استشهاد الحسين بن علي (رضي الله عنه) ومعركة كربلاء: مواقف الصحابة والتابعين من خروج الحسين
(المقالة الثانية)
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
محرم 1444هـ / أغسطس 2022م
تعددت مواقف الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم في خروج الحسين بن علي (رضي الله عنه) على حكم يزيد بن معاوية بن أبي سفيان وطلبه الخلافة في العراق، وجميعها كانت مواقف محذِّرة ورافضة لذلك الخروج. وهي مواقف تُعبّر عن حرص واضح على وحدة الكلمة وجمع الأمة تحت قيادة سياسية وروحية واحدة، ومن أهم الشخصيات التي عَبَّرت عن موقفها: محمد بن الحنفية، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن جعفر، وأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن الزبير وغيرهم.
- محمد بن الحنفية:
لما بلغ محمد بن الحنفية عزم أخيه الحسين على الخروج إلى الكوفة، قدم عليه وقال: يا أخي أنت أحبُّ الناس إليَّ، وأعزهم عليَّ، ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق أحقُّ بها منك، تنحَّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك، فإن بايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم يُنقصِ اللهُ بذلك دينك ولا عقلك، ويُذهب به مروءتك ولا فضلك؛ إني أخاف أن تدخل مصراً من هذه الأمصار وتأتي جماعة من الناس فيختلفون بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخرى عليك فيقتتلون فتكون لأول الأسنة، فإذا خير هذه الأمة كلها نفساً، وأباً، وأماً، أضيعها دماً، وأذلها أهلاً.
فقال الحسين: فإني ذاهب يا أخي، قال: فانزل مكة فإذا اطمأنت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نبَتْ بك لحقت بالرمال وشعف الجبال، وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنتظر إلى ما يصير أمر الناس، وتعرف عند ذلك الرأي، فإنك أصوب ما تكون رأياً وأحزمه عملاً حين تستقبل الأمور استقبالاً، ولا تكون الأمور عليك أبداً أشكل منها حين تستدبرها استدباراً.
قال: يا أخي قد نصحت فأشفقت وأرجو أن يكون رأيك سديداً. وجاء في رواية: … فإن الحسين حين عزم على الخروج بعث إلى بني عبد المطلب في المدينة يدعوهم للخروج معه، فقدم عليه من خف منهم، وتبعهم محمد بن الحنفية فأدرك الحسين بمكة، فأعلمه أن الخروج ليس له برأي يومَه هذا، فأبى الحسين أن يُقبل في نفسه على أخيه محمد، وقال: ترغب بولدك عن موضع أُصابُ فيه؟ فقال محمد: وما حاجتي أن تصاب، ويصابون معك، وإن كانت مصيبتك أعظم عندنا منهم.
- عبد الله بن عباس – رضي الله عنه -:
ولما بلغ خبر عزمه على الخروج إلى ابن عمه عبد الله بن عباس أتاه وقال: يا ابن عم، إنه قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبيِّن لي ما أنت صانع؟ قال: قد أجمعت المسير في أحد يومَي هذين إن شاء الله – تعالى، فقال له ابن عباس: أخبرني إن كان عدوك بعد ما قتلوا أميرهم، ونفوا عدوهم، وضبطوا بلادهم، فسر إليهم، وإن كان أميرهم حياً وهو مقيم عليهم، قاهر لهم، وعماله تجبي بلادهم، فإنهم إنما دعوك للفتنة والقتال، ولا آمنُ عليك أن يستفزوا عليك الناس، ويقلبوا قلوبهم عليك، فيكون الذي دعوك أشد الناس عليك.
فقال الحسين إني أستخير الله وأنظر ما يكون. ولكن ابن عباس أدرك من كلام الحسين واستعداده أنه عازم على الخروج ولكنه يحاول إخفاء الأمر عنه؛ لعلمه بعدم رضاه عن ذلك، لذا جاء ابن عباس إلى الحسين من الغد فقال: يا ابن عم إني أتصبر ولا أصبر، وإني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاكَ، إن أهل العراق قوم غدرٌ فلا تغترن بهم، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم ثم أقدم عليهم، وإلا فسر إلى اليمن؛ فإن به حصوناً وشعاباً، ولأبيك به شيعةً، وكن عن الناس بمعزل، واكتب إليهم وبث دعاتك فيهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب. فقال الحسين: يا ابن عم، والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير. فقال له: فإن كنت ولا بد سائراً فلا تسر بأولادك ونسائك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه… إلى أن قال: فوالله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع عليَّ وعليك الناس أطعتني وأقمت لفعلت ذلك.
وهكذا نجد أن محاولات ابن عباس لم تُجدِ في إقناع الحسين على الرغم من أنه أظهر له -لما علم تصميمه على عدم رضاه بيزيد وضرورة العمل على تغييره- أنه لا يقف عند فكرة الحسين تماماً، ولكنه يوضح له عوامل فشل ما هو سائر لتحقيقه، ويطرح له البدائل التي ربما تكون أقرب لتحقيق ما يصبو إليه، وذلك بالانتظار حتى يقوم أهل العراق بالسيطرة التامة على إقليمهم ويحرروه من سلطان بني أمية، وهو يدرك أنهم عاجزون عن ذلك، فبالتالي هم عاجزون عن حماية الحسين، أو أن يذهب إلى اليمن، ويعمل بما أرشده إليه؛ فإن عوامل النجاح فيه أكثر، وعوامل الفشل فيه أقل من رحيله إلى العراق، ولعل ابن عباس قد لا يريد للحسين لا هذا ولا ذاك، ولكن أراد تأخير الحسين عن اتخاذ تلك الخطوة السريعة بخروجه إلى العراق، التي لا ينفع معها تدارك الأمر، أما لو اقتنع برأي ابن عباس من الانتظار حتى يتهيأ له الأمر في العراق، أو يعدل عنه إلى اليمن، وهذا سيأخذ وقتًا طويلاً لترتيب الأمور هناك، وبهذا أو ذاك فإنه يمكن أن يكون لعامل الوقت أثر في حل الوضع وإطفاء الفتنة. ويفهم من كلام ابن عباس بأنه لا يخالف الحسين في خروجه على يزيد من الناحية الشرعية، ولكن كان يخالفه من الناحية الاستراتيجية فكان يرى ألا يخرج الحسين للعراق حتى يتأكد من قوة شيعته وأنصاره هناك، وأن الأمويين لم يعد لهم نفوذ، وإلا فإن اليمن بعيدة عن النفوذ الأموي وله فيها أنصار، وبها أماكن كثيرة للتخفي، حتى يتمكن من جمع القوى الكافية لمقاومة الأمويين.
- عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما -:
فقد نصح الحسين – رضي الله عنه – في أكثر من موقف، فحين بلغه خروج ابن الزبير والحسين إلى مكة رافضين بيعة يزيد لقيهما، وقال: أذكركما الله إلا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس وتنظران، فإن اجتمع عليه الناس لم تشذَّا، وإن افترق عليه كان الذي تريدان، ولما قدم المدينة وبلغه خروج الحسين لأهل الكوفة لحقه ابن عمر على مسيرة ليلتين فقال: أين تريد؟ قال: العراق، ومعه طوامير وكتب، فقال: لا تأتهم، قال: هذه كتبهم وبيعتهم. فقال: إن الله خيَّر نبيه بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وإنكم بضعة منه، لا يليها أحد منكم أبداً، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فارجعوا، فأبى، فاعتنقه ابن عمر، وقال: أستودعك الله من قتيل. وكان ابن عمر يقول بعد ذلك: غلبنا الحسين بن علي بالخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي له ألا يتحرك ما عاش، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس؛ فإن الجماعة خير.
- عبد الله بن الزبير – رضي الله عنه -:
اتهمته بعض الروايات الضعيفة أنه أحد المتسببين في إقناع الحسين بالخروج إلى الكوفة، هو نفسه ثبت عنه بأنه قد أسدى النصائح للحسين، وحذره من مغبة مغادرة مكة والذهاب إلى الكوفة، وقد نصح الحسين قائلاً: أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟، فقال له الحسين: لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إليَّ من أن تُستَحلَّ بي – يعني مكة-.
وقد نظر بعض الصحابة إلى العمل الذي سيقدم عليه الحسين بأنه في حقيقته خروج على الإمام صاحب البيعة، كما نظروا إلى خروج الحسين وما يحمله خروجه على أنه نذر شر وبلاء على الأمة مهما كانت النتائج لأي من الطرفين منهم.
- أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه -:
حيث قال: غلبني الحسين على الخروج وقد قلت له: اتق الله في نفسك والزم بيتك، ولا تخرج على إمامك.
- موقف جابر بن عبد الله – رضي الله عنه -:
كلمت حسيناً فقلت له: اتق الله، ولا تضرب الناس بعضهم ببعض، فوالله ما حمدتم ما صنعتم، فعصاني. ولم تتوقف المحاولات الهادفة بين الحسين وبين خروجه إلى الكوفة فكتب إليه ابن جعفر.
- عبد الله بن جعفر – رضي الله عنه -:
كتب إلى الحسين وأرسل كتابه مع ابنيه محمد وعون: أما بعد، فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي؛ فإني مشفق عليك من الوجه الذي توجهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك. ولكن الحسين رفض الرجوع وهنا ظن عبد الله بن جعفر أن سبب خروج الحسين هو خوفه من الوالي عمرو بن سعيد بن العاص، فذهب إلى عمرو بن سعيد بن العاص، وطلب منه أن يكتب كتاباً إلى الحسين يؤمنه فيه ويعده بالخير، وكان رد عمرو بن سعيد أن قال لعبد الله بن جعفر: اكتب ما شئت وائت به أختمه. فكتب ابن جعفر: “بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي، أما بعد، فإني أسأل الله أن يصرفك عما يبوقك، وأن يهديك لما يرشدك، بلغني أنك قد توجهت إلى العراق، وإني أعيذك بالله من الشقاق، فإني أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبد الله بن جعفر، ويحيى بن سعيد، فأقبل إليَّ معهما؛ فإن لك عندي الأمان والبر والصلة وحسن الجوار لك، والله بذلك شهيد وكفيل، ومراعٍ ووكيل، والسلام عليك. ولكن الحسين – رضي الله عنه – رفض هذا الرجاء أيضاً وواصل مسيره.
- أبو واقد الليثي – رضي الله عنه -:
فقد روي عنه أنه قال: بلغني خروج الحسين، فأدركته بملل، فناشدته الله ألا يخرج، فإنه يخرج في غير وجه خروج، إنما يقتل نفسه، فقال: لا أرجع.
- عمرة بنت عبد الرحمن:
فقد كتبتْ إليه تعظّم عليه ما يريد أن يصنع، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة، وتخبره أنه إنما يساق إلى مصرعه.
- أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث:
يا ابن عَمِّ إن الرحم تظأرُني عليك، وما أدري كيف أنا عندك في النصيحة لك؟ قال: يا أبا بكر ما أنت ممن يُستغشُّ ولا يُتَّهمُ، فقل. قال: قد رأيت ما صنع أهل العراق بأبيك وأخيك، وأنت تريد أن تسير إليهم وهم عبيد الدنيا، فيُقاتلك من قد وعدك أن ينصرك، ويخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصره فأُذكِّرك الله في نفسك. فقال: جزاك الله يا ابن عمِّ خيراً، ومهما يقضي الله من أمر يكن. فقال أبو بكر: إنا لله، عند الله نحتسب أبا عبد الله.
- عبد الله بن مطيع فقد قال:
إني فداك أبي وأمي، متعنا بنفسك، ولا تسر إلى العراق، فوالله لئن قتلك هؤلاء القوم ليتخذُنَّا خولا وعبيداً.
- سعيد بن المسيب:
فقد نقل عنه الذهبي أنه قال: لو أن الحسين لم يخرج لكان خيراً له.
- عمرو بن سعيد بن العاص:
فقد كتب إليه يقول: إني أسأل الله أن يلهمك رشدك وأن يصرفك عمَّا يرديك، بلغني أنك قد اعتزمت على الشخوص إلى العراق، فإني أعيذك بالله من الشِّقاق.
- الفرزدق:
فقد لقيه بالصِّفاح، فسأله الحسين عمَّا وراءه، فقال: أنت أحب النَّاس إلى النَّاس، والقضاء في السماء، والسيوف مع بني أمية. وفي خبر آخر قال إنه قال: قلت له: يخذلونك، لا تذهب إليهم فلم يطعني. هذه أقوال الصحابة والتابعين في موقفهم من خروج الحسين، وهذه فلسفتهم في هذه القضية الهامَّة، فهم لم يبايعوا يزيد؛ لأنهم يرونه أفضل من غيره من الصحابة والتابعين، ولكنهم فعلوا ذلك؛ درءاً لمفسدة التفرق والاختلاف بين المسلمين، ودليل ذلك ما رواه خليفة بن خياط وابن سعد، عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن قال: دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، حين استخلف يزيد بن معاوية، فقال: أتقولون إن يزيد ليس بخير أمة محمد، لا أفقه فيها فقهاً، ولا أعظمها فيها شرفاً؟ قلنا. نعم. قال: وأنا أقول ذلك، ولكن والله لأن تجتمع أمة محمد أحب إليَّ من أن تفترق، أرأيتم باباً لو دخل فيه أمة محمد وسعهم، أكان يعجز عن رجل واحد لو دخل فيه؟ قلنا: لا. قال: أرأيتم لو أن أمة محمد قال كل رجل منهم: لا أهريق دم أخي، ولا آخذ ماله، أكان هذا يسعهم؟ قلنا: نعم. قال: فذلك ما أقول لكم. ومن الملاحظ إجماع كل من نصح الحسين – حتى من لم ير بأساً برفضه البيعة – على أن لا يخرج للعراق ولا يثق في أهل الكوفة، فقد كتب إليه المسور بن مخرمة – رضي الله عنه – بأن لا يغتر بكتب أهل العراق، ونصحه بأن لا يبرح الحرم، فإن كانت لهم حاجة فسيضربون إليه آباط الإبل حتى يوافوه فيخرج في قوة وعدة. ومما يلفت الانتباه – زيادة على إجماع الناصحين للحسين على خيانة أهل الكوفة ووجوب عدم الثقة بوعودهم – كذلك يلفت الانتباه إجماعهم في توقعهم لمقتل الحسين كما يبدو ذلك من أسفهم عليه وكلمات التوديع له، وما ذلك إلا دليل على معرفة أولئك الناصحين من العلماء بالأوضاع، ووعيهم لما سبق من أحداث جرت إبان الفتنة بين علي ومعاوية، عرفوا من خلالها الدوافع والأهواء التي تدفع ببعض الأقوام للاستفادة من إثارة الإحن ودوام الفتن.
المرجع:
كتاب “استشهاد الحسين (رضي الله عنه) ومعركة كربلاء” للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا رابط الكتاب:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/8.pdf