مقالاتمقالات مختارة

اجتهاد ابن تيمية التأسيسي لأصول منهج علم التفسير من خلال مقدمته في أصول التفسير عرض وتقويم ‏(2-2)

اجتهاد ابن تيمية التأسيسي لأصول منهج علم التفسير من خلال مقدمته في أصول التفسير عرض وتقويم ‏(2-2)

بقلم محمد كنفودي

بعد استعراض معالم الاجتهاد التأسيسي لدى ابن تيمية في مقدمته في أصول التفسير، تأتي هذه ‏المقالة ‏لتناول بعض المسائل في هذا الاجتهاد بالنقد والتقويم.‏

تمهيد:

  بعد أن توقّفنا بالدراسة والتحليل لاجتهاد ابن تيمية التأسيسي في سياق وضع أصول منهج علم التفسير، لقصد تحقيق ما به يتم حفظ خصوصية القرآن، خصوصًا في كونه نصّ تكليف وتعبّد، فضلًا عن الاتفاق على أصول منهجية كلية، ليستقيم بالتّبع المحصول المعرفي وإن اختلفت فيه الأنظار المعتبرة، درءًا للنزاع بين الأنظار التفسيرية، خصوصًا الاختلاف الذي يكون (اختلاف تضاد) بين المفسّرين، لحفظ الوحدة واللُّحْمة بينهم. ذلك أنّ أصل الاعتقاد الباطل، والاعوجاج في السلوك، والانحراف في الممارسة، ينشأ ذلك في الغالب من التفسير غير الصحيح، الذي هو بدوره منبثق عن فساد في المنهج، ولا شك أنّ هذا هو الناظم الكلي للاجتهاد التيمي في باب التفسير.

وبالنظر إلى أنّ تأصيل ابن تيمية يبقى محتفًّا بأمر الاجتهاد، والمجتهد بين أمرين؛ إما الإصابة، التي لا تنزهه عن الخطأ بصورة مطلقة، وإما الخطأ في الاجتهاد، الذي لا يفضي إلى التزهيد في اجتهاده، أو يؤول بقاصري الإدراك من أهل بادئ الرأي إلى إصدار الأحكام، خصوصًا الأحكام الدينية، كالكفر؛ إِذْ أهلية الاجتهاد تبرئ المجتهد من ذلك.

نتوقّف في هذا السياق على بعض الملاحظات التي نوردها من باب النقد والتقويم. لذا، ينحصر النظر القرائي في هذا المقالة الثانية على بيان بعض الاعتلالات المنهجية والأعطاب المعرفية التي تخلّلت الاجتهاد التيمي التأسيسي في سبيل وضع أصول منهج علم التفسير، على سبيل الاعتراض وليس الرفض والرد المطلق، ونتناولها على صورة مجموعة ملاحظات من باب التمثيل والاختصار، وليس من باب الاستغراق والإطالة، إذ العديد من ذلك أشير له في هوامش المقالة الأولى[1]، ونورد من ذلك ما يلي:

الملاحظة الأولى: البيان النبوي لآيات القرآن بين الاستغراق الكلي والتمثيل الجزئي والمنهج الكلي المحدّد للمنظور التفسيري:

لتفصيل القول في علاقة البيان النبوي بآيات القرآن[2]، نورده على صورة ثلاث مسائل؛ قصد البناء والتقديم المنهجي، وهي:

المسألة الأولى: البيان النبوي لآيات القرآن بين الاستغراق الكلي والتمثيل الجزئي:

 من المعلوم نصًّا من القرآن أن من مهامِّ الرسول -عليه السلام- في القرآن «البلاغ» و«البيان»، كما في قول الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل: 44]، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 94]؛ فإذا كان البلاغ قد عمّ القرآن كله قطعًا، فإنّ البيان لم يعمَّ كلّ آيات القرآن.

وقبل بيان أدلة نفي التعميم وتحديد منهج الرسول -عليه السلام- في بيان القرآن، نعمد أول الأمر إلى إعادة النظر في قول ابن تيمية، وكذا عبد الرحمن بن خلدون (ت: 808هـ) وغيرهما، والقائم على (أنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- بَيّن لأصحابه ألفاظ ومعاني آيات القرآن)، وكلّ واحد منهما اعتمد في نظره التأسيسي ما رآه خليقًا بتحقيق ذلك؛ فابن تيمية -كما سلف القول في المقالة الأولى، وبناء على قوله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[النحل: 64]- نصّ على أن (النبي -عليه السلام- بيّن لأصحابه معاني القرآن، كما بيّن لهم ألفاظه)، فضلًا عن أن سياق حال الصحابة زمن النبوّة والنزول كان يقوم على أساس أن حفظ سورة من سور القرآن لا يتجاوز إلى غيرها حتى تُفهم معانيها، بعد أن تُعقل، وعقل الكلام لا ينفصل فيه عقل الألفاظ عن عقل المعاني. يترتب عن هذا الأمر من المنظور التّيْمي أن (النّزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليل جدًّا)، مقارنة بما سيحدث من بعدهم من تالي أزمنة وقرون التأويل في تاريخ التفاعل مع آيات القرآن[3].

أما ابن خلدون فبيّن -استنادًا إلى كون القرآن أُنزل بـ(لسان عربي مبين)- أنّ الصحابة كانوا (كلّهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه)، بالنظر إلى طريقة نزوله على الرسول -عليه الصلاة والسلام- مُنجَّمًا، وقد فهم الصحابة ما فهموا من القرآن، بالنظر إلى أن النبي -عليه السلام- هو المبيِّنُ لهم، بحسب قول الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل: 44]، إذ كان الرسول -عليه السلام- حسب التنصيص الخَلدوني، (يبيّن المجمل، ويميّز الناسخ من المنسوخ، ويعرّفه أصحابه، فعرَفوه)[4].

بناء على اجتهاد ابن تيمية وابن خلدون، بيّن أحمد أمين (ت:1373هـ) في سياق تخطئة الاجتهاد الخلدوني خصوصًا، أن (القرآن لم يكن جميعه في متناول الصحابة جميعًا يستطيعون أن يفهموه -إجمالًا أو تفصيلًا- بمجرد أن يسمعوه). وقد أقام أحمد أمين دعواه على مجموعة من الاعتبارات، منها: أن فهم آيات القرآن، لا يتوقف على (اللغة) وحدها، وإنما يتطلّب أيضًا (درجة عقلية خاصّة تتّفق ودرجة الكتاب في رقيِّه)، فضلًا عن التعرّف عن ما هو تاريخي أو علمي ونحو ذلك، بحسب التعلّق الموضوعي لآيات القرآن، وأن الصحابة اختلفت منازلهم في علاقتهم بالقرآن ولزومهم للرسول عليه الصلاة والسلام، وأن الصحابة فيما بينهم كانوا يتفاوتون في معرفة عادات زمن النزول؛ لذا، تكون دعوى أحمد أمين مخالِفة لدعوى ابن تيمية وابن خلدون، إِذْ هي قائمة على أن الصحابة (كانوا يتفاوتون في فهم القرآن ومعرفة معانيه)، اعتمادًا على ما استند إليه من حجج وأورده من آثار مما هو مستفيض في الباب[5].

وعليه؛ فإنّ تحرير القول المعتبر في المسألة من باب جمع متفرقات الأنظار كما هو المنهج التيمي كما سلف الذِّكْر في المقالة الأولى، يقتضي تحديده في أمرين:

أولهما: إنّ جملة الآيات القرآنية التي تتصل بأصول الدّين وكلياته ­-كشأن أمور الاعتقاد والعبادة والأخلاق ونحوها- لا مرية أن الصحابة فهموها، إما بواسطة بيان الرسول -عليه الصلاة والسلام- لهم، العملي منه والقولي، أو باستصحاب روح البيان النبوي، أو بواسطة نظرهم في الآيات، إِذْ هم أهل نظر ومعهود لغوي نزل على وفقه القرآن حسب المسلَّمة المنهجية التراثية التي ورد تأصيلها والتنصيص عليها من قِبَل كلّ من الشافعي (ت:204هـ) وابن قتيبة (ت:276هـ) والشاطبي (ت:790هـ)، وغيرهم[6]، فتكون بالتّبع أمور الدّين والتديّن لا تتحقّق بغير هذا الأمر.

 ثانيهما: كون الصحابة قد فهموا آيات القرآن كلّها؛ سواء عن طريق (البيان النبوي)، أو عن طريق (الاجتهاد) أو (القول بالرأي)، فهذا لم يتحقّق لهم كلية، استنادًا إلى ما ساقه أحمد أمين وغيره من الأدلة المعتبرة في الباب، أهمها أن ما وصلنا من البيان النبوي أو من تفسير الصحابة قليل بالإضافة إلى آيات القرآن كلّها، فضلًا عن أنّ المهيمن على تفسير الصحابة لآياته، إن كان قد عمَّها كلها، فهو أقرب إلى المنحى اللغوي منه إلى التفسير النّسَقي بالمعنى المعهود في مراحل التفسير الجامع كما سنبيّن لاحقًا.

المسألة الثانية: الاعتبارات البنائية لكون البيان النبوي اللفظي لم يعمَّ كلّ آيات القرآن:

بناء على ما تقدّم؛ نسوق بعض ما نراه يؤسّس لكون الرسول -عليه السلام- لم يبيّن لأصحابه كلَّ معاني ألفاظ آيات القرآن لفظيًّا صريحًا، وهذا النفي ليس من باب كونه -عليه السلام- قَصّر فيما أَوكل الله له من مهمّة البيان، وإنما مردّ الأمر إلى أمور أخرى ثابتة لا يطرأ عليها الشك بأي وجه؛ سواء تعلّقت بأمة الدعوة والإجابة زمن النزول، أو تعلّقت بطبيعة القرآن تعبيرًا ودلالة.

 ونورِد من ذلك ما يأتي:

1. إنّ الصحابة زمن النزول كانوا في أغلبهم ذوي مستوًى لغويٍّ يُمكِّنهم من فهم آيات القرآن بدون واسطة، إلا في حالات كان يتعذّر عليهم إدراك معنى بعض الآيات، أو كانت الآيات تتوقف ضرورة على بيان تطبيقي، فكان -عليه السلام- يتولى ذلك.

2. كون عدد الآيات من القرآن التي بيّنها الرسول -عليه السلام- لأصحابه بيانًا نصيًّا أو قوليًّا صريحًا للناس، بالاستناد إلى صحيح السنة النبوية، تجد أنه -عليه الصلاة والسلام- (لم يفسر إلا آيات قليلة من آيات القرآن)، وهو القول المعتمد في الباب[7].

3. ضمّ القرآن -كما يرى الشافعي- آيات عديدة عبارة عن (غاية في البيان) بحدّ ذاتها، فلم يتوقف بالتبع طلب معناها على ما سواها مطلقًا؛ سواء كان مردُّه ما جاء عن النبي -عليه السلام- أو سواه، وهذا يشمل الآيات النصيّة في القرآن، بالنظر إلى أن البيان النبوي تبع لآيات القرآن ولا يتقدّم عليها، تبعية الفرع للأصل[8].

4. لو كان البيان النبوي عمَّ كلّ آيات القرآن، بيانًا نصيًّا أو قوليًّا صريحًا للناس، لانتفى الاختلاف في التفسير؛ سواء في عهد الصحابة وإن كان قليلًا، أو في عهد التابعين وغيرهم؛ لذا، فإن المصنفات التفسيرية الكبرى قلّما تتجرّد عن الاختلاف في تحديد معاني ودلالات الآيات القرآنية.

5. كون القرآن كما هو ثابت نصًّا أُنزل بلسان عربي مبين، كما في قوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]، ونفي العجمة عنه، كما في قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103]، فضلًا عن أنه تبيان لكلّ شيء، كما في قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، فهل يحتاج بالتّبع إلى بيان خارجي، باستثناء البيان النبوي التطبيقي، إِذ ذلك يلازمه، بدليل أن الأمر بفعل الشيء يردفه الله تعالى بطاعة الرسول عليه السلام، كما في قوله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 54]، وطاعته وإن كانت عامة فإنها سياقيًّا متعلقة بالتطبيقي العياني لما ورد في القرآن.

6. ثبت في التأصيل التراثي عند الشافعي وابن تيمية والشاطبي وغيرهم، أنّ القرآن يبيّن بعضه بعضًا، إِذْ ما أُجمل في موضع فُصّل في آخر، وما أُطلق في سياق قُيّد في غيره، وما ورد عامًّا خُصّص في سواه، وما أُبهم في موطن بُيّن في آخر، ونحو ذلك في علاقة آيات القرآن بعضِها ببعض ترتيلًا وتوحيدًا، بالنظر إلى «الوحدة البنائية للآيات»، التي يتحدّد بها القرآن[9].

المسألة الثالثة: من مقوّمات منهج البيان النبوي التمثيلي لآيات القرآن:

إنّ الرسول -عليه الصلاة والسلام- بوصفه هو المُتلقي والمبلّغ والمبيّن الأول لآيات القرآن، فقد كان لبيانه لبعض آيات القرآن منهجًا، بقدر كونه هو الأصح لا يجوز مخالفته أو تجاوزه إلى غيره، بقدر كونه يمثّل الكمال المطلق في البيان، باعتبار صفاته عليه السلام. لذا، فإنه يُشَكِّل الأنموذج الأمثل في تفسير آيات القرآن، به يتحقّق الكمال لكمال قائله وعصمته، ويدرأ عن القرّاء في أنظارهم آفة التغالب والعنف والتكفير ونحو ذلك. فإنّه بالتبع يضع المنهج السديد في علاقة الأنظار الاجتهادية بآيات القرآن[10]، خصوصًا في سياق تضارب الاجتهادية الظنيّة؛ سواء في مراحل التأسيس المذهبي للاجتهاد الإسلامي، أو في المرحلة المعاصرة، مرحلة تكوثر الفهوم والقراءات في فضاء آيات القرآن، فضلًا عن أنه من أهم ما يُسهم في تحرير آيات القرآن من أزمة الفهم على الوجه المعتبر، اتباع البيان النبوي لآيات القرآن لكماله وعصمته بعد ثبوت صحته، ليس في نماذجه الممثل بها، وإنما في تحديد روحه المنهجية ومحدّداته المعرفية الكامنة فيه، والسعي في سبيل الاسترشاد بها على الوجه المعتبر، لفقه بيان آيات القرآن. وكونه كذلك؛ فإنّ من أهم المقوّمات التي يتأسّس عليها البيان النبوي لآيات القرآن نذكر نموذجًا واحدًا من باب التمثيل، قصدَ تحديد مقوماته الكلية الأساسية، وهو ما يمكن التعبير عنه بمقوّم إزالة اللّبس عن آيات القرآن من داخله جمعًا وتوحيدًا وترتيلًا، وما يؤسّسه، هو ما رواه عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 83]، شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: «أيّنا لم يلبس إيمانه بظُلم». فقال رسول الله عليه السلام: (إنه ليس بذاك، ألم تسمع إلى قول لقمان لابنه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 12])[11].

يبيّن النصّ أن الصحابة زمن النزول قد أَشكل عليهم فهم آية سورة الأنعام؛ بوصفها تحدّد الشرط وما يترتب عنه من جزاء، فإذا لم يتحقّق الشرط –{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ}-لم يتحقّق بالتبع الجزاء -{أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}-، فأزال البيان النبوي الإشكال وسوء الفهم البشري منهجيًّا بربط آية الأنعام بآية سورة لقمان، فعلم الصحابة أنّ المقصود بالظلم في الآية ينصرف إلى ناظم الشرك العقدي بالمعنى الذي عهدوه زمن جاهليتهم قبل الإيمان بما جاء به الرسول عليه السلام. وهذا التعامل النبوي يحمل منهجًا واضحًا لبيان معاني آيات القرآن، ولُبّه أنّ القرآن إذا كان يتحدّد بكونه بيانًا وتبيانًا مُبينًا كما ثبت نصًّا فإنّ أُولى مناطات تحقق ذلك أنه بيان لذاته بذاته دون معينات خارجية محمّلة، أو هو كما تم تأصيله في الاجتهاد التراثي، أن القرآن يفسّر أو يشرح بعضه بعضًا؛ إِذْ ما أُجمل في آية فُصّل في أخرى، وما ورد عامًّا خُصّص، وما ورد مُشكِلًا حُدّد، وما ورد متشابهًا أُحْكِم، وهكذا دواليك[12].

ويدلّ المنهج النبوي في البيان على أن آيات القرآن وإن اختلفت سياقات ورودها وأزمنة نزولها، إلا أنها تفسر من خلال ما يُسمى بمنهج التوحيد أو الترتيل أو التفسير الموضوعي ونحو ذلك من الأسماء، بالنظر إلى الوحدة أو النسق البنائي لآيات القرآن، إلا أن أصول المنهج النبوي في البيان بعد زمن النزول، خصوصًا في أزمنة صراع التأويلات، التي أنشأتها التحوّلات الاجتهادية المذهبية، أو التفسير على أصول ومسلّمات المذهب، استبدل به منهج التفسير التجزيئي الذّري، الذي يجعل من آيات القرآن جزرًا مفصولٌ بعضُها عن بعض بلا وحدة ولا ناظم جامع بينها[13]، أو اعتماد المنهج الذي به يتم تسويغ المسبق كما يحدث في السياق المعاصر كثيرًا.

 الملاحظة الثانية: التفسير بالرأي؛ حدوده وجدواه المنهجية المعرفية:

بناءً على كون البيان النبوي الصحيح لم يتعلّق إلا بآيات معدودات من القرآن، فإن مقولة النهي عن تفسير القرآن بالرأي بإطلاق ليست معتبرة في الباب، وإن كان اجتهاد المتن التيمي كما سلف القول قد ضيّق دائرة النهي، إِذْ ربط النهي بحالة عدم العلم؛ بانتفاء الأهلية، جمعًا بين النهي الواحد في بعض الرويات الحديثية وكون السلف من الصحابة وغيرهم قد صدرت عنهم اجتهادات تفسيرية بالرأي، إلا أن هذا لا يصنع أي إشكال، وإنما موضع الإشكال النهي عنه بعلة أنه بالرأي أو بالعقل كما هو سائد.

ولبيان الأمر على وجهه، نفصّله وفق المسائل الآتية:

المسألة الأولى: من آثار مقولة النهي عن تفسير القرآن بالرأي:

تأسّس التفسير في تاريخه على مجموعة من المقولات، منها مقولة النهي عن التفسير بالرأي، حتى أصبح يذم الرأي في التفسير وغيره، ليس بعلّة انتفاء الأهلية أو انحراف القول التفسيري، وإنما بعلّة أنه اجتهاد عقلي، وهذا ما لا نجد له مستندًا صريحًا في النقل ولا اعتبارًا صريحًا في العقل، ولبيان بعض متعلقات هذا الأمر، نسوق الاجتهادات الآتية:

1. يقول محمد الطاهر بن عاشور في سياق بيان علل الوثوق في المنقول ولو كان غير صحيح، باعتبارها من أهم علل تأخّر الدرس التفسيري في تاريخه، ما نصّه: «الولع بالتوقيف والنقل اتقاء الغلط الذي عظموا -أي: أهل التفسير- أمره في القرآن، حتى قالوا: خطؤه كفر، زجرًا للعامة عن التطرّق إليه… فأصبح الناس يغتفرون فيه النقل ولو كان ضعيفًا أو كاذبًا، ويتّقون الرأي ولو كان صوابًا حقيقيًّا؛ لأنهم توهّموا أنّ ما خالف النقل عن السابقين إخراج للقرآن عما أراد الله منه، على أنه أكثر ما صح منه جارٍ مجرى التمثيل بجزئية… وكثير منه مكذوب…». وأما أحاديث النهي عن التفسير بالرأي فأغلبها مردود تُكُلِّم فيه -حسب تنصيص ابن عاشور-[14].

2. الولع بالنقل، واتقاء القول بالرأي في القرآن، جعل ابن خلدون يكشف الكثير من آثار منهج التقيد بالنقل والرواية في التفسير[15].

3. في نفس هذا السياق، نسوق أيضًا تنصيص ابن العربي في سياق الحديث عن التفسير بالرأي: «ليس في الوعيد على ذلك حديث صحيح… والرأي منه ما هو حقّ، ومنه ما هو باطل؛ فأما الحقّ فكلّ رأي يكون عن دليل، وأما الباطل ما كان عن هوى مجرّد»[16].

في نفس هذا السياق يمكن إدراج كلام الشاطبي، إِذْ نَصّ على أن إعمال الرأي أو النظر العقلي في القرآن، منه ما هو مذموم، ومنه ما هو ضروري، وأساس ذلك كلّه سلامة المنهج، مع العلم أنه رجّح التحذير منه، بالتوسّل بجملة روايات ومأثورات تراثية[17].

وعليه يمكن القول: إنّ مقولة النهي عن تفسير القرآن بالرأي المؤهل، بقدر كونها لا تتأسس على نصّ شرعي صحيح صريح في الباب، بقدر كونها أيضًا -وإن كانت من المنقول الساري في الفضاء التفسيري- ليست محلّ إجماع بين أهل التأسيس. وبهذا الاعتبار تفتقد جدواها المنهجية والمعرفية لكونها ليست خالية من الاعتراضات.

 المسألة الثانية: من موجبات القول بالتفسير بالرأي المستند إلى الأهلية المعتبرة:

إنّ القول في التفسير يتميّز بخصوصية؛ نظرًا لتعلّقه بالقرآن، إلا أنه على الرغم من هذه الخصيصة للقول التفسيري في هذا المجال، لا يوجب ذلك النأيَ عنه والتعلّق بالمأثور، الذي أغلبه لم يصح، أو مردود تُكلم فيه. وهذا الأمر بدوره لا يقتضي التفسير بالرأي بدون علم معتبر في الباب. وبين الإطلاق والتقييد تتحدّد ماهية التفسير بالرأي. ومن أهم موجباته؛ سواء في هذا السياق التفسيري، أو في أي سياق آخر، نسوق ما يأتي:

 1. كون البيان الكامل الصحيح الصادر عن رسول الله -عليه السلام- قليل في علاقته بآيات القرآن؛ سواء كان مرفوعًا أو مقطوعًا أو موقوفًا، إِذْ لو وُجِدَ لما جاز لأحد تجاوزه بأي علة أو ذريعة. والمقصود هنا بالبيان البيان الصريح؛ سواء كان قولًا أو فعلًا ونحوهما.

2. منذ البدايات الأولى للتفسير في عند الصحابة والتابعين وتابعيهم، مرورًا بمختلف أزمنة التأسيس التفسيري، كان أغلب التفسير يقوم على الرأي، وعلامة ذلك كثرة الاختلافات التفسيرية في الآية الواحدة بين المفسّرين؛ سواء كانوا من مذهب واحد، أو من مذاهب مختلفة، وبالأحرى إن كانوا في سياقات مختلفة.

3. إن الوجود الإنساني هو سيل لا يتوقّف من الإشكالات والمشكلات في مختلف مجالات الحياة؛ سواء كانت متعلّقة بالعالم الإسلامي، أو بالعالم الإنساني، يفرض الأمر تقديم الجواب الإسلامي، ما دام أنّ الإسلام رسالة إلى الناس. ومن أهم مداخل إيجاد وتقديم الجواب =الاجتهادُ. ولا شك أن من بين عُمد الاجتهاد إدامة استعمال العقل في آيات القرآن تدبرًا، بوصف ذلك من أهم أبوابه.

 4. من أهم الفرائض التي شدّد القول عليها القرآن استعمالُ العقل، بألفاظ وتعابير متعدّدة، كلفظ التدبّر والنظر والتعقّل، ونحو ذلك بأساليب وصيغ متعددة. ونفس الأمر في السُّنّة النبوية، وعلامة ذلك حديث رسول الله -عليه السلام- مع معاذ بن جبل، لما أرسله قاضيًا إلى اليمن، فضلًا عن قوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الذي أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن: (…ولا يَخْلَقُ على كثرَة الرَّد…)[18].

5. التقيد بالنقل وحده دون صِنوه يُفضي إلى التعلّق بالضعيف والموضوع وعموم ما لم يصح، بدعوى أنه نقل، ونفي الاعتبار عن الأنظار الاجتهادية، بدعوى أنها بالرأي، يترتب عنه آفات شتى، كما أشار إلى ذلك ابن خلدون والطاهر بن عاشور وغيرهما، وعلامة ذلك الجمع التفسيري الذي هو عبارة عن حَطْبِ ليل.

وعليه؛ فإن الصنو الملازم للنقل، هو العقل، إِذْ إن الواحد منهما ينبني عليه الآخر، وإن كان النقل الصحيح في مقام الأصل المقدّم، في حين أنّ العقل في مقام الفرع التابع، درءًا لطغيان العقل، لئلا يتجاوز حدوده.

المسألة الثالثة: من حدود وعلامات النهي عن التفسير بالرأي:

 إذا كان الغالب على التفسير أنه قول اجتهادي، كما هو ظاهر في تاريخ التفسير، باستثناء إذا كان تفسيرًا للقرآن بالقرآن، أو كان تفسيرًا بالبيان النبوي؛ سواء عُبّر عنه بالرأي أو بالعقل أو بالنظر وغير ذلك، فبقدر ما له حدود لا يتعدّاها، له أيضًا علامات دالة على اعتباره في الباب أو عدم اعتباره، خصوصًا في كونه يتعلق بالقرآن.

1. حدود النهي عن تفسير القرآن بالرأي:

إنّ الناظر في القرآن والسنة الصحيحة يجد أنّ القول في التفسير يتعيّن أن يتحدّد بحدود، لئلا يكون مرسلًا بلا قيد، وباعتبار النظر العقلي فالتفسير مهما ارتقى فهو محدود، وأبرز ما يرسم حدوده ألا يتجاوز ما فوق طوره، وهو طور الغيب، إِذْ يستند في معرفته عن الخبر عن الله ورسوله. فيكون بالتبع كلّ نظر تفسيري فيما فوق إدراكه من الغيب علامة على فساده، كونه تجاوز طوره، وليس النهي عن التفسير بالاجتهاد العقلي في حدّ ذاته، خصوصًا في حال توفّر أهلية النظر، ولبيان هذا الأمر، نستدلّ بما يلي:

أ. أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- هذه الآية: يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، ثم قال: (فإذا رأيتِ الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى الله، فاحذروهم)[19].

إنّ التحذير النبوي لا يتعلّق بالنظر في آيات القرآن بوصفها محلّ النظر بالأصل، وإنما إلى النظر العقلي الذي تقحَّم ما هو فوق طوره، ولا يستند في ذلك إلى أيّ دليل من القول الشرعي الصحيح الصريح، فيكون بالتبع قوله بغير علم ولا دليل في الباب. ومعيار كونه من فوق طور العقل أنه من المتشابه الذي يُعيي العقول، وهو في الآية كلّ ما يتوقف فيه الراسخون في العلم ويتبعه الذين في قلوبهم زيغ، إِذْ يعلمون عدم قدرتهم على تأويله أو فهمه فيتذكرون، إِذْ إنهم من أولي الألباب، أما من يدّعي من الجاهلين قدرته على تأويله وفهمه، فذلك علامة على مَنْ في قلبه زيغ، أو من جُعل على قلبه غلاف[20].

ب. أخرج البخاري عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس أحد يُحَاسَب إلا هلك). قالت: قلتُ: يا رسول الله جعلني الله فداءك، أليس يقول الله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 7-8]؟! قال عليه السلام: (ذاك العرض يعرضون، ومن نُوقش الحساب هلك)[21].

إنّ القصد الكلي من ترتيب الرسول -عليه الصلاة والسلام- الهلاك على نقاش الحساب، هو جعل نظر العقل يتحدّد بطوره، وهو عالم الشهادة بأحداثها ووقائعها، أو قل آيات الأنفس والآفاق؛ بحيث كلّما تجاوز العقل طوره أفضى به ذلك إلى عدم تحقيق أي نسبة من نسب اليقين المعتبرة، ويكون بالتبع هلاك العقل في ما يترتب عن ذلك، خصوصًا لما يحصر الإنسان الوجود في الإدراك، وذلك هو في حقيقته الوهم الأكبر.

 2. من علامات النهي عن التفسير بالرأي:

 تدرج عموم علامات التعرّف على التفسير بالرأي المنهي عنه في التمييز بين التفسير الصحيح من غيره. وقد أورد المتن التيمي -كما سلف القول في المقالة الأولى- مجموعة علامات متعلقة بالتفسير بالرأي المنهي عنه، نورِد في هذا السياق بعضًا منها للاستدلال على أن التفسير بالرأي ليس منهيًّا عنه في حَدّ ذاته، وإنما لكونه لم يستوفِ شروط أهلية النظر، ليكون التفسير معتبرًا، ومن ذلك:

 أ. كونه تأسّس على غير علم معتبر في باب التفسير، إِذْ قد بلغ أمر القول بالعلم مبلغ القطع في نصوص الشرع الحكيم، كما دلّ على ذلك الاستقراء. وعموم الأنظار المنحرفة والأوهام الضالة في التفسير ناشئة في الغالب عن غير علم معتبر في الباب. ولا شك أن الجهل منشأ لكلّ آفة منهجية معرفية في تاريخ النظر التفسيري.

 ب. كونه لم يتقيّد بالهدى المنهاجي المبثوث في آيات القرآن، إِذ القرآن ليس مجرّد آيات مبثوثة في سور، وإنما هو أيضًا محدّدات منهجية، يتأسّس على هُداها معالم منهجية موجهة للنظر في آياته، ومن بين تلك المحددات: محدّد الإحكام، محدّد الحفظ، محدّد الإكمال، محدّد نفي الاختلاف، محدّد التيسير، ونحو ذلك.

ج. كونه يفضي إلى تعطيل وإلغاء منصوص آيات القرآن، وذلك من خلال إخراجه عن ما أراد الله تعالى به، إِذْ إن بيان مراد الله من قوله يتوقف على أصل البيان النبوي الصحيح إن وُجد، أو إجماع الأمة على قول محقّق، أو كون النظر يُستند في بنائه إلى القول العلمي أو الاستدلال المحقّق، وإلا أدخلت آيات القرآن في نفق التلاعب بها دلالة وحكمًا، كما جرى في التاريخ الإسلامي مع الباطنية وغيرهم، ويجري اليوم في فضاء إعادة التفسير والقراءة[22].

د. كون المعنى التفسيري صِيغَ وفق أصول ومنطلقات المذهب المستحدَث، إِذْ إن الغالب على تفسير القرآن على مقرَّرات المذهب أن المفسِّر المذهبي تجده ينسف الآية القرآنية عن نَسقها البنائي وسياقها الكلي والجزئي، ويحوّلها وكأنها أُنزلت وفق مقرّر المذهب؛ سواء كان المذهب كلاميًّا أو فقهيًّا أو غير ذلك؛ فيتحوّل القرآن بالتبع إلى مسوِّغ لمقرَّرات المذهب المستحدث، الأمر الذي يُفقد القرآن دوره الذي أنزل من أجله، خصوصًا كونُه معيارًا أعلى. ويعدّ ذلك علامة على فساد القول التفسيري، بصرف النظر عن إسناده، ما دام أنه عكس قانون النظر، إِذْ بدل أن يكون القرآن هو الحاكم والمهيمن على الأنظار التفسيرية صحةً وانحرافًا، أصبح معنى القرآن يتحدّد وفق مقررات وأصول المذهب.

وعليه؛ يكون مدار النهي عن التفسير بالرأي ليس مردُّه إلى علّة كونه بالرأي والاجتهاد، إذ الاجتهاد في الإسلام بلغ مبلغ الوجوب لتضافر الأدلة في الباب، وإنما علة النهي كونُه عبارة عن رأي مجرّد لا يقوم على أساس معتبر في الباب، ليس بالنظر إلى التضييق على النظر العقلي المجرد، فهذا له أبواب عديدة، تعدّد مجالات الحياة، وإنما بالنظر إلى كون مجاله القرآن، الذي هو بالأصل نصّ تعبد وتكليف. فالتجرّد عن السند المعتبر في باب تفسير القرآن هو مناط تعلّق النهي؛ لذا يكون المفسّر للقرآن مفسرًا بغير علم، ولو صح تفسيره هو في منزلة التفسير الخطأ؛ لكونه نشأ عن غير علم في القرآن أساسًا.

الملاحظة الثالثة: تحرير النظر في موجِبات عدم مخالفة السلف في تفسيرهم لآيات القرآن:

اعتبر ابن تيمية -كما سلف القول في المقالة الأولى- أن تفسير السلف، خصوصًا من الصحابة الذين اشتُهروا بالتفسير، يجب التقيّد به إذا صحّ؛ لأن النفس إليه أسكن من سواه، بعلة احتمال سماعه من الرسول -عليه السلام- أو ممن سمعه منه -أولًا-، ولكون النقل عن أهل الكتاب في زمنهم أقلّ مما سيحدث في زمن التابعين وغيرهم -ثانيًا-، ولأنهم أدرى وأعلم الناس بالتفسير من غيرهم، لأنهم شاهدوا أحوال النزول زمن النبوّة -ثالثًا-، وأن اختلافهم في التفسير كان اختلاف تنوّع، إِذْ هو راجع إلى كونه من باب التعريف بالمثال أو تقريب المعنى أو التعبير بألفاظ متقاربة -رابعًا-، وأن اختلاف التضاد في التفسير، ومن صوره تفسير القرآن على المذهب، نشأ بعد عهدهم -خامسًا-. لذا، فإن من بين موازين معرفة صحيح التفسير من غيره الرجوع إلى أقوال الصحابة في التفسير. فهذه المنطلقات وغيرها التي انطلق منها الاجتهاد التيمي، لا شك أن بعضًا منها صحيح، ولا تكاد تجد من يخالف في ذلك، بوصفه من الحقائق الظاهرة، والبعض الآخر منه لا يُسلَّم للمتن التيمي بصحتها وبجدواها المنهجية والمعرفية دون اعتراض.

ولبيان هذا الأمر على وجهه، وإن من باب الاقتضاب، نتناوله وفق المسائل الآتية:

المسألة الأولى: إعادة النظر في مقوّمات بناء تأسيس الاجتهاد التيمي:

إنّ القصد من إيراد بعض الاعتراضات على تأسيس الاجتهاد التيمي ليس من باب رفض أو الطعن في تفسير الصحابة رضي الله عنهم، فهو -إن صح- معتبرٌ في الباب بلا ريب، وإنما من باب فحص النظر وتقدير الأمور حقَّ قدرها على وجهها المعتبر، ومما نسوقه في هذا السياق لتحقيق ذلك، ما يلي:

 1. إنّ تفسير الصحابي لآية قرآنية ما، إذا ثبت أنه نقلٌ عن النبي -عليه الصلاة والسلام- وصحّ، فلا إشكال في الأمر بتاتًا. ونفي الإشكال المنهجي والمعرفي عنه ليس لكونه نقله الصحابي، وإنما مردّه إلى كونه بيانًا نبويًّا، الذي تحتفُّ به العصمة والتنزه عن الخطأ، ما دام أنه مأمور نصًّا بالبيان؛ سواء كان بيانًا قوليًّا أو فعليًّا ونحوهما، أو لا لكونه تفسيرًا اجتهاديًّا، إِذْ للصحابة تفسيرات اجتهادية كثيرة، ولا تنسب العصمة لقول أو نظر أحد من الناس كائنًا من كان غير النبي عليه السلام، كما هو مقرّر في أصول الفكر الإسلامي، باستثناء قول الشيعة.

 2. كون الصحابة لم يتعرّفوا على معهود أهل الكتاب ليس على وجهه، إِذْ قد ثبت في الصحيح، فضلًا عن ما أورده المتن التيمي أنّ الصحابة تعرّفوا عليه زمن الفتوحات الأولى، بل إنهم تعرفوا عليه زمن النبوّة والنزول[23]، إِذْ إن البعض من أهل الكتاب -خصوصًا من اليهود- آمنوا بما جاء به -عليه السلام- زمن النزول، وتأثير ذلك عليهم -وإن كان بكلّ تأكيد أقلّ مما سيحدث بعد- إلا أنه متحقّق في زمنهم بلا ريب[24].

 3. كون الصحابة اختلفوا في تفسير بعض الآيات، وهذا لا ينقص من قدرهم، فلا يطعن في محصولهم التفسيري، بالنظر إلى عوامل نشوء الاختلاف التي كانت بينهم، نظرًا لطبيعتهم البشرية؛ فبعضُهم كان أحفظَ للقرآن والسُّنَّة من بعض، وبعضُهم كان أكثرَ ملازمة للرسول -عليه السلام- من بعض، وبعضهم كان أوسعَ إدراكًا وأعمقَ نظرًا من بعض، وهكذا. وهذا عام لكلّ الناس بحكم الخَلق وناظم الوجود. والاختلاف بينهم في التفسير دالٌّ على أنه إمكانٌ اجتهادي، ولا يتعلّق الإلزام بإمكان اجتهادي واحد، إلا في حالة كونه ثبت عليه الإجماع لاحقًا، أو كونه ظهرت صحته ومصداقيته، ومعايير ذلك متعدّدة، أهمها موافقة خصوصية القرآن.

 4. إنّ أغلب تفسيرات الصحابة -بشرط عدم استنادها إلى البيان النبوي، بطريق مباشر أو غير مباشر- بقدر كونها اجتهادية ترجع إلى استعمال الرأي، بقدر كونها كانت عبارة عن تفسير بألفاظ متقاربة لبناء المعنى.

 أ. مما يدلّ على كون أغلب تفسيرات الصحابة إن صحت عنهم تُعَدّ من باب الاجتهاد والتفسير بالرأي، كون البيان النبوي الصحيح الصريح قليل، وكون تفسيراتهم كانت منبثقة عن معهود الكلام العربي وتفسير آيات القرآن به، ودليل ذلك أغلب تفسيرات عبد الله بن عباس (ت:68هـ)، خصوصًا في محاورة نافع بن الأزرق (ت:65هـ) معه في مكة، كما سنمثل لذلك فيما يأتي.

ب. مما يدلّ أن أغلب تفاسير الصحابة كانت عبارة عن تفسير اجتهادي التوسّل بالتفسير اللفظي اللغوي، القائم على تحديد معاني المفرادات بمفردات أو تركيباته بأخرى؛ سواء تم أخذها من المعهود العربي السابق، أو كان مردّها إلى الاجتهاد اللغوي اللاحق لزمن النزول، مما ساهم في تأسيس منهج التفسير التجزيئي، منذ البدايات الأولى لتشكّل ملامح التفسير في تاريخ الفكر الإسلامي.

المسألة الثانية: من النماذج الدالة على أن تفسير الصحابة كان اجتهاديًّا لغويًّا إمكانيًّا في الغالب:

للتدليل على هذا الأمر، نُورِد في هذا السياق بعضَ ما يدلّ على ذلك، مع بيان أنها غير منسجمة مع السياق النصّي الترتيبي التوقيفي وروح النصّ القرآني، بعلّة كونها اجتهادية مستندة على المعهود العربي السابق على نزول القرآن، كما نبين المسألة أكثر في الملاحظة الموالية، مما يدلّ على ذلك، ما ورد في مسائل ابن الأزرق أجاب ابن عباس عن معنى قوله تعالى: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء: 16]، (أمَرنا) بمعنى «سَلّطنا»، بدليل قول لَبيد:

إن يغبطوا ييسروا وإن أمروا *** يومًا يصير الهلك والفقد

وبناء عليه، فإنّ الناظر في سياق ونفَس الآية، يجد أن معنى «سلَّطنا» لا يستقيم تفسيرًا لـ(أمرنا)، بالنظر إلى العلامات الآتية:

أ. إنّ النصّ بسياقه السابق واللاحق يتناول ما يتعلّق بالقوانين القدرية الوجودية الإنسانية وفق سنن الله تعالى، بصرف النظر عن طبيعة وخصوصية المجتمعات الإنسانية؛ يقول تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].

ب. إن مختلف سنن الله تعالى في الكون المتعلقة بالقوانين القدرية الوجودية الإنسانية تتحقّق بناظم قوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 28]. وقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10]. بدليل قوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]. وقوله سبحانه: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 54]. وقوله أيضًا: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]. وقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 17].

ج. إنّ إهلاك الله تعالى للأمم والحضارات الإنسانية بما هو قدري وجودي، يتعلّق دومًا بمفهوم السببية القائمة على فعل الإنسان الاختياري الذاتي فردًا وجمعًا، ولا يتعلّق إطلاقًا بالإهلاك الجبري من قِبَل الله تعالى دون سبب موضوعي موجب.

د. إنّ تفسير (أمرنا) بـ«سَلَّطْنَا» بوصفه تأسيسيًّا، هو الذي أوقع بعض الأنظار التفسيرية في آفتين؛ الأولى: أنها جعلت آية الإسراء من قسم القدر التكليفي الديني الشرعي، في حين إنها من قسم القدر الكوني الوجودي الإنساني. الثانية: أن الإصرار على ذلك الفهم قد ألجأها إلى المغالاة في التقدير ليستقيم معنى الآية، وهو: «أمرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا فيها»، ربطًا للآية بآية سورة النحل، وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، بعلة أنّ الله لا يأمر بالفحشاء والمنكر، ولا شك أن الفسوق من المنكر، مع العلم أنه لا داعي إلى اللجوء إلى التقدير، بدليل أن آية الإسراء من القدر الوجودي الكوني الخلقي، في حين أنّ آية النّحل من القدر التكليفي الشرعي التعبدي، حسب التقسيم المنهجي السائد عند مجموعة من النُّظّار، كابن القيم الجوزية (ت:751هـ)[25].

هـ. إنّ من أهم متجليات النّفَس والنسق العام للقرآن، أنّ الفعل الإنساني التكليفي المسؤول عنه والمحاسب عليه من قِبَل الله تعالى، يتحدّد في الغالب بناظم الاختيار الحر الذاتي الواعي لا بأي أمر آخر.

 وعليه؛ فقد ظهر لك أن تفسير آيات القرآن باتباع المنهج اللغوي الصّرف، القائم على مقابلة مفردة أو تركيب بآخر من خارجه ونحو ذلك؛ سواء أخذت من نصوص معهود الكلام العربي أو من مطلق الاجتهادات التفسيرية؛ لا يستقيم وسياق ونَفَس آيات القرآن، وإلا لما كان للنظام الترتيبي التوقيفي الموضوعي أيّ معنًى معتبر. وليس القصد أبدًا من إيراد ما سبق الوَلَعُ بمخالفة المعهود التفسيري، وإنما القصد الأول ردّ الاعتبار لخصوصية القرآن؛ وذلك من خلال أن يتم تفسير آياته بمعهودها، القائم على مراعاة نظام سياقه الترتيبي التوقيفي الموضوعي، وكذا مراعاة الخصوصية والنّفَس الداخلي العام والخاصّ.


[1] المقالة الأولى على هذا الرابط: tafsir.net/article/5358.

[2] حدّد الشافعي مفهوم (البيان) بقوله: «اسم جامع لمعانٍ مجتمعة الأصول، متشعبة الفروع». الرسالة، (ص59). ويعرّف الجرجاني (البيان) بقوله: «عبارة عن إظهار المتكلم المراد للسامع»، وهو باعتبار الإضافة، قسمه إلى: «بيان التفسير»، وهو: «بيان ما فيه خفاء من المُشترك، أو المُشكل، أو المُجمل، أو الخفيّ»، ويتحقق هذا النوع بـ«البيان النبوي» في علاقته بآيات القرآن. التعريفات، (ص36). وعرّفه الجاحظ بقوله: «البيان اسم جامع لكلّ شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجب دون الضمير حتى يُفضي السامع إلى حقيقته ويهجم على محصوله كائنًا ما كان ذلك البيان ومن أي جنس كان ذلك الدليل؛ لأن مدار الأمر والغاية التي يجري إليها القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام، بأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع». البيان والتبين، ت: درويش جويدي، المكتبة العصرية، بيروت، لبنان، ط1، 2010، (ص56). وعُرّف في المسودة بـ: «إظهار المعنى وإيضاحه للمخاطب مفصلًا مما يلتبس به ويشتبه به»، أو هو: «إخراج الشيء من الإشكال إلى التجلي». المسودة في أصول الفقه، آل تيمية، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، (ص572).

[3] مقدمة التفسير، (ص248-251).

[4] المقدمة، (ص420-421).

[5] فجر الإسلام؛ يبحث في الحياة العقلية في صدر الإسلام إلى أواخر الدولة الأموية، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 2004، (ص190-193). وهو نفس ما ذهب إليه الشافعي، باعتبار تعذّر الإحاطة المطلقة للإنسان باللسان العربي ونحوه. الرسالة، (ص79-80).

5 الرسالة، (ص77،81-84)، الموافقات في أصول الشريعة (1/ 49-50)، تأويل مشكل القرآن، (ص74-82)، المسودة في أصول الفقه، (ص174). في مقابل هذا المسلك يؤكد الباقلاني أن أهل الولع بتفسير القرآن باللسان العربي، جعلهم كما يقول: «يعدِلونه بالأشعار، ثم لم يلبثوا أن يفضلوها عليه». انظر: إعجاز القرآن، ت: السيد أحمد صقر، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط5، 1995، (ص 4-5).

[7] بدع التفاسير، عبد الله الصديق الغماري، دار الرشاد، الدار البيضاء، المغرب، 1986، (ص12). أليس الصبح بقريب، (ص163).

[8] الرسالة، (ص72-132). وهو نفس ما أورده الشاطبي؛ الموافقات، (4/ 5-6).

[9] أكثر الشافعي في الرسالة، وكذا الشاطبي في الموافقات، من ذكر الأمثلة الدالة على ذلك. ونظرًا للتكامل البياني بين آيات القرآن، أطلق طه جابر العلواني على آيات القرآن -من باب التحديد المنهجي- وصف (الوحدة البنائية)، إِذْ بفضلها كما يقول العلواني: «من المحال أن يقع في القرآن تضارب أو اختلاف أو نسخ أو تعارض، وأن كلماته بل وحروفه لا يمكن أن تكون ميدانًا للتأويلات الشاذة المتضاربة، إذا تُلي حقّ تلاوته، فمفرداته منضبطة في دلالاتها انضباط النجوم في مواقعها من السماء. ومن هنا نستطيع أن نبيّن أن الرزّية الأولى كانت حين تم إسقاط أحكام اللسان العربي البشري المتداول على القرآن». انظر: معالم في المنهج القرآني، دار السلام، القاهرة، مصر، ط1، 2010، (ص86-87).

[10] علمًا أنه ليس وقفًا على النُّظار في تاريخ الفكر الإسلامي، وإنما يتعلق أيضًا بغيرهم، إِذْ في السياق اليهودي مثلًا تجد أن اسبينوزا (ت:1677م) يعرّض كثيرًا من باب النقد بالاجتهادات التأويلية بموسى بن ميمون (ت:601هـ)، إِذْ يرى أن منهج ابن ميمون في مصنفه (دلالة الحائرين) في دراسة النصّ التوراتي «لا فائدة منه على الإطلاق»، إِذْ إنه يقضي تمامًا على «الثقة في فهم المعنى الحقيقي للكتاب». فمسلك ابن ميمون من منظور اسبينوزا في تأويل التوراة (مرفوض، فاسد، ممتنع، لا فائدة منه) ونحو ذلك من الأحكام المطلقة. انظر: رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم: حسن حنفي، مراجعة: فؤاد زكريا، دار التنوير، بيروت، لبنان، ط2008، (ص250-253).

[11] صحيح البخاري، كتاب التفسير، حديث رقم (4776).

[12] أو ما سماه حسن الترابي (ت:2016م) بمنهج (التفسير التوحيدي)، القائم على مراعاة الوحدة القرآنية البنائية النسقية. انظر: التفسير التوحيدي، دار الساقي، بيروت، لبنان، ط1، 2004، (1/ 15-30)، الوحي والإنسان نحو استئناف التعامل المنهاجي مع الوحي، أحمد عبادي، القاهرة، مصر، دار النيل، 2013، (ص31-36).

[13] لبيان آثار هذا المنهج، انظر: قضايانا على ضوء الإسلام، محمد حسين فضل الله، دار الملاك، بيروت، لبنان، ط7، 1996، (ص165-174). المقاصد الكلية للشرع ومناهج التفسير، حسن جابر، مؤسسة الفرقان، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، القاهرة. مصر، ط1، 2007، (ص19-24).

[14] أليس الصبح بقريب، (ص161-163).

[15] المقدمة، (ص420-422).

[16] قانون التأويل، دراسة وتحقيق: محمد السليماني، دار الغرب الإسلامي، تونس، ط2010، (ص366).

[17] الموافقات في أصول الشريعة، (3/ 315)، وما بعدها.

[18] سنن الترمذي، فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن، حديث رقم (6906).

[19] صحيح البخاري، كتاب التفسير، حديث رقم (4547).

[20] خصوصًا عندما يُنفى بدعوى أنه لم يدرَك عقلًا، أو أنه يقدره بتقديره العقلي، فينفِي مقصده وأثره. يقول ابن خلدون في هذا السياق: «ولا تثِقنّ بما يزعم لك الفكر في ذلك-الغيب-. واعلم أن الوجود عند كل مدرك في بادىء رأيه منحصر في مداركه لا يعدوها، والأمر في نفسه خلاف ذلك، والحق من ورائه… وكل طمع في إدراك ما وراء طوره-العقل-، فإن ذلك طمع في محال… لكن للعقل حدّ يقف عنده ولا يتعدى طوره». مقدمة ابن خلدون، (ص441-442)، «وذلك أن مدارك صاحب الشريعة أوسع لاتساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقلية، فهي فوقها ومحيطة بها لاستمدادها من الأنوار الإلهية، فلا تدخل تحت قانون النظر الضعيف والمدارِك المُحاط بها. فإذا هدانا الشارع إلى مُدرك، فينبغي أن نقدّمه على مداركنا ونثق به دونها، ولا ننظر في تصحيحه بالعقل ولو عارضه، بل نعتقد أن ما أمرنا به اعتقادًا وعملًا، ونسكت عمّا لم نفهم من ذلك ونفوضه إلى الشارع ونعزل العقل عنه». مقدمة ابن خلدون، (ص493).

[21] صحيح البخاري، كتاب التفسير، حديث رقم (4939).

[22] كما بيّن بعض ذلك الغزالي في مصنفه: فضائح الباطنية.

[23] سبق أن أوردنا بعض ما يدلّ على ذلك في المقالة الأولى.

[24] مقدمة، ابن خلدون، (ص421-422).

[25] شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ت: إدريس الجويدي، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، لبنان، 2005، (ص389).

(المصدر: مركز تفسير للدراسات القرآنية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى