احتجاجاتٌ عفوية أم ثورة مضادّة؟
بقلم حسين لقرع
هناك غموضٌ كبير يكتنف أحداث العنف والشغب التي اجتاحت العديد من المدن التونسية في الأيام الأخيرة؛ فتونس هي البلد الوحيد الذي نجحت فيه الثورة في الإطاحة بالنظام وتحقيق الانتقال الديمقراطي وتداولِ الحكم، وتحوّل إلى واحةٍ للديمقراطية الحقيقية في صحراء الاستبداد العربية.
وأضحى بإمكان التونسيين الآن الخروج إلى الشارع للتظاهر سلميا في أيّ وقت، وفي وضح النهار، من دون أيّ خوف من القمع والمطاردات والسجون والتعذيب، فلماذا يختار مئاتُ المتظاهرين الخروج ليلا بشتى المدن وهم مقنّعون على طريقة “بلاك بلوك” المصرية المعارِضة للرئيس محمد مرسي رحمه الله وحكمِ الإخوان، والحالُ أنّهم يستطيعون التظاهر نهارا ووجوههم مكشوفة من دون أن يترتّب عن ذلك أيُّ تبعات؟! أليس الأمر مدعاة للارتياب؟!
وما يدعو للريبة أكثر أنّ الاحتجاجات على تفاقم الفقر والبطالة وتدهور الأوضاع الاقتصادية، تحوّلت إلى أعمال شغب ونهب وسلب للأملاك العامّة والخاصّة على السواء، ولم يرفع المحتجُّون خلالها أيَّ مطلب سياسي أو معيشي، وقد اتّضح أنّ الكثير من المشاركين في أعمال الشغب والسلب هم قُصّرٌ وأطفالٌ لا يفقهون في السياسة وشؤونِ الحكم والصراعات الحزبية والإيديولوجية شيئا، ومع ذلك سمعنا الكثير من “المحللين” في فضائياتٍ إماراتية وخليجية أخرى يزعمون أنّ الشباب “يثور على النظام الحاكم الذي تسيطر عليه حركة النهضة الإسلامية، ويطالب بتغييره”، وهو المطلب ذاته الذي ترفعه القوى العلمانية المدعومة إماراتيًّا منذ نحو سنتين، وقد حاولت هذه القوى حتى عزل راشد الغنوشي من رئاسة البرلمان وعجزت، واليوم تحاول بكلّ انتهازية ركوب موجة الاحتجاجات الشبانية وحرْفِها باتجاه المطالبة برحيل النظام.
والواضح أنّ دولاً خليجية معروفة بكرهها للربيع العربي وقيادتِها لثوراتٍ مضادّة في عددٍ من الدول العربية لإفشاله، كمصر وليبيا، لا تزال تشعر بغُصّةٍ في حلقها بسبب نجاح الثورة التونسية وصمودها عشر سنوات كاملة واستعصائها على كل المؤامرات والضغوط، داخليا وخارجيا، ولن يهدأ لها بالٌ حتى تُنهي هذه التجربة وتعيد الشعب التونسي إلى حظيرة الطاعة والخنوع مجددا، ولذا أوعزت إلى بيادقها في الداخل؛ أي أقطاب التيار العلماني، بالسعي إلى إسقاط الثورة بكل السُّبل وإعادة تونس إلى ما قبل ثورة الياسمين.
لذلك، لا يسعنا إلا أن نحذّر إخواننا التونسيين من هذه المؤامرة التي تتخذ في كلّ مرة شكلا جديدا، وهي تركب الآن موجة أعمال الشغب والتخريب الشبانية لتُحوِّلها إلى حركةٍ سياسية تحمل مطلبها بإسقاط النظام. ينبغي أن يفوِّت الشعبُ التونسي مجددا على الإمارات وعملائها في الداخل هذه الفرصة ويتمسّكوا بثورتهم التي أطاحت بالاستبداد وجعلتهم يتنفسون الحرية، وليحذروا ألف مرة من سقوط هذه التجربة والعودة إلى نقطة الصفر كما حدث في مصر في صيف 2013؛ لقد غُرِّر آنذاك بملايين المصريين وأنزِلوا إلى الشارع بطريقةٍ استعراضية كانت كافية لتوفير الغطاء للجيش بقيادة السيسي للتدخّل والاستيلاء على الحكم متذرّعا بـ”الاستجابة لنداء الشعب”، وقضى الانقلابُ على التجربة الديمقراطية وأعاد المصريين إلى عهد الاستبداد والقهر مجددا، وجعلهم يعضّون إلى الآن أصابع الحسرة والندم على ما فرّطوا فيه من ديمقراطيةٍ وحرّيات في عهد مرسي. وما دام الجيشُ التونسي زاهدا في السلطة، محايدا في الصراعات بين التيارات السياسية المتجاذبة، فهذه نعمة كبيرة ينبغي أن يقدّرها التونسيون جيِّدا، وإذا أرادوا التغيير، فليفعلوا ذلك عبر صناديق الاقتراع وحدها ما دام الأمر متاحاً ولا مكان للتزوير في البلد، والعاقلُ من اتّعظ بغيره.
(المصدر: صحيفة الشروق الالكترونية)