اختفاء المآذن من أثينا!
بقلم م. محمود صقر
كان في أثينا أربعة آلاف مبنى إسلامي بين جامع ومسجد ومدرسة وتكية وحمام وسبيل.. حتى القرن التاسع عشر.
ذهبتُ إليها سائحاً أنوي تتبع الآثار الإسلامية التي ذكرها الرحالة التركي أوليا جلبي في رحلته المسماة “سياحة نامة”، التي قام بها في القرن الخامس عشر؛ حيث ذكر أن على هضبة الأكروبوليس الشهيرة كان يوجد جامع البارثينيون ومصلى لجنود حامية الحصن، وقريب منهما تكية بناها حسين أفندي صاحب الطريقة الخَلْوَتية عام 1616م.
وأسفل حصن الأكروبوليس كان يوجد ثلاثة أحياء للمسلمين، يعيش فيها مائتا ألف مسلم، وبها ثلاثة جوامع، وسبعة مساجد، ومدرسة، وثلاثة كتاتيب، وتكيتان، وثلاثة حمامات، وخانان للتجار، كما يوجد بالمدينة ثلاثمائة كنيسة.
حاولت الوقوف على أي من تلك الآثار التي ذكرها أوليا جلبي فلم أجد لها أثراً!
وجدت هيكل مسجد تم إزالة مئذنته في قلب ميدان مونستراكي أهم ميادين أثينا، وقد تم تحويله إلى متحف مغلق حالياً للإصلاح والترميم، وما زالت قبابه وبعض معالمه الخارجية قائمة، ووجدت مرسوما على جداره الخارجي نجمة داود السداسية، ولا أدري سبب وجودها.
ظلت عيني تدور وأنا أتجول في الحي القديم المسمى “بلاكا” في سفح هضبة الأكروبوليس بحثاً عن أي أثر إسلامي؛ حتى وقعت عيني على لوحة رخامية أعلى إحدى بوابات سور المدينة القديم، مكتوب عليها باللغة العربية كتابة لم أستطع قراءتها لعدم وضوحها.
سألت دليلتي السياحية في الأكروبوليس عن الأسبلة والحمامات التركية، فهزت رأسها وقالت: “جدتي كانت معتادة على الذهاب للحمام التركي في حي بلاكا، ولكن لا أدري عن وجوده شيئاً”.
ذهبت أتتبع تلك الآثار في المتاحف.
دخلت متحف “يهود اليونان”، فوجدت مخطوطات لفرمانات عثمانية تتعلق بتنظيم شؤون اليهود المقيمين في أثينا، وتملكني العجب حين زرت “متحف التاريخ الوطني لليونان”، الذي يتناول الفترة الممتدة من الوجود البيزنطي، ثم العثماني، ثم اليونان المستقلة، وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية؛ فلم أجد أي أثر مصور أو محفوظ من تلك الآثار التي تحدث عنها أوليا جلبي.
استكملت رحلة بحثي، وزرت متحف الفن الإسلامي (متحف بيناكي)، وقلت هناك أجد بُغيَتي، فوجدت متحفاً بديعاً يحوي العديد من التحف الفنية من أرجاء العالم الإسلامي، ولم يكن من ضمنها أي آثار إسلامية من أثينا نفسها التي كانت عامرة بالآثار الإسلامية!
تأسفت لضياع هذا التراث الإنساني، وزاد أسفي مع معرفتي بتلك الدراما الإنسانية التي حدثت عند انفصال اليونان عن الدولة العثمانية؛ فقد عاش الأتراك واليونانيون قرابة أربعمائة عام شعبين على أرض واحدة، ضمن الإمبراطورية العثمانية، حتى استقلال اليونان عام 1823.
وأثناء حرب الاستقلال تلك حدثت مذابح مشتركة بين الطرفين، وبرغم ذلك وبحسب الوثائق اليونانية كان عدد اليونانيين القاطنين في الإمبراطورية العثمانية (خارج حدود اليونان المستقلة) حتى بداية القرن العشرين مليونان ونصف (علما بأن عدد سكان اليونان الآن 12 مليوناً)، وظل كذلك العديد من الأتراك يسكنون في اليونان حتى نشوب الحرب بين البلدين بين عامي 1919 و1922؛ حيث بدأت اليونان بإيعاز من إنجلترا وحلفائها الحرب ضد الدولة العثمانية الجريحة بغية الحصول على مكاسب.
ونتج عن هذه الحرب اتفاقية لوزان عام 1923 التي بموجبها تم ترسيم حدود دولة تركيا الحديثة، ونتج عنها أيضاً اتفاقية تبادل السكان بين تركيا واليونان التي بموجبها تم التهجير القسري لمليونين من رعايا الدولتين، وكان من شروط الاتفاقية عدم السماح للمهجرين اليونانيين من تركيا والأتراك المهجرين من اليونان بالعودة لزيارة ديارهم.
وختاما للسياحة في تلك الدراما الإنسانية؛ فإن أثينا اليوم يعيش فيها أقلية تركية تتركز في الشمال، بخلاف مئات الآلاف من المسلمين من مختلف الجنسيات في العاصمة أثينا، وبرغم ذلك “أثينا” هي العاصمة الأوروبية الوحيدة التي ليس بها مسجد جامع للمسلمين!
(المصدر: مجلة المجتمع)