استرضاء اليمين المتطرف .. كيف يحاول ماكرون “غسل سمعة” فرنسا الاستعمارية
لم يتوقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن محاولات استرضاء اليمين الفرنسي المتطرف حتى هذه اللحظة، لاجئاً إلى استخدام وحشد كل الأدوات لذلك حتى التاريخية منها، إذ يحاول “غسل سمعة” فرنسا عبر تبييض الجرائم الاستعمارية، ليظهر في النهاية بأنه يفعل كل شيء لمحاولة كسب مؤيدي غريمته اليمينية المتطرفة ماري لوبان.
وعلى ذكر ذلك تسلم الرئيس الفرنسي، الأربعاء الماضي، تقريراً من المؤرخ بنجامين ستورا حول فترة استعمار بلاده للجزائر، تضمن مقترحات لإخراج العلاقة بين البلدين من حالة الشلل التي تسببت فيها قضايا ذاكرة الاستعمار العالقة بينهما.
وعلى عكس ما يطمح إليه التقرير في جانب العلاقات المتوترة مع الجزائر فقد تسبب في حالة غضب وانتقادات واسعة في المجتمع الجزائري الذي يمتلك حساسية عالية تجاه القضية، إذ اعتبر البعض أن التقرير الذي تسلمه ماكرون “تلاعب بالمراجع التاريخية وساوى بين الجلاد والضحية”.
كما يراه الجزائريون وثيقة أحادية الجانب، بعدما حاول الفرنسيون وصف كيف ولماذا لا تزال العلاقة مضطربة بين الجزائر وفرنسا في أسلوب قريب من سرد المعلومات العامة واقتراحات لتعزيز العلاقات الدبلوماسية، دون التطرق إلى صلب قضية الاستعمار الفرنسي وجرائمه بحق الشعب الجزائري.
ما المشكلة في التقارير الفرنسية؟
لم تكن هذه المحاولة الفرنسية الأولى التي تثير الغضب الجزائري، لأن المشكلة من وجهة نظر الجزائريين لا تكمن في العثور على أدلة حول ما حدث من جرائم في الجزائر على يد الفرنسيين، بل الاعتراف بهذه الأدلة، في حين لا تزال فرنسا تطلق على المجازر الدموية في الجزائر اسم “الأحداث” و”عمليات حفظ النظام”.
وهنا تشير الكاتبة نبيلة الرمضاني في مقال نشرته مجلة “فورين بوليسي”، وهي صحفية فرنسية من أصول جزائرية متخصصة في القضايا الأنجلو- فرنسية، إلى أن التقرير المثير للجدل فشل في ترك أي توصية في أهم شيء في القضية، أي الاعتذار.
“لا توبة ولا اعتذارات”
وتقول الرمضاني إن الفرنسيين على ما يبدو، وعلى الرغم من فقدان الجوهرة في امبراطوريتهم بعد أكثر من قرن من القهر المميت والجرائم ضد الإنسانية، فإنهم لا يعتقدون أنهم كانوا من الهمجية بما يكفي لإظهار أي ندم.
وأضافت: “لننسى استخدام النابالم والغاز للقضاء على المدنيين بذبح المتظاهرين الجزائريين في البلدات والمدن، بما فيها باريس، أو الاستخدام المنهجي للتعذيب أو الإرهاب، الذي تقوم به المنظمات الفرنسية القومية المسلحة، لنلاحظ أن المتحدث باسم ماكرون قد قال في مقدمة التقرير إنه لن تكون هناك توبة ولا اعتذارات”.
وقد أكدت تقارير إعلامية محلية فرنسية عقب تسليم التقرير أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “لن يعتذر للجزائر” عن الأنشطة الاستعمارية السابقة لبلاده فيها، والجرائم التي ارتكبت بحق ملايين الجزائريين.
وذكر بيان صادر عن الإليزيه أن ماكرون شكر المؤرخ ستورا على ذلك العمل، وطلب مواصلة مثل هذه الجهود في هذا الصدد، مؤكداً أنه سيتخذ بعض المبادرات في ضوء ذلك التقرير، دون توضيح ماهيتها.
استعمار السرد
على الرغم من حصول الجزائر على استقلالها عن فرنسا، فإن المستعمر لا يزال يسعى لإملاء تاريخ الجزائر، ويظهر هذا مع اقتراب الذكرى الستين لهزيمة الاستعمار الفرنسي عام 1962.
في المشهد الحالي بالتقرير الذي طلبه ماكرون، يُظهر أنه مصمم على أن تكون بلده المسؤولة عن واحدة من أكثر الأحداث دموية في التاريخ الاستعماري، هي ذاتها المتحكمة في سردية التاريخ.
يحاول تقرير ماكرون خلط الأوراق بصورة كبيرة في ظل حملته على مسلمي فرنسا، إذ يركز التقرير على الهجمات التي شنها متطرفون في فرنسا، رغم أن هذه الجرائم لا علاقة لقضية الاستعمار الفرنسي للجزائر بها.
كما ظل كاتب التقرير يستخدم المصطلحات التي يستخدمها ماكرون في صراعه مع المسلمين مؤخراً، إذ أشار الكاتب أكثر من مرة إلى مصطلح “الإرهاب الإسلامي”، وهو الأمر الذي رفضه العالم الإسلامي بشدة في الحملة الأخيرة التي قادها ماكرون بنفسه استرضاءً لناخبي اليمين الفرنسي.
ويذكر مقال فورين بوليسي في هذا الصدد أن ما فعله ستورا في تقريره هو صدى لخطاب ماكرون حول ما يسميه بـ”الانفصالية الإسلامية” في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والذي تحدث عن صدمات “الماضي الاستعماري” لفرنسا، وخاصة الحرب الجزائرية، وأن “الاستياء غير المعلن” قد أسفر عن تشدّد الشباب، وبالتالي القيام بهجمات إرهابية.
وهو ما يعني أن ماكرون وضع المقدمات والنتائج قبل أن يتسلم التقرير، دون الإشارة إلى أية جريمة فرنسية بالمرة، وإنما تحميل الجزائر الكلفة وحدها في الماضي والحاضر.
نظرة ماكرون الشعبوية التي تردد صداها في التقرير هي نفسها التي تظهر في نظريات المؤامرة اليمينية المتطرفة، التي تعتبر أن ما يحدث اليوم مرتبط ارتباطاً مباشراً بالجزائريين الغاضبين عندما قاوموا الاستعمار الفرنسي.
ويأتي دليل آخر على تلاعب ماكرون بالتاريخ لتحقيق مصالحه السياسية، تصريح للرئيس الفرنسي أثار الجدل خلال حملته الانتخابية للرئاسة بإعلانه من الجزائر أن استعمار فرنسا للجزائر كان “جريمة ضد الإنسانية”، غير أنه تراجع بعد ذلك عمَّا قاله، ودعا إلى اللجوء إلى أسلوب “اللا إنكار واللا توبة” بشأن تاريخ فرنسا الاستعماري، مضيفاً أنه “لا يمكننا أن نظل أسرى للماضي”.
(المصدر: تي آر تي TRT العربية)