بقلم هاشم الرفاعي – الاسلام اليوم
الظواهر المتعلقة ما بين الإسلام والمجتمع هي ظواهر كثيرة ومتقلبة حسب الزمان والمكان وأيضا لها جانب من التعقيد في كثير من الأحيان، ومنها ما يدعو للغرابة ومنها ما يفهم في سياقه ويستوعب. لهذا نجد الكثير من النقاشات حول العديد من القضايا التي تناقش الإسلام كدين فاعل في العديد المجتمعات (عربية، وغربية، وشرقية، الخ). هذا التفاعل يأخذ أشكالا عدة منها، ما هو تفاعل إيجابي ومنها ما هو العكس. في هذا المقال، سوف نناقش ظاهرة إسلام النخب، وهو كيف أن أمور وقضايا الإسلام الفقهية والفكرية وحتى الروحية هناك من يريد أن يكون فهمها والتعاطي معها مقتصرا على شريحة محددة من البشر، شريحة تدعي وتحتكر تفسير وتفهم الإسلام، سواء كانت تحت مؤسسات حكومية رسمية أو بواسطة الاحتشاد الجماهيري حول الشيخ من بوصفه عالم أو داعية.
في مطلع الرسالة المحمدية و عصور الخلفاء الراشدين، كان الإسلام في بداياته الأولى كدين جديد، وكل فرد هو فاعل وعنصر أساسي في هذه المنظومة، وعند وجود إشكال فقهي أو تساؤل في النقاش ما بين الصحابة يكون الرسول ﷺ هو الحَكَم الفاصل، ثم بعد وفاته كان النقاش والتداول الفقهي ما بين الصحابة والتابعين ومن جاء من بعدهم يستند على الأحكام المستنبطة من القرآن ومن السيرة النبوية، ويكون الرأي اجتهاداً على قدر أفهامهم، وهكذا كان الرأي الفقهي يتشكل في أي قضية مستجدة. ولم يكن الرأي الفقهي حكرا على عدد معين من الصحابة ينتقيهم الخليفة مع وجود عدد من الصحابة كتاب الوحي، أو من أشار لهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم بسعة الفهم وبعد النظر لمقاصد القرآن كالخليفة عمر إبن الخطاب.
إن القرآن يخاطب جموع البشر ولم يوجه الخطاب إلى صنف محدد من الناس باستثناء الرسول الكريم ﷺ. حيث نجد الكثير من الآيات تبدأ ب( يا أيها الناس) وتخاطبهم بهذا العموم مع تخصيص وحث على التفكر والتأمل في نصوص آيات الله وفي الكون وفي غيرها من السياقات التي يأمر المسلم بأن يعمل عقله بها. مع الزمن تطورت المعارف والعلوم المعنية بالقرآن والسيرة النبوية، فجمعت آيات القرآن في زمن عثمان في كتاب واحد، وبعد زمن ظهرت مبادرات لجمع أحاديث الرسول الكريم، ثم ظهر بعدها مبادرات أكثر تخصصا في الجرح والتعديل في صحة الحديث وغيره وهي أعمال في غاية الدقة والإتقان حتى صارت علماً قائماً بذاته في علم الحديث.
أيضا تطورت المنظومة الفقهية كأدوات وعلم منذ تدوين كتاب الورقات للإمام الشافعي إلى مبادرة المقاصد الشرعية لابن عاشور، ومابين الشافعي وابن عاشور أكثر من ألف عام من العلم والمبادرات التي تحتفي بها المكتبة الشرعية سواء في الفقه أو غيره. أي أن هناك أكثر عشرة قرون ينتج المسلمون والمهتمون بالنصوص الشرعية ومحاولة فهمها مجلدات وأعمال كثيرة. وإلى زماننا هذا لا زال المسلمون في تفاعل مع الواقع ومحاولة فهم الإسلام وتطبيق مقاصده وأحكامه ومعالجة الإشكاليات التي تظهر بحكم تدافع البشر والتطور والابتكار التي هي سنة بشرية.
في الأزمة الأخيرة كما أشرنا في المقدمة أن ثمة شريحة تسعى باستمرار أن تقول : إنها الشريحة الأقدر على فهم الإسلام من غيرها، وأنها دون غيرها تعلم مقاصد الإسلام وغاياته، ومن يخالفهم فقد خالف الله تعالى ورسوله ﷺ . وتحاول أن تجعل من الإسلام دين غامضاً لا يفهمه الناس ولا يستطيعون إلا بعد بالرجوع لهم؛ لأن الناس في نظرهم عوام، وهذا يختلف قطعيا مع فكرة الإسلام، حيث إن القرآن الكريم ككتاب سماوي متاح للجميع وعلى علو كعب الإنسان من العلم والمعرفة يكون حظه من الفهم والدراية به. أما أن يكون الإسلام كدين تحتكر فئة ما فهمه وتفسيره والبت في قضايا الأمة فهذه كهنوتية تخالف طبيعة وفكرة الدين الإسلامي. لا ضير أن يكون ثمة تفاوت معرفي من قبل من كرس وقته لدراسة العلوم الشرعية كالفقه والحديث وغيرها داخل كليات متخصصة؛ لكن هذا التفاوت لا يعني أن المسلم الذي لم يكن في يوم ما منتظماً في هذه الكليات أو الحلقات التقليدية يكون لزاماً غير مؤهل أو ليس لديه القابلية لفهم الإسلام، وفي الوقت نفسه نجد أن ثمة متخصصين في هذه العلوم والمعارف وهم غير مسلمين ويتعاملون مع الفقه والتفسير والحديث وغيرها كمتخصصين مثل ليزلي هازلتون المتخصصة في القرآن الكريم وكتابته وغيرها من المتخصصين الغربيين الذين يتعاملون مع موضوعات الدين كمتخصصين.
الإسلام دين ورسالة عالمية وسر جاذبيته أن التبصر والتفكر في آيات القرآن الكريم يمكن أن يكون ذاتياً، بل هو ذاتياً وإلا لماذا خلق الله لنا العقل ؟ وإلا لماذا آيات القرآن يأمرنا بالتفكر والتدبر؟
من أغرب ما يحدث حاليا أنك تجد الكثير يعتقد أن الدين شأن نخبوي، وأنه لا علاقة له به إلا كعبادة كالصلاة والصوم، أما غيرها فهو يحيل عقله إلى غيره وهذا أحد أوجه الأزمة أي أن يتحول الإسلام من كتاب يدعو المسلمين إلى تدبر آياته إلى كتاب يحيله البعض واستسلام كامل إلى غيره من الناس. سبب كبير من أسباب نفور المسلمين ذاتهم من الإسلام هو الفوقية التي يتحدث بها بعض من يصدر نفسه المشهد الفقهي والدعوي، وإظهار المعرفة في كل شيء وكأن رأيه الحقيقة المطلقة والقول السديد.