليعتكف العشر الأواخر» . ولو كان واجبا لما علقه بالإرادة. وأما إذا نذره، فيلزمه؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» . رواه البخاري. وعن عمر، أنه قال: «يا رسول الله، إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: أوف بنذرك» . رواه البخاري، ومسلم. ا.هـ

شروط وأركان الاعتكاف:

أركان الاعتكاف عند الجمهور أربعة : وهي المعتكف ، والنية ، والمعتكف فيه ، واللبث في المسجد .  وذهب الحنفية إلى أن ركن الاعتكاف هو اللبث في المسجد فقط ، والباقي شروط وأطراف لا أركان ، وزاد المالكية ركنا آخر وهو : الصوم .

و اتفق الفقهاء على أنه يصح الاعتكاف من الرجل والمرأة والصبي المميز ، واشترطوا لصحة الاعتكاف الواجب والمندوب الإسلام والعقل والتمييز والنقاء من الحيض والنفاس، والطهارة من الجنب.

اعتكاف المرأة:

مع اتفاق الفقهاء صحة اعتكاف المرأة إلا أنهم اختلفوا في مكان اعتكافها، فذهب الجمهور إلى أنه يشترط المسجد في اعتكافها، لما ورد عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه سئل عن امرأة جعلت عليها ( أي نذرت ) أن تعتكف في مسجد بيتها ، فقال : ” بدعة ، وأبغض الأعمال إلى الله البدع  . فلا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة . ولأن مسجد البيت ليس بمسجد حقيقة ولا حكما ، فيجوز تبديله ، ونوم الجنب فيه ، وكذلك لو جاز لفعلته أمهات المؤمنين – رضي الله عنهن – ولو مرة تبيينا للجواز .

ومذهب الحنفية- والشافعي في القديم- أنه يجوز اعتكاف المرأة في مسجد بيتها، لأنه الموضع الذي تصلي فيه، وكرهوا اعتكافها في مسجد الجماعة، ورأوا أن البيت أفضل من مسجد حيها، ومسجد الحي أفضل لها من المسجد الأعظم . وليس للمرأة أن تعتكف في غير موضع صلاتها من بيتها .

مكان اعتكاف الرجل:

وجمهور الفقهاء على أنه لا يصح اعتكاف الرجل إلا في المسجد، والمسجد الجامع أولى، واستدلوا بقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].

جاء في المجموع شرح المهذب للنووي: (6/ 478): {ولا يصح الاعتكاف من الرجل إلا في المسجد لِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) فدل علي انه لا يجوز إلا في المسجد” .

وقال ابن قدامة في المغني (3/ 189): ولا يصح الاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكف رجلا. لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافا، والأصل في ذلك قول الله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187] . فخصها بذلك، ولو صح الاعتكاف في غيرها، لم يختص تحريم المباشرة فيها؛ فإن المباشرة محرمة في الاعتكاف مطلقا.ا.هـ

على أن المسألة ليست محل إجماع كما يدعي كثير من الفقهاء القدامى والمعاصرين،  وقد نقل غير واحد من الفقهاء خلاف العلماء فيها، وإن كان جمهور الفقهاء على اشتراط المسجد. فقد نقل القول بالجواز في فتح الباري لابن حجر (4/ 272)، ونيل الأوطار، للشوكاني (4/ 317)، وفي البدر التمام شرح بلوغ المرام، للحسين بن محمد اللاعي المعروف بالمغربي (5/ 148)، تعقيبا على قول عائشة: (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع):

 فيه دليل على أن المسجد شرط للاعتكاف.

واتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف إلا محمد بن عمر بن لبابة المالكي، فأجازه في كل مكان، وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها وهو المكان المعد للصلاة.

وفيه قول للشافعي قديم.

وفي وجه لأصحابه وللمالكية: يجوز للرجال والنساء لأن التطوع في البيوت أفضل. وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات. وخصه أبو يوسف بالواجب منه، وأما النفل ففي كل مسجد. وقال الجمهور بعمومه في كل مسجد.

الراجح:

لا  شك أن اشتراط المسجد ظاهر بنص القرآن الكريم، وبفعل الرسول صلى الله عليه وسلم و الصحابة، إلا أن هذا يخرج مخرج الأصل والقاعدة، وهو يجري في الأحوال العادية؛ عمارة للمسجد، ولأن في المسجد يتحقق مقصود الاعتكاف من حبس النفس عن الشهوات والشبهات والانقطاع للعبادة، واعتكاف الرجل في بيته يمنعه من تحصل مقصود عبادة الاعتكاف.

شروط القول بالجواز:

إلا أن بقاء الناس في بيوتهم، والتزام الحجر الصحي الذي يعيشه الناس، يرجح رأي بعض المالكية بجواز الاعتكاف في مسجد البيت، وذلك بشروط:

1- أن يكون ذلك في مسجد البيت، وليس كل البيت، بمعنى أنه لابد من وجود مسجد أو مكان خاص بالصلاة، لا يستعمل إلا للصلاة.

2-  أن يلتزم المعتكف مسجد بيته، لا يخرجه إلا لضرورة، كقضاء الحاجة ونحوها، فيمكث فيه طوال فترة الاعتكاف، أما أن يبقى فيه بضع ساعات ثم يعيش حياته الاعتيادية، فليس باعتكاف.

3-  أن ينشغل المسلم بعبادات الاعتكاف في مسجد بيته، من الصلاة والذكر وقراءة القرآن، وبذلك يتحقق مقصود الاعتكاف.

4-  أن هذا الاختيار مبني على مراعاة الظروف التي يعيشها الناس، فإن زال العذر؛ عاد الحكم إلى أصله، وهو اشتراط المسجد للاعتكاف، ويبقى الاعتكاف في مسجد البيت للمرأة، على ما ذهب إليه الحنفية والشافعي في القديم.

5-  إن القول بجواز الاعتكاف في بيوت المسلمين له حظ كبير من النظر في ظل هذه الظروف؛ لأن فيه إعمالا وحفظا للشعيرة، والإعمال مع سقوط بعض الشروط أولى من الإسقاط بالكلية.

على أن هذا الحكم يبقى بالاختيار، بناء على أن الاعتكاف – في أصله- سنة، فليس بواجب، فللناس أن تمكث وقتا في مسجد بيتها تتعبد لله تعالى، ولا يسمى هذا اعتكافا، لكنهم يتحصلون على أجر العبادة التي يقومون بها.

والأمر في أصله فيه سعة، فليس كل المسلمين في العالم الإسلامي يعتكفون في المساجد في الأحوال الاعتيادية، وإنما المقصود هو القول بجواز الاعتكاف في مسجد البيت بالشروط المذكورة، لمن شاء، ومن التزم برأي الجمهور في اشتراط المسجد، فله ذلك، وقد قرر الفقهاء في قواعدهم:” لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المتفق عليه”.

ولو نظرنا إلى مآل القول بجواز الاعتكاف في مسجد البيت بالشروط، رأينا أنها أفضل وأعظم من القول بإسقاط الاعتكاف بالكلية، خاصة أن ما حصل للناس من ترك المساجد هو من باب الجبر وليس من باب الاختيار، والاجتهاد في الوقائع المستجدة يجب أن يراعي التفريق بين ما كان جبرا؛ فيخفف فيه، وبين ما كان اختيارا، فيرجع فيه إلا الأصل والعزيمة، يضاف إلى هذا ما فيه من الحث على العبادة والتقرب إلى الله تعالى، في الوقت الذي سينشغل فيه الناس في بيوتهم بالمسلسلات الرمضانية وضياع أوقاتهم في معصية الله، فكان القول بالجواز؛ أولى مراعاة للمآل، وإعمالا لمقصد الاعتكاف، على أنه يبقى حكم خاص في زمن خاص، فهو من باب الرخصة وليس العزيمة.

(المصدر: إسلام أونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى