مقالات

احترام النفس البشرية في الحروب النبوية

بقلم ايهاب كمال أحمد

إن حفظ النفس وصيانتها من مقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة؛ حيث إن الشريعة الإسلامية تدور أحكامها حول حماية وحفظ خمسة أمور، هي أمهات لكل الأحكام الفرعية، وتُسمى بالضروريات الخمس، وهي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ المال، وحفظ العرض، وحفظ العقل.

ومن أجل كرامة الإنسان، وحقه في الحياة، وحفظ النفس؛ قررت الشريعة الإسلامية حرمة حياة الإنسان، وحفظ هذه الحرمة وعدم الاعتداء عليها بالقتل أو ما دونه، فحرَّم الإسلام الاعتداء على الإنسان، وحرم قتل النفس بغير حق، واعتبره جريمة موجهة للإنسانية كلها، بل جعل حفظها نعمة للإنسانية.

قال الله تعالى في تقرير هذا المعنى: ﴿ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32].

وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ [الأنعام: 151].

وحفظ النفس أيضًا بتحريم الانتحار؛ فقتلُ الإنسان لنفسه في الشريعة الإسلامية كقتْل الغير يعتبر إثمًا وجريمة عُظمى:

قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29].

وقال تعالى: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195].

وقد وضع الإسلام الحدود والديات من أجل احترام النفس والمحافظة عليها، والبعد عن التفكير بالثأر أو الاعتداء، أو أي جريمة من هذا النوع، كما أنها تزرع العدالة وحب القصاص بين الناس.

فما أعظم هذه الأحكام وما أبلغها في حماية النفس الإنسانية التي قررتها الشريعة الإسلامية قبل ما يزيد على ألف وأربعمائة عام! في الوقت الذي لم يستطع المجتمع الدولي أن يعتبر قتل المئات بل الآلاف من البشر جريمة إلا في عام 1948حين تقرَّر عن طريق الجمعية العامة للأمم المتحدة أن إبادة الجنس البشري جريمة معاقب عليها، وإن كانت قرارات مثل هذه الجمعيات لم تحظ بمصداقية على الجانب الواقعي التطبيقي، بخلاف شريعة الإسلام التي تفوق كل شرعة من جهة النصوص وعلى مستوى التطبيق العملي الواقعي.

فقد أوجبت الشريعة الإسلامية في القتل العمد القصاصَ من القاتل، وجعلته لولي المقتول بعد صدور حكم القاضي بالقتل لتنفيذه على القاتل، ولكنه ليس لهم أن يَقتلوا سوى القاتل، بخلاف ما كان يجري قبل الإسلام على أساس مبدأ الثأر، وفي تأكيد ذلك قول تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ [الأنعام: 151].

ومعنى ذلك أنه لا ينبغي قتل سوى القاتل، ولا يجوز الاعتداء على غير القاتل وصب نيران الثأر والانتقام على الأبرياء الذين لم يباشروا جريمة ولم يُعينوا عليها.

وكفلت الشريعة الإسلامية حق القصاص في النفس وما دونها؛ لتحقق معاني العدالة، وتهذب مشاعر الانتقام، ولتحفظ النفس البشرية؛ حيث إن تشريع القصاص مما يسدُّ ذرائع القتل، ويكبح جماح الثأر والانتقام الذي يؤدي إلى الجرائم والاعتداء على الآخرين.

قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ [البقرة: 178].

ثم قال تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 179]، وهذا القصاص عام بدون استِثناء يطبق على الجميع.

وبين أن في هذا القصاص حياة للناس؛ لأنه حفظ لحياة البشَر بما يشكِّله من رادع عن الاعتداءات المتكرِّرة.

وقال تعالى: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ [المائدة: 45].

فمن قتل إنسانًا يُقتَل، ومَن فقأ عينًا فُقئت عينُه، ومَن جدَع أنفًا جُدع أنفه، ومَن كسر سِنًّا لآخر كُسرتْ سِنُّه.

ومن سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

عن قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن قتَل عبْدَه قتلْناه، ومَن جدَع عبْدَه جدَعْناه)) [1].

وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن خصى عبده خصَيناه)) [2].

وعن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن يهوديًّا رضَّ رأس جارية بين حجرَين، قيل: من فعل هذا بكِ؟ أفلان؟ أفلان؟ حتى سُمِّي اليهوديُّ فأومأتْ برأسِها، فأُخذَ اليهوديُّ، فاعترف، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرضَّ رأسه بين حجرَين [3].

وعن أنس رضي الله عنه أن الرُّبَيِّعَ – وهي ابنة النضر – كسرت ثنية جارية، فطلَبوا الأرش، وطلبوا العفو، فأبوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرَهم بالقصاص.

فقال أنس بن النضر: أتُكسَر ثنيةُ الرُّبَيِّعِ يا رسول الله؟ لا والذي بعثك بالحق لا تُكسَرُ ثنيَّتُها، فقال: ((يا أنس، كتابُ الله القصاص))، فرضيَ القومُ وعفوا.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من عباد الله مَن لو أقسم على الله لأبرَّه)) [4].

ولقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل المعاهَد من غير المسلمين، وجعل هذه الفعلة جريمة تعظم عقوبتها؛ فعن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن قتل نفسًا معاهدًا لم يَرَحْ رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا)) [5].

ومن مواقف السيرة النبوية العجيبة في هذا المقام:

أن سهيل بن عمرو وقع في الأَسرِ يوم بدر وكان خطيبًا مِصْقَعًا، فقال عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انزع ثنيَّتَيه السُّفليَين فيُدْلَعَ لسانه فلا يقوم عليك خطيبًا بموطن أبدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا أمثِّل به فيُمثِّل الله بي ولو كنتُ نبيًّا، ولعله يقوم مقامًا لا تكرهه)) [6].

ولم تهتم الشريعة الإسلامية بالنفْس البشرية بعد خروجها للحياة فقط، بل أيضًا اهتمَّت بالجنين في بطن أمه وقبل ولادته كإنسان في حالة تعرُّض أمِّه لأذى، أو للضرب المُفضي إلى موت الجنين في بطنِها احترامًا لآدميتِه.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن امرأتين من هُذَيل رمت إحداهما الأُخرى فطرحت جنينَها، فقَضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بغرة عبد أو أَمَة [7].

وفي حديث رسول الله دليل على أن الجنين إذا مات بسبب الجناية، وجبَت فيه الغرة مطلقًا، سواء انفصل عن أمه وخرَج ميتًا أو مات في بطنها، أما إذا خرج حيًّا ثم مات، ففيه الدية كاملة.

فالحياة الإنسانية الكاملة مَصونة في الإسلام، لا يجوز التعرُّض لها بالقتل أو بالجرح، أو بأي شكل من أشكال الاعتداء، سواء كان الاعتداء على بدنه أو على نفسه أو مشاعره، أو بازدرائه أو الانتقاص من قيمته الإنسانية.

فالشريعة الإسلامية قررت مجموعة من الأحكام والعقوبات كضمانات تكفل عدم الاعتداء على حياة الإنسان؛ حتى يستطيع أن يمارس نشاطه بحرية تامة بدون إعاقة أو ضرر.

ولم يكرم الإسلام النفس البشرية في كل أطوار حياة الإنسان وقبل ولادته فقط؛ إنما امتد هذا التكريم لما بعد الموت أيضًا؛ حيث أمرت الشريعة الإسلامية بدفْن جُثث الموتى بعد أن يتوفاهم الله عز وجل؛ فعن عمر بن يعلى بن مرة عن أبيه قال: سافرتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم غير مرَّة فما رأيتُه مرَّ بجيفة إنسان إلا أمَرَ بدفنِه، لا يَسأل أمُسلم هو أم كافر [8].

ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في غزوة بدر أن يقوموا بدفن جثث قَتلى المشركين من قريش في القليب، وهي بئر مجهورة لم تُطْوَ.

فعن عائشة رضي الله عنه قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقَتلى أن يُطرحوا في القليب، فطُرحوا فيه، إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفَخ في دِرعه فملأها، فذهَبوا يُحرِّكوه فتزايلَ، فأقروه وألقوا عليه ما غيَّبه من التراب والحجارة [9].

ومن تكريم النفس البشرية بعد موتها: النهيُ عن التمثيل بجثث القتلى والعبث بها وتشويهها؛ فعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرًا على جيش أوصاه في خاصة نفسِه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا فقال: ((اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتِلوا مَن كفَرَ بالله، اغزوا ولا تغلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا)) [10].

قال الترمذي: حديث بريدة حديث حسن صحيح، وكره أهل العلم المُثلةَ [11].

وعن أنسٍ قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث في خطبته على الصدقة، ويَنهى عن المُثلة” [12].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “فأما التمثيل في القتل، فلا يجوز إلا على وجه القصاص، وقد قال عمران بن حصين رضي الله عنهما: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمَرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة.

حتى الكفار إذا قتلناهم، فإنا لا نمثِّل بهم بعد القتل، ولا نجدع آذانهم وأنوفهم، ولا نبقر بطونهم، إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا، فنفعل بهم ما فعلوا، والترك أفضل؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [النحل: 127، 128].

قيل: إنها نزلت لما مثَّل المشركون بحمزة وغيره من شهداء أُحُد رضي الله عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لئن أظفرني الله بهم، لأمثلنَّ بضعفَي ما مثَّلوا بنا))، فأنزل الله هذه الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بل نصبر))” [13].

وإليك هذا الموقف العجيب من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يدلُّ على احترام الإسلام للنفس البشرية بعد الموت:

فعن قيس بن سعد وسهل بن حُنيف أنهما كانا بالقادسية فمرَّت بهما جنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض؛ أي: من أهل الذمة؟ فقالا: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّت به جنازة فقام، فقيل: إنه يهودي؟ فقال: ((أليست نفسًا؟!)) [14].

وهكذا نجد أن الإسلام قد احترم النفس البشرية في جميع أطوار الحياة؛ بل وبعد الممات، وشرع الأحكام التي تصون لها كرامتها ورقيَّها وفضلها؛ قال الله – عز وجل -: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ [الإسراء: 70].

———————————————

[1] أخرجه أحمد (19245)، وأبو داود (3914)، والترمذي (1334)، والنسائي (4655)، والحاكم (8098) وقال: صحيح على شرط البخاري، ووافَقَه الذهبي.

[2] في لفظ أبي داود، وعند النسائي (4673).

[3] البخاري (2236)، ومسلم (3165).

[4] البخاري (2504)، ومسلم (3523).

[5] البخاري (6403).

[6] سيرة ابن هشام (2 / 629)، وانظر: نصب الراية  (3 / 120).

[7] البخاري (6395)، ومسلم (3183).

[8] أخرجه الحاكم (1374)، وقال: صحيح على شرط مسلم.

[9] أخرجه أحمد (25157).

[10] مسلم (3261).

[11] سنن الترمذي (1328).

[12] البخاري (3871).

[13] السياسة الشرعية (ص: 105).

[14] البخاري (1229)، ومسلم (1596).

المصدر: الألوكة نت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى