استقلال القضاء من أقوى مظاهر الفصل بين السلطات
بقلم د. تيسير التميمي
يعتبر استقلال القضاء من أبرز المبادئ التي أرساها نظام القضاء الإسلامي، فحقيقة القضاء ومكانته في ديننا الحنيف تؤكد أنه منصب فوق كل المناصب في الدولة ووظيفة أرفع من كل الوظائف فيها؛ لا بل هي أخطرها، ذلك أن مرجعيته شريعة الله عز وجل، قال تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم بوصفه قاضياً {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىشَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} الجاثية 18، والقضاء بدوره هو مرجعية الأحكام وملاذ المظلومين، فلا بد أن يكون القاضي حراً ليتمكن من إعادة الحقوق إلى أصحابها وإيقاف الباغين عن بغيهم،
وحقيقة استقلال القضاء أن القرارات التي يصدرها القضاة حيادية وغير خاضعة لنفوذ أية سلطة أخرى تنفيذية أو تشريعية أو غيرها، وغير خاضعة كذلك لأصحاب نفوذ المصالح الخاصة أو السياسية، فالقاضي إذن لا يتلقى الأوامر من أحد من الهيئات الحاكمة ولا من غبرها، فلا توجد أية سلطة في الدولة تملك التدخل في أحكامه أو نقضَها أو إلغاءَها -ما دامت قطعية- وعلى ذلك فالحاكم لا يملك على القاضي إلا المشاورة، هذا إذا كان مرجعية في الفقه والقضاء، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه إلى أبي موسى الأشعري [ولا أرى في مؤامرتك إياي إلا أسلم لك] ومعنى مؤامرتك إياي أي مشاورتك لي ، فإن لم يكن الحاكم من أهل الفقه والقضاء فلا يجوز للقاضي مراجعته أو مشاورته فيما يقضي به لأنه ينبغي ألاّ يستشير غير ذوي الاختصاص فهنا يكون المستشار مؤتمن، ولأنه لا سلطان على القاضي إلا للشرع والقانون.
وينبني استقلال القضاء على مبدأ جليل آخر مرتبط به ارتباطاً وثيقاً هو مبدأ الفصل بين السلطات؛ لدرجة يمكن معها اعتبار استقلال القضاء أبرز مظاهر هذا المبدأ ونتيجة طبيعية ومنطقية له، وحقيقة مبدأ الفصل بين السلطات بأنه توزيع وظائف الحكم الرئيسية على هيئات منفصلة ومتساوية ووضع حدود لاختصاص وصلاحيات كل منها ، ويقوم على أساس عدم جواز الجمع بين السلطات (الثلاث أو اثنتين منها) أو عدم تركيزها في يد شخص واحد أو هيئة واحدة ، ولكن هذا المبدأ لا يعني أبداً وضع سياج مادي يفصل فصلاً تاماً بين هذه السلطات، بل هناك مجال للتعاون فيما بينها بحيث يكون لكل منها رقابة على الأخرى في نطاق اختصاصها،
وتأتي أهمية هذا المبدأ بأنه يُسهم في تنظيمِ الحياة السياسية للدولة واستقرارها، وهو الوسيلةُ الضامنة لتحقيق التوازنِ بين السلطات الرئيسيّة وهي السلطة التشريعيّة والسلطة التنفيذيّة والسلطة القضائيّة، مما يساعد في منعِ تداخل عمل هذه السلطات مع بعضها أثناء قيامها بوظائفها المنوطة بها، ويضمنُ استقلالية كُلٍ منها عن الأخرى، ويكفل عدم تغوّل أو طغيان أو هيمنة إحداها على الأخرى، ويحمي حقوق وحريات الأفراد أن تهدر من خلال نظام الرقابة والمحاسبة الدستورية، وهو أيضاً عامل محفز لخضوع الدولة للقانون وللدستور، ومانع للحكام من التعسف والاستبداد؛ فمن المعلوم أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة.
هذا من الناحية النظرية والنظم والقواعد المكتوبة والمعترف بها دستورياً، أما من الناحية الواقعية فقد تلجأ بعض الأنظمة إلى المزج بين السلطات وحصرها في يد مجموعة من المتنفذين بقوة الأمر الواقع ، وهذا خطأ فادح وخطر حادق بالدولة يؤسس لقيام ديكتاتورية مُقنَّعة تقضي على منجزاتها وتهز ثقة أبنائها،
إن ما دعاني إلى الحديث حول هذه المسألة هو عدم تنفيذ الجهات المختصة لغاية اليوم قرار محكمة العدل العليا التاريخي الصادر في 8/6/2020م بإلغاء جميع قرارات الحكومة الفلسطينية الإدارية باستملاك أرض سبتة في خلة المغاربة (من أرض وقف سيدنا تميم الداري في الخليل) لصالح الخزينة العامة ثم تخصيصها لمنفعة البعثة الروحية الروسية، وبإلغاء قرار تسجيلها في دائرة الأراضي وهبتها للكنيسة الروسية واعتبار هذه القرارات منعدمة كأن لم تكن،
لقد مثَّل هذا القرار الذي صدر قبل أكثر من أربعة أشهر سابقة قضائية معتمدة في عدم جواز المساس بوقف الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل سيدنا تميم بن أوس الداري وذريته من بعده والذي احترمته كافة الحكومات المتعاقبة من لدن الخلافة الراشدة، وفي منع تدخل أية جهة في شؤونه كائنة من كانت سواء في ذلك الجهات الإدارية والتنفيذية والتشريعية والقضائية وغيرها كونه جزءاً من عقيدة الأمة، وجاء القرار كذلك تتويجاً لمعركة قضائية وإعلامية وجماهيرية استمرت أكثر من أحد عشر عاماً خاضت غمارها جموع غفيرة من علماء ووجهاء وشباب مدينة خليل الرحمن بكل بسالة وإصرار وثبات على الحق نصرة لدينهم وعقيدتهم وأرضهم المباركة، مستلهمين في ذلك مواقف قادة الأمة وشرفاءها وأخيارها وأحرارها من لدن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم؛ والذين ضحوا بأرواحهم وجبلوا ترابها بدمائهم الزكية دفاعاً عنها وعن هويتها العربية والإسلامية،
لقد كان المأمول من السلطة التنفيذية والمنتظر منها المبادرة إلى الالتزام بهذا القرار القضائي القطعي والمسارعة في تنفيذه ، لكن كانت المفاجأة ، فقد قامت بدل ذلك بالطعن لدى محكمة العدل العليا ضد الهيئة الحاكمة التي أصدرت القرار مدعية ارتكاب الهيئة خطأ مهنياً جسيماً فيه دون بيان ذلك الخطأ تمهيداً لإلغائه ، مما يعتبر سابقة خطيرة تمس باستقلال القضاء واستقرار أحكامه.
وهكذا تعود المعركة المجيدة من جديد إلى الميدان ، فقد أعرب نُظّار وقف سيدنا تميم الداري رضي الله عنه ووجهاء آل التميمي ومدينة الخليل في كتابهم الموجه إلى كل من رئيس مجلس الوزراء ورئيس سلطة الأراضي عن استيائهم الشديد لعدم تنفيذ قرار محكمة العدل العليا في دائرة تسجيل الأراضي في مدينة الخليل بإلغاء سند تسجيل أرض خلة المغاربة (جبل سبتة) باسم الكنيسة الروسية وهبتها لها واستملاكها لصالحها ، وأبدوا لهما بهذا الخصوص ما يلي:
1- إن قرار محكمة العدل العليا المشار إليه قطعي لا يقبل الطعن فيه بأية طريق من طرق الطعن المنصوص عليها في القانون النافذ لدى أية جهة قضائية سواء في ذلك محكمة العدل العليا ذاتها وغيرها من الجهات القضائية الأخرى في فلسطين ؛ ذلك أنها أعلى محكمة إدارية في فلسطين، ولذا فقرارها واجب التنفيذ في الحال من قبل الجهة المختصة بذلك وهي سلطة الأراضي من خلال دائرة تسجيل أراضي الخليل، نصت المادة رقم 106 من القانون الأساسي على [الأحكام القضائية واجبة التنفيذ والامتناع عن تنفيذها أو تعطيل تنفيذها على أي نحو جريمة يعاقب عليها بالحبس، والعزل من الوظيفة إذا كان المتهم موظفاً عاماً أو مكلفاً بخدمة عامة، وللمحكوم له الحق في رفع الدعوى مباشرة إلى المحكمة المختصة، وتضمن السلطة الوطنية تعويضاً كاملاً له].
2- إن عدم تنفيذ هذا القرار وتسجيله في دائرة تسجيل أراضي الخليل يعتبر توغلاً من السلطة التنفيذية على السلطة القضائية بما يخالف المبدأ الدستوري القائم على الفصل بين السلطات الثلاث الذي نصت عليه المادة الثانية من القانون الأساسي الفلسطيني النافذ [الشعب مصدر السلطات ويمارسها عن طريق السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية على أساس مبدأ الفصل بين السلطات على الوجه المبين في هذا القانون الأساسي] ، وبما يمس مساساً صارخاً بمبدأ استقلال القضاء المنصوص عليه في المادة رقم 97 من القانون الأساسي [السلطة القضائية مستقلة، وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، ويحدد القانون طريقة تشكيلها واختصاصاتها وتصدر أحكامها وفقاً للقانون، وتعلن الأحكام وتنفذ باسم الشعب العربي الفلسطيني] وفي المادة 98 من القانون الأساسي أيضاً [القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة] ، وهو في ذات الوقت اعتداء على أرض الوقف الإسلامي الذي أوقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سيدنا تميم بن أوس الداري وذريته من بعده.
3- لذا فالمطلوب من الجهات المختصة تنفيذ القرار حالاً بإصدار التعليمات إلى دائرة تسجيل أراضي الخليل لتنفيذ قرار محكمة العدل العليا المشار إليه وإعادة تسجيل قطعة الأرض رقم 197 من الحوض رقم 34405 موضوع القرار بأسماء أصحابها آل تميم الداري وغيرهم من المسلمين من أهالي مدينة الخليل عملاً بالإنطاء النبوي الشريف ونصه {… هذا ما أنطى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتميم الداري وإخوته، حبرون والمرطوم وبيت عينون وبيت إبراهيم وما فيهن نطية بتٍّ بينهم ، ونَفَّذْتُ وسَلَّمْتُ ذلك لهم ولأعقابهم ، فمن آذاهم آذاه الله ، فمن آذاهم لعنه الله …} .
وأكدوا في نهاية الكتابين بأن لجوء السلطة التنفيذية إلى محكمة العدل العليا للطعن في قرار الهيئة الحاكمة التي أصدرت القرار المشار إليه إنما هو إصرار منها على مخالفة القانون ومحاولة يائسة لتمليك هذه الأرض للكنيسة الروسية، وأكدوا أيضاً أن هذه المحاولات ستبوء بالفشل لأنهم سيدافعون عن أرضهم التي هي رمز لعقيدة الأمة وعزتها وكرامتها وشرفها.
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)