اجتهاد ابن تيمية التأسيسي لأصول منهج علم التفسير من خلال مقدمته في أصول التفسير عرض وتقويم (2-1)
بقلم محمد كنفودي
مقدمة:
يُعَدّ (علم التفسير) من أول العلوم الإسلامية الأصيلة في تاريخ الاجتهاد الإسلامي؛ لاتصاله بالقرآن الحكيم، قصد بسط وبيان دلالاته ومعانيه التي ينبني عليها أمر التكليف التعبّدي الشرعي؛ سواء تعلّق بالأصول الكلية أو بالفروع الجزئية. ولهذا نشأ الاهتمام بتفسير القرآن مبكرًا في التاريخ الإسلامي، إِذْ خضع لتطوّر جلي، وما زال الاهتمام به متواصلًا في مختلف الحِقَب والسياقات، بصرف النظر عن سلامة وانحراف منهج نظر التفسير.
وليكون النظر التفسيري أسلمَ منهجيًّا ومعرفيًّا لاتصاله بآيات القرآن، توالت الأنظار الاجتهادية في مختلف فضاءات العلوم الإسلامية بتأسيس ما يعصم النظر التفسيري عن التقويل والتحكّم، إذ الزّلل يعظُم أثره وضرره باتصاله بموضوع النظر. ولتحقيق هذا المبتغى العالي، توالت الاجتهادات التأسيسية لبناء منهج علم التفسير، باعتباره مجموعة أصول وقواعد وضوابط يتحقّق بواسطتها التفسير الأمثل لآيات القرآن. وهذا العلم بصرف النظر عن الاصطلاح الذي أُطلق في مراحل المتقدّمين أو المتأخرين، لُبُّه الأساسُ وضعُ منهج لتفسير القرآن؛ لئلا يُحَرَّف عن مواضعه، بالنظر إلى أن قيام التكليف والتعبّد منوط به صحةً وانحرافًا، إِذْ يقوم أساسًا على معاني آياته. علمًا أن تحقّق هذه المهمّة منوط بالرسول عليه الصلاة والسلام؛ لكونه هو المأمور بالبيان، إلا أن البيان النبوي الثابت عنه قليلٌ، الأمر الذي يوجب تكثير الاجتهادات في التحقق من صحة البيان النبوي، وتحقيق التفسير الذي ينبني عليه التعبد التكليفي.
في سياق تاريخ التفسير، تولّى نُظَّارٌ كُثُر وضعَ عُدّة التفسير المنهجية؛ سواء أطلق عليها من باب الوصف تحديدًا (علم التفسير)، أو (ضوابط التفسير)، أو (مقدمات التفسير)، أو (مداخل التفسير)، أو (آليات التفسير)، أو (أصول التفسير)، أو (قواعد التفسير) ونحو ذلك[1]؛ بحيث إن حيثية التفسير تقوم أساسًا على تحديد وبناء المعنى[2].
وقد بدأ الاهتمام بوضع البذور الأولى لمناحي النظر التفسيري منذ عهد الصحابة، مرورًا بمختلف مصنّفات علم الكلام والأصول والفقه والتفسير واللغة والبلاغة ونحوها من العلوم الإسلامية الأصيلة، وصولًا إلى المرحلة الحديثة والمعاصرة مع اجتهادات أهل تجديد التفسير وإعادة القراءة، بصرف النظر عن مرجعياتهم ومنطلقاتهم ومناهجهم ومقاصدهم في تحقيق مبتغَى التفسير والقراءة[3].
ومن الذين أسهموا في بناء منهج التفسير في تاريخ التفسير في الحِقبة المتقدمة، ابنُ تيمية (661-728هـ)، في مصنفه الموسوم بـ: (مقدمة التفسير)[4]، والذي تتولى المقالة الأولى من هاتين المقالتين، بيان معالم اجتهاده التأسيسي في وضع أصول منهج علم التفسير، لتحديده ودراسته.
ويكون اشتغالنا على المتن التيمي قائمًا على المرتكزات الآتية:
1. نركز البحث في المقالتين على ما يتّصل بالجانب المنهجي، باعتباره يعكس المقوّمات الكلية لمنهج نظر التفسير، عرضًا أو نقدًا.
2. نورد في المقالة الأولى الأصول أو القواعد الكلية التي اعتمدها الاجتهاد التيمي، باعتبارها قِوام أصول منهج التفسير، مع بيان معالم البناء التأسيسي لابن تيمية.
3. إنّ جملة من أصول منهج التفسير ليست من الوضع التيمي، إِذْ سبق وضعُها قبله من قِبَل نظّار كثر، إلا أن ما يهمّنا ليس إيرادها في سياقها التاريخي، وإنما بيان النظر التيمي فيها؛ سواء عن طريق الأخذ الجاهز، إذا سَلِمَتْ من الاعتراض من المنظور التيمي، أو النقد إذا تخلّلتها الاعتلالات المنهجية والمعرفية، أو إعادة تأسيسها من جديد، لتكون فاعلة في النظر التفسيري الصحيح.
نقصر المقالة الأولى على العرض الموضوعي، والتي نركّز فيها على بيان أهم مقوّمات ومحدّدات أصول منهج علم التفسير من منظور ابن تيمية في الكتاب السالف الذِّكْر. يقصد بالعرض الموضوعي-الدراسة التحليلية التركيبية؛ تقديم اجتهادات ابن تيمية المتعلّقة بهذا الموضوع من خلال كتابه محطّ النظر، وهو (مقدمة التفسير)، بعيدًا عن أيّ تسويغ لجاهز القول المسبَّق أو التقوّل أو التأويل المُفرط أو التحكّم، عرضًا نسقيًّا من باب الإحاطة الممكنة بمنظور اجتهاداته منهجيًّا ومعرفيًّا، ونتناول من خلاله العناصر الآتية:
أولًا: مقدمات أوّلية بين يدي بيان معالم الاجتهاد التيمي التأسيسي لأصول منهج علم التفسير:
نورِد مجموعة من المحدّدات التي رسمت منظور التأسيس التيمي لهذا الموضوع، ونسوقها على سبيل الاختصار والإجمال، على اعتبار أننا نتخذ منها موادَّ أساسية تشكّل قِوام عرض المنظور التيمي لهذا الموضوع، ومنها:
1. تناول ابن تيمية لوضع (قواعد كلية) في التفسير لم يأتِ عرضًا أو مقصودًا بالتّبع، وإنما ورد أصالة بالقصد الأول، وذلك يظهر في بيان سبب تأليف مقدمة التفسير: «أن أكتب مقدمة تتضمن قواعد كلية تُعِين على فهم القرآن، ومعرفة تفسيره ومعانيه»، «وقد كتبتُ هذه المقدّمة مختصرة، من إملاء الفؤاد»[5]، فضلًا عن استعمال مفهوم (أصول العلم) في سياق بيان معالم منهج النظر في تحقيق أسباب الاختلاف في التفسير[6].
2. النظر التيمي في هذا الباب محمول على (التأسيس) وليس على مجرد (الإعادة)، وهما معًا بمعنى تحديد الشريف الجرجاني في قوله: «التأسيس عبارة عن إفادة معنى آخر لم يكن أصلًا قبله، فالتأسيس خير من التأكيد؛ لأن حمل الكلام على الإفادة خير من حمله على الإعادة». أما «التأكيد تابعه يقرّر أمر المتبوع في النسبة أو الشمول، وقيل: عبارة عن إعادة المعنى الحاصل قبله»[7].
3. ما يعزّز ما سبق، أن ابن تيمية قصد من خلالها وضع (قواعد وأصول علم التفسير) إلى تحقيق جملة مقاصد منهجية ومعرفية، وهي قائمة على تأصيل نظري محكم، وليس على الاعتبارات الذاتية، ومنها:
أ. التمييز في منقول ومعقول التفسير بين (الحقّ المبين) و(أنواع الباطل الواضح)؛ بالنظر إلى أن معيار القول في العلم، (إما نقل مصدّق عن معصوم) عليه السلام، وإما (قول عليه دليل معلوم)، وما سواهما، (إما مزيف مردود)، وإما (موقوف لا يعلم)[8].
ب. كون كتب التفسير (مشحونة بالغث والسمين والباطل الواضح والحقّ المبين)[9]؛ سواء تعلق الأمر بالمنقولات، خصوصًا عن أهل الكتاب أو مما لا يصح من الأخبار، أو التأويلات المنحرفة القائمة على تفسير القرآن على المذهب ونحوه، الأمر الذي يوجب لتلافيها، بناء التفسير على أصول محرّرة. وعموم ما شاب التفسير من انحرافات يتعلّق بأمرين؛ يتّصل الأول منهما بـ(التفسير بالمأثور)، والثاني بـ(التفسير بالرأي)، حسب الاصطلاح التراثي السائد.
ج. كون التفسير في التاريخ الإسلامي يقوم على النقل، ومنه ما هو صحيح ومنه ما هو مكذوب، فقد اجتهد ابن تيمية في وضع (معايير الحكم على النقل التفسيري)، ليكون الحكم قائمًا على أصول محرّرة، وليس مردّه إلى التعامل المذهبي، الذي يُقْبَل ويُرَدّ حسب ما يوافق مقرّرات المذهب[10].
4. يتداخل في المتن التيمي في هذا الموضوع السعي لوصف حقائق الأنظار كما هي في تعينها التاريخي تجريدًا، مثل تحقيقه في الاختلاف في التفسير، والنقد لمحصول النظر التفسيري السابق، كالنقل عن أهل الكتاب، والكشف عن منابع التأويلات الفاسدة، ومعيار الجزم في الاجتهاد التفسيري ونحوها، فضلًا عن السعي لوضع هدى منهاجي لقواعد وأصول منهج التفسير، كالتمييز بين المنقول والمعقول، وإسناد الترجيح في الاختلاف، والتمييز في تفسير القرآن بين ما هو أساس الإيمان والتعبد، إِذْ لا تقوم ماهيته إلا على الدليل الحقّ، وما هو ثانوي لا ينخرم بالاختلاف فيه، باعتباره اختلاف تنوع، كما يتبيّن لاحقًا.
5. في سياق الوصف والنقد والوضع التأسيسي، يتوسّل ابن تيمية بمسلك السّبر والتقسيم، القائم في هذا السياق على تحديد أوصاف مناط تعلّق الحكم الاجتهادي، قبل إصدار الحكم صحةً وفسادًا. الأمر الذي أفضى به إلى للتمييز بين (الحقّ المبين) و(أنواع الباطل الواضح) في التفسير، فضلًا عن تتبّع أسباب الاختلاف في التفسير، المفضي للحكم على محصول التفسير صحةً وفسادًا. والمتن التيمي لا يكتفي بالرصد والتتبع في مرحلة مفصولة عن سابقتها ولاحقتها، أو في فضاء معرفي دون غيره، بل يعمم التتبع منذ النشوء، ويتتبع سريان ذلك في العديد من الاجتهادات في العديد من الفضاءات المعرفية الإسلامية الرئيسَة.
6.من بين أهم الظواهر التفسيرية القديمة الجديدة، التي توقف عندها المتن التيمي؛ رصدًا لأسبابها، وبيانًا لمحدّداتها وآثارها، ونقدًا لمحصولها، والحكم على منهجها، وذكر أهلها ومظانها، ظاهرة تحريف آيات القرآن عن مواضعها، وهي تفسير آيات القرآن على مقرَّرات المذهب.
7.يخضع المتن التيمي التأسيسي لعُدّة مفاهيمية محدّدة ناظمة في مختلف سياقات النظر، ومنها: المعقول، المنقول، النقل المصدّق، الاستدلال المحقّق، البيان، اختلاف تنوّع، التنازع، الترجيح، التضمين، التضمّن، التعريف بالمثال، التمثيل، الحدّ المطابق، خبر الواحد، القطع، الظنّ، التأويل، الدليل، المدلول، المواطأة، المشترك وغير ذلك. وهذه المفاهيم في عمومها متعلّق بمختلف الفضاءات العلميّة والمعرفية في تاريخ الفكر الإسلامي، كالتفسير والحديث والأصول والمنطق والكلام والفلسفة والبلاغة واللغة ونحوها، والتي كان للاجتهاد التيمي أثر وصفي ونقدي وتأسيسي لا يُنْكَر فيها، ودليل ذلك مصنفاته الكثيرة.
8. يعتمد المتنُ التيمي في سياقات الوضع التأسيسي للهدى المنهاجي للقواعد الكلية لأصول منهج التفسير، التوسّلَ استدلالًا بالمأثور الصحيح؛ سواء تعلّق بالحديث-البيان النبوي، أو بما أُثِر عن الصحابة والتابعين وغيرهم من أئمة السلف من أهل الشأن في الباب، ويقدّمه على مطلق ما سواه، ويتّخذ منه معيارًا للحكم بالفساد على من خالفه.
9. إنّ الاجتهاد التيمي في تأسيس أصول منهج التفسير، بقدر ما يستثمر معرفته الموسوعية التي يتمتع بها في الكثير من مجالات المعرفة الإسلامية، بقدر ما يسترجع الكثير من اجتهاداته السابقة في مختلف كتاباته، لبناء المنظور التفسيري لآيات القرآن، أو يشير إلى استكمالها في مصنفاته الأخرى بذكر سياقاتها الموضوعية.
10. إنّ الاشتغال التيمي على هذا الموضوع بمختلف أصوله وقواعده ومعالمه، لم ينبثق عن القطيعة المطلقة مع من سبق في النظر فيه، وإنما يغربل محصول تركة السابقين منهجيًّا ومعرفيًّا، ليستأنف البناء التأسيسي، اعتدادًا بالاجتهاد، كونه متّصفًا بأهليته بلا مرية.
ثانيًا: من أصول الهدى المنهاجي الكلية المؤسّسة لمنهج علم التفسير:
وضع اجتهاد المتن التيمي مجموعة أصول للتفسير، عبارة عن قواعد كلية، تشكّل قوام علم أصول منهج التفسير، وهي في عمومها تنقسم إلى قسمين؛ قسم عبارة عن أصول مستندها النصّ الشرعي. وقسم عبارة عن أصول مرجعها الاجتهاد. والحديث عنها في هذا السياق اقتضى أن نوردهما بدون فصل استقلالي بينهما، مع أنّ التصنيف وبيان مسوغاته ظاهر، فضلًا عن أن جملة من أصول منهج التفسير يتداخل فيها ما مستنده النصّ الشرعي والاجتهاد البشري.
ولكون آيات القرآن من فضاءات (التدبّر) من المنظور الإسلامي كما هو منصوص عليه في قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:28]، فإنّ تحقيق (التدبر) لا يتم على وجهه المنشود من المنظور التيمي بدون فهم معانيه، قصد تعقّله وعقله. يقول الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2]. (وعقل الكلام) حسب التنصيص التيمي (متضمّن لفهمه)، إِذْ من المعلوم (أنّ كلّ كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرّد ألفاظ، فالقرآن أولى بذلك)[11]. وفق هذا التحديد المنهجي في النظر إلى القرآن، لا مناص من منهج لتحقيق فهم معاني آيات القرآن، باعتبارها مراد الله من كلامه، كما هو السائد في تعريف (التفسير)[12]، ومن أهم ما وضعه ابن تيمية لبناء منهج التفسير، نسوق ما يلي:
الأصل الأول: استغراق البيان النبوي لألفاظ ومعاني آيات القرآن:
ينطلق ابن تيمية على سبيل القطع، (أن النبي -عليه الصلاة والسلام- بيّن لأصحابه معاني القرآن، كما بيّن لهم ألفاظه)[13]. وقد استند في الاستدلال على ذلك بالمنقول-النقل، كقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]. ومن مقتضيات المعقول-الاجتهاد، أن (العادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا في فنّ من العلم، كالطب والحساب، ولا يستشرحوه؛ فكيف بكلام الله تعالى الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم، وقيام دينهم ودنياهم)، فضلًا عن أن (النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلٌ جدًّا)، وإن كان في غيرهم أكثر. وقد جرت العادة أيضًا زمن النبوّة والنزول، أن الصحابة لم يكونوا يتجاوزون «حفظ عشر آيات» حتى يعلموا ما فيها، «فتعلموا العلم والعمل معًا»، كما رُوِي ذلك عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فضلًا عن ما رُوِي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه أقام في «حفظ سورة البقرة ثمان سنين» وغير ذلك[14].
هذا القطع التيمي بكون النبي -عليه السلام- بَيّن لأصحابه كلّ ألفاظ ومعاني القرآن، يقتضي التحقيق في مناط الأمر منهجيًّا ومعرفيًّا، وذلك ببيان الأمور الآتية:
1. هل القطع التيمي يُحْمَل على أن (البيان النبوي) لآيات القرآن تحقّق عن طريق التعبير النصّي، أو يُحْمَل على الترجمة الخُلقية العملية كما هو ثابت في قول عائشة رضي الله عنها، في وصف خُلُقِه عليه السلام، أو يُحْمَل (البيان النبوي) للقرآن عن طريق البيان الكلي؟
2. إذا كان الحَمْل الأول غير متحقّق، بالنظر إلى ما ثبت في الصحاح، إِذْ لم يثبت عنه إلا بيان آيات قليلة، أما الحمل الثاني فهو متحقّق، بالنظر إلى كونه -عليه السلام- على المستوى الأخلاقي {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} كما هو ثابت نصًّا في القرآن، واستنادًا إلى وصف عائشة، أما الحَمْل الثالث فثابت أيضًا، كما سنبين لاحقًا.
3. القطع التيمي ليس هو الوحيد القائل به، وإنما يقول به غير واحد، من مداخل مختلفة، إلا أن مردّ الأمر منهجيًّا ليس لأهمية (البيان النبوي) في علاقته بآيات القرآن، إِذْ هذا محل اتفاق بمنصوص القرآن، كما سنبين بعض أوجه ذلك لاحقًا، وإنما مردّه إلى مناط الحمل كما سلف القول.
الأصل الثاني: مرويات أسباب النزول وحدود جدوى اتخاذها مستندًا لتفسير آيات القرآن:
تناوُل ابن تيمية لأسباب النزول في علاقتها بآيات القرآن باعتبارها أصلًا من أصول التفسير، يتحدّد وفق جملة أمور؛ أولها: أنّ مرويات أسباب النزول (تُعِين) على فهم بعض الآيات، من باب أنّ (العلم بالسبب يُورِث العلم بالمسبّب)[15]. ثانيها: تحديد علاقة مرويات أسباب النزول ببعض الآيات عمومًا، وتحديد دلالة عبارة: (هذه الآية نزلت في كذا، لا سيما إذا كان المذكور شخصًا) بعينه، أو حادثةً بعينها، أو قومًا معيَّنين ونحو ذلك. فمناط تعلق الأمر، تمسكًا بقاعدة: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، ومعناها: (ليس حكم الآية مختصًّا بأولئك الأعيان دون غيرهم)، باعتبار أن هذا القول لا يقول به مسلم ولا عاقل، بدليل أنه ينافي عالمية وخاتمية وشمولية القرآن للناس، وإنما هو أن الآية وإن تعلّقت (بنوع ذلك الشخص، فتعمّ ما يشبهه، ولمن كان بمنزلته، ويكون العموم فيها بحسب اللفظ)، وليس بحسب ما سِيق في سبب نزول الآية؛ سواء أكانت الآية (أمرًا أو نهيًا)، أو (خبرًا بمدح أو ذم)، ذلك أن (عمومات الكتاب والسُّنّة لا تختصّ بالشخص المعيّن)[16]. ثالثها: تعدّد السبب والنازل واحدًا، فهذا الأمر من المنظور التيمي يحمل على محملين؛ الأول: إنّ قول أحدهم: نزلت في كذا، وقول غيره: نزلت في كذا، مخالفًا للأول، فقد يمكن صدقهما بأن تكون نزلت (الآية) عقب تلك الأسباب، ويكون النازل من باب تناولهما معًا، باعتبار هذا من باب (التفسير بالمثال). الثاني: يحتمل أن تكون الآية (نزلت مرتين، مرّة لهذا السبب، ومرّة لهذا السبب)[17].
بناءً على المنظور التيمي في علاقة مرويات أسباب النزول بآيات القرآن، يمكن أن يفضي بنا إلى إثارة مجموعة مسائل منهجية ومعرفية، نورد منها ما يلي:
1. إنّ مرويات أسباب النزول في علاقتها بآيات القرآن لا تتجاوز حدّ المعين؛ إِذْ هي من المعينات للاستئناس لا من المقومات الضرورية إن صحت، وهذا أمر مفصلي، بالنظر إلى خصائص القرآن.
2. إنّ مرويات أسباب النزول باعتبارها تُعِين على فهم بعض آيات القرآن، إلا أنها تحتفّ بها جملة محدّدات جامعة؛ أهمها: أنها لا تعمّ كلّ آيات القرآن، وأنها لم يصح منها إلا النّزر القليل، بالنظر إلى الوضع الذي شابها، مما يجعل بناء المنظور التفسيري عليها في مأزق منهجي ومعرفي كما وقع لمحمد عابد الجابري[18].
3. إذا استُسيغ أمر تعدّد السبب والنازل واحد، فلا يُستساغ تعدّد السبب والنازل معًا، أو تعدّد النازل، إِذْ ما ينزل من القرآن لا ينزل إلا مرّة واحدة، اللهم إلا إذا حُمِل الأمر على التعدّد التنزيلي، فهو مستساغ.
الأصل الثالث: مشروعية تفسير آيات القرآن بالتوسّل بمسلك الترادف والتناوب:
مبحث علاقة اللفظ بالمعنى من أهم ما أُثِير حوله الاختلاف في تفسير آيات القرآن[19]، خصوصًا ما تعلّق بمسلك تفسير آيات القرآن بـ(الترادف) و(التناوب)، وكذا القول بـ(الزائد) في آيات القرآن، ليس زيادة بيان فحسب، وإنما زيادة فضل وحشو. وقد تناول ذلك المتن التيمي في سياق تتبع أسباب الاختلاف، كما سيأتي بيان ذلك لاحقًا، إِذْ قد اعتبر أنّ من أسباب الاختلاف في التفسير أنْ يعبر الواحد من النظّار عن (المعاني بألفاظ متقاربة لا مترادفة)، بالنظر إلى ما يرتضيه ابن تيمية منهجًا في هذا الباب، (أن الترادف في اللغة قليل)، أما في القرآن فهو (إما نادر أو معدوم). وقد اعتبر ابن تيمية أن التعبيرَ بلفظ لتأدية معنى لفظ آخر من جميع الوجوه قليلٌ أيضًا، إِذْ هو يحمل على أمر (تقريب المعنى). ويُعَدّ هذا المنظور المنهجي (من أسباب إعجاز القرآن)، مثل تفسير (المَوْر) بـ(الحركة)، وتفسير {لا ريب} بـ(لا شك)، وتفسير {ذلك الكتاب} بـ(هذا الكتاب)، و{أن تُبْسَل} بـ(أن تُرْتَهَن وتحبس) ونحو ذلك[20].
ومن أهم أبواب هذا المنظور، اعتبار ابن تيمية أن (جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض) يُعَدّ من باب (الغلط). وما يستقيم به مقتضى منهج النظر في آيات القرآن هو القول بـ(التضمين)، وهو (أن يضمّن الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته)، باعتبار هذا من أساليب العرب في الكلام، نحو (التضمين) في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} [آل عمران:51]. أي: مع الله. وقوله: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:23]. أي: سؤال النعجةَ يتضمن جمعَها وضمَّها إلى نعاجه[21].
وعليه؛ يكون مقصود الأمر في هذا السياق من المنظور التيمي، (التعريف بجمل الأمر دون تفاصيله)، لتحقيق المعنى المرضي في الباب. لذا أكّد ابن تيمية على أن تحقيق الأمر في تقريب المعنى، يقتضي جمع عبارات السلف في هذا الباب، لأنه أمر (نافع جدًّا)، باعتبار أن (مجموع العبارات أدلّ على المقصود من عبارة أو عبارتين)، ليحمل الأمر على محمله الصحيح دون تأوّل بعيد غير مقصود من إيراد الكلام وسوقه في الموضوع[22].
استصحابًا للمنظور التأسيسي التيمي، خصوصًا في علاقة المفردة أو الحرف القرآني بمسألة المعنى، يمكن تحديد الملاحظات الآتية:
1. إن الاجتهاد التيمي القائم في عمومه على نفي الترادف والتناوب في القرآن، لهو قَمِينٌ بالبيان والتطوير، وإن كان ليس هو الوحيد القائل بذلك من المتقدّمين والمتأخّرين.
2. لا ريب أن القول بالترادف والتناوب في القرآن في تاريخ التفسير الذي ترسخ القول به يُفضي حقيقة إلى جملة مآلات، بقدر ما تلغي إعجاز القرآن -كما أشار ابن تيمية- بقدر ما تعطل مجموعة من خصائص القرآن، كخصيصة الإحكام.
3. تحرير القول الأوفى في مسألة الترادف والتناوب، جعل ابن تيمية يتوسّل بمعهود الكلام العربي، إضمارًا أنّ القرآن في التعبير نزل وفق معهود أساليب العرب في كلامها، كما هو المنظور السائد في الدرس التفسيري التراثي. لذا، فإنّ الاجتهاد التيمي إن كان قد أصاب القول في نفي الترادف والتناوب في القرآن، إلا أنه توسّله بالكلام العربي لتسويغ النفي، نراه غير محرّر كما سَنبيّن لاحقًا.
الأصل الرابع: منهج النظر في منقول إسرائيليات أهل الكتاب وأهميتها في الاستعانة بها لتفسير آيات القرآن:
منهج نظر ابن تيمية في منقول أهل الكتاب عمومًا والمنقول الإسرائيلي خصوصًا، بقدر ما هو وصفي، فهو أيضًا نقدي وتأسيسي؛ إِذْ قد أثبت ابن تيمية بالرواية تعرّف المسلمين في الزمن التأويلي الأول؛ عهد الصحابة والتابعين، على أقاويل أهل الكتاب، والتي اتُخذت مرتكزات لتفسير بعض آيات القرآن، خصوصًا ما تعلّق منها بالقصص القرآني ونحوه[23]. يقتضي المنظور المنهجي البنائي في علاقتها بالقرآن إيراد الأحاديث الإسرائيلية من باب (الاستشهاد) وليس قصد بناء المعنى الاعتقادي، بالنظر إلى أنها في علاقتها بالصحة والكذب من المنظور التيمي على أضرب ثلاثة؛ الضرب الأول: النقول التي عُلم صحتها، بواسطة موافقة الإسلام، فهي بالتّبع، صادقة صحيحة مقبولة، وهي في هذه الحال لا تنشئ، وإنما يؤتى بها للتعزيز ونحوه. الضرب الثاني: المرويات التي عُلم كذبها بواسطة مخالفة الإسلام، فهي بالتّبع، كذب صراح مرفوض، والأَوْلَى عدم الالتفات إليها، ولو على سبيل الذِّكر، ما دام لا فائدة تُرجى من ذلك. الضرب الثالث: المنقول الذي هو في دائرة المسكوت عنه، فلا هو كذب، ولا هو صادق. وحكم التعامل معه من المنظور التيمي، (لا نؤمن به ولا نكذّبه)، وتجوز في المقابل روايته وحكايته، إلى أن يتم التحقّق منه صحةً وكذبًا. وقد قرّر ابن تيمية بناءً على ما تقدّم، أن عموم ما رُوي عن أهل الكتاب ولو صح (لا فائدة فيه تعود على أمر ديني)[24].
يرى ابن تيمية أن عموم ما رُوي عن أهل الكتاب يتعلّق موضوعيًّا في علاقته بالقرآن، بما (أبهمه الله تعالى في القرآن، مما لا فائدة من تعيينه تعود على المكلفين في دُنياهم ولا دينهم). وفق هذا التحقيق، يعلّل المتن التيمي كثرة الاختلاف بين أهل الكتاب وبين المسلمين، نحو تحديد أسماء أصحاب الكهف ولون كلبهم كما في سورة الكهف، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة في بني إسرائيل كما في سورة البقرة ونحو ذلك. ونقل هذا الخلاف يُعَدّ جائزًا حسب ابن تيمية، ولكن ليس لذاته، وإنما من أجل وضع المعيار الذي به تُمتحن الأقوال الخلافية في الباب. وتمثيلًا لهذا توقّف ابن تيمية عند قوله تعالى في قصة أهل الكهف: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22]. فبيّن في سياق تحديد عدد أصحاب الكهف أنّ الآية ذكرت ثلاثة أقوال؛ فضعفت القولين الأولين، فتبيّن أنّ القول الثالث هو الصحيح، إِذْ لو كان باطلًا لأبطلته كما أبطلت سابقَيْه. ثم أشارت الآية في آخرها، كما في قوله: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:23]، إلى أنّ ذِكْر عدّتهم لا طائل تحته، فيتعيّن بالتبع، قصر النظر التفسيري على ما تحته فائدة[25].
في سياق تحديد مقوّمات منهج النظر في التعامل مع الروايات الإسرائيلية أو غيرها التي ينتظمها الاختلاف، حدّد ابن تيمية المعالم المنهجية الآتية؛ أولًا: الأصل أن تُستوعب الخلافات في الموضوع الواحد، وبعد السّبر والتقسيم يتحقّق التمييز بين الصحيح والباطل. ثانيًا: إيراد الخلاف بتعديد الأقوال في الباب دون استيعاب يُعَدّ من المنظور التيمي نظرًا ناقصًا. ثالثًا: سوق الخلاف في الباب دون تمييز بين الصحيح والباطل يُعَدّ أيضًا نظرًا ناقصًا. رابعًا: تصحيح غير الصحيح، أو تكذيب الصحيح مما نقل، إن كان عن عمد فقد تعمّد الكذب، أما إن كان جاهلًا فقد أخطأ. خامسًا: ذكر الخلاف فيما لا فائدة منه، أو إيراد الأقوال المتعددة لفظًا، والتي يفضِي التحقيق فيها إلى إرجاعها إلى معنى أو معنيين جامعَيْن، يُعَدّ من باب هدر الجهد وتضييع الوقت، الذي يتعين تفاديه[26].
اهتداء بالمنظور التيمي -سواء في شقّه الوصفي أو النقدي أو التأسيسي- يمكن رصد الملاحظات الآتية:
1. المرويات الإسرائيلية إذا كانت لا تفيد في أمر مهم دنيوي أو أخروي، ديني أو دنيوي، فالأمر يقتضي تنقية كتب التفسير وغيرها منها، خصوصًا مما لم يصح وعُلم كذبه حقيقة، أو انتمى إلى ما هو محرّف، ما دام أن القرآن حاكم ومهيمن على كلّ ما سواه.
2. إنّ المنقول الإسرائيلي كونه يتعلّق بالتفاصيل الجزئية وإيراد التفاصيل التاريخية، فهو بهذا يخالف المنظور القرآني في إيراد قَصص الأولين، الأمر الذي يجعله غير ذي شأن في تحديد المعاني القيمة والعبر العالية، كما سنمثل لذلك لاحقًا.
الأصل الخامس: مشروعية التفسير المستند إلى النقل وإلى العلم وطرق الاستدلال العقلية:
في سياق الإلمام بالاختلاف في تاريخ التفسير وتحديد موجباته الموضوعية، اعتمد ابن تيمية قاعدة كلية، مفادها أن (العلم إما نَقْل مصدّق عن المعصوم وإما قول عليه دليل معلوم، وما سوى هذا فإما مزيف مردود، وإما موقوف لا يُعلم أنه بهرج ولا منقود). بناء عليه، بَيّن ابن تيمية أن الاختلاف في التفسير على مستوى الاستناد على ضربين؛ الأول: ضرب تفسيري مستند إلى (النقل)، إما عن المعصوم أو عن غيره. والمقصود بـ(المنقول) في هذا السياق (بيان جنس المنقولات) عن المعصوم أو عن غيره، إِذْ منه -كما هو معلوم- الصحيح والضعيف والموضوع، ومنه ما لا يمكن معرفة ذلك فيه. الثاني: ضرب تفسيري مستند إلى (العلم)، وهو إما (نقل مصدَّق) أو (استدلال محقّق). والمقصود بهذا النوع: (ما لا طريق لنا إلى الجزم بالصدق فيه؛ فالبحث عنه لا فائدة فيه والكلام فيه من فضول الكلام)[27].
بناءً على ما تقدّم، أكّد المتن التيمي أن (المنقولات) في مجال التفسير التي يحتاج إليها المسلمون في الدّين، قد نصب اللهُ عليها الأدلة، لتحديد الصحيح والحقّ من غيره. فإذا أردنا العلم بأمرٍ ما، فسبيل ذلك طريق النقل، إِذْ كلّ ما نقل صحيحًا عن المعصوم كتحديد (اسم صاحب موسى -عليه السلام- أنه الخضر)[28]، فهذا معلوم موجب للتقيد وعدم تجاوزه إلى غيره، إلا بنقل أصح منه. في مقابل هذا، هناك اختلاف تفسيري، بقدر ما أنه لا يفيد لا دليل صحيح عليه، كـ(لون كلب أصحاب الكهف). وأما ما ورد عن غيره -عليه السلام- فهو متعدد بحسب مصدره؛ ومن ذلك:
أولًا: ما نُقل عن الصحابة وكان النقل صحيحًا وجب التقيّد به؛ لأن (النفس إليه أسكن) من غيره، بعلة احتمال سماعه من الرسول عليه السلام، أو من بعض مَنْ سمعه منه، فضلًا عن أن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقلّ من نقل التابعين، بشرط جزم الصحابي بما يقوله.
ثانيًا: ما نُقِل عن أهل الكتاب أو ممّن أسلم منهم زمن الرواية، فهذا من المنظور التيمي لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه، إلا بحجة كما سلف القول.
ثالثًا: ما نُقِلَ عن التابعين؛ سواء كان منسوبًا إلى أهل الكتاب نقلًا أو لا، إِذْ متى اختلفوا لم يكن قول بعضهم حجة على بعض؛ فيكون عموم الاختلاف الوارد عن الصحابة أو التابعين أو غيرهم على ضربين:
إن كان لا يُعْلَم صحيحه من غيره، ولا يفيد حكايته في شيء؛ فالأوْلى من المنظور التيمي تركه، ما دام أن مناطَ القبول دليل الصحة.
وأما إنْ عُلِم معرفة الصحيح منه؛ فهذا ما يحتاج إليه، وكثيره منقول عن النبي عليه السلام، مع العلم أن ابن تيمية نَصَّ على أن أكثر المنقول في التفسير هو كالمنقول في المغازي والملاحم، (ليس لها أصل معتبر)، استنادًا إلى المأثور عن أحمد ابن حنبل[29].
وعليه؛ يكون عموم (النقل) بين ناظمين:
إما أن يكون صدقًا مطابقًا للخبر، فهذا معتمد في الباب بلا ريب.
وأما إن كان كذبًا؛ سواء تعمَّد صاحبه الكذب، أو أخطأ فيه، فهو بين مسلكين؛ فمتى سلِم من الكذب العمد والخطأ كان صدقًا بلا ريب، وإلا فهو كذب صراح، لا يلتفت إليه ألبتة.
وقد اجتهد ابن تيمية في سبيل تحديد جملة المعايير التي تمكّن من الحكم على النقل التفسيري، ومن ذلك أن الخبر إذا تلقته الأمة بالقبول والتصديق؛ كان خبرًا ثابتًا، لأن (الأمة لا تجتمع على خطأ)، إِذْ هذا في حكم الممتنع. تقرّر تبعًا لذلك كما ينصّ ابن تيمية (أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول؛ تصديقًا له، أو عملًا به، أنه يوجب العلم، والقطع به)[30].
بناء على تحديد الاجتهاد التيمي المتعلّق باتخاذ النقل أصلًا لتفسير بعض الآيات القرآنية؛ يمكن أن يلج بنا إلى وضع الأمارات الآتية:
1. إنّ أغلب ما يتعلّق بهذا الأمر تجد المتن التيمي ساقه وفق ما يسهم في تحديد المعايير المنهجية والمعرفية للحكم على المنقول، خصوصًا إذا كان مصدر النقل عن المعصوم عليه السلام، أو ما رُوي عن الصحابة بما وقع زمن النبوّة والنزول، وما روي عنهم بعد ذلك من التابعين وغيرهم، باعتبار كثرة ما نسب وضعًا في فضاء التفسير منذ الأزمنة الأولى في تاريخ التفسير.
2. إنّ عموم ما نقل عن الرسول عليه السلام، أو بعض الصحابة بما شاهدوه أو علموا به زمن النزول لا يعم كلّ آيات القرآن؛ لذا تجد المتن التيمي نَوَّعَ أضرب مفهوم النقل. وما دام أن المتون التفسيرية مليئة بالغثّ والضعيف، فيكون مناط التفسير متعلقًا بأمرين؛ أولهما: تنقية النقل في التفسير وفق الصحة والضعف أو الوضع. وثانيهما: التوسّل بغير النقل في التفسير بشرطين؛ الأول: عدم التحقّق من النقل التفسيري الصحيح، خصوصًا عن الرسول عليه الصلاة والسلام. الثاني: اللجوء إلى الاجتهاد في التفسير، شرط كونه محررًا وفق أهلية الاجتهاد، وأفضله الإجماع المحقّق في التفسير للعلة التي أوردها ابن تيمية.
الأصل السادس: الاختلاف في التفسير؛ أسبابه ومشروعيته:
في سياق الحديث عن الاختلاف في تاريخ التفسير، اعتبر ابن تيمية أنّ الاختلاف في التفسير بين السلف قليل، بالنظر إلى عدّة اعتبارات سبق الإشارة إلى بعضها، فضلًا عن أن اختلافهم التفسيري، هو (اختلاف تنوّع) لا (اختلاف تضاد)، وهما نوعَا الاختلاف في التفسير.
1- فالاختلاف الأول (اختلاف التنوع) باعتباره محمودًا، أرجعه المتن التيمي إلى (تعبير المفسّر عن المراد)، إِذْ هو تابع إلى طريقة تصوّره العقلي، وهو مختلف بين الناس، خصوصًا على مستوى وضوح العبارة أو عدمه، مع أن المبتَغَى واحد، فيكون في منزلة الاختلاف في الاسم والاتحاد في المسمى، أو هو تنوّع الأسماء والصفات، كاختلافهم في تفسير (الصراط المستقيم)، كونه (القرآن)، أو (الإسلام)، فهما في الأصل اختلاف تنوّع، وعلامته، إمكانية الجمع بينهما؛ لأنّ دين الإسلام هو اتباع القرآن، ولو كان كلّ واحد منهما نبّه على وصف غير وصف الآخر. مع العلم أن ذلك التعبير في الآية يحتمل معنى أو معاني أخرى، كأن يكون معناه السُّنَّة والجماعة، أو طريق العبودية، أو طاعة الله ورسوله[31].
ومن أصناف اختلاف التنوّع في التفسير: أن يذكر المفسّر بعض أنواع المسمى وأقسامه كـ(التمثيلات)، أو أن يذكر (المفسر للاسم العام ببعض أنواعه على سبيل التمثيل لا على سبيل الحدّ المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه)، كتفسير الظالم لنفسه بكونه: يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للحرمات، والمقتصد بكونه: يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات، والسابق بالخيرات بكونه: يدخل فيه من سبق بالحسنات مع الواجبات. (فالمقتصدون هم أصحاب اليمين، والسابقون أولئك المقربون). ثم تجد بعد ذلك المفسّر يذكر لبيان ذلك نوعًا من أنواع الطاعات للمقتصد والسابق، وكذا بعض أنواع المخالفات للظالم لنفسه[32]. وعلّة تغليب هذا المنحى في التفسير، أن (التعريف بالمثال يسهل أكثر من التعريف بالحدّ المطابق)، فضلًا عن أن (العقل يتفطن للنوع كما يتفطن إذا أُشير له إليه)[33].
ومن أهم أسباب اختلاف التنوّع الغالب على تفسير السلف: أن يكون اللفظ محتملًا لمعنيين، إما لكونه من باب (المشترك في اللغة)، الذي يجوز أن يراد به أكثر من معنى، كلفظ (عسعس) في قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ}[التكوير:17]، الذي يُراد به: إقبال الليل، كما يراد به: إدباره. وإما لكونه (متواطئًا في الأصل)، الذي يكون عامًّا إذا لم يكن لتخصيصه موجِب، لكون المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين كـ(الضمائر) في قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:8-9].
ومن الصور المندرجة في اختلاف التنوع: أن يعبر المفسر عن (المعاني بألفاظ متقاربة لا مترادفة)، باعتبار أن (الترادف في القرآن نادر أو منعدم)، ويكون ذلك لقصد تقريب المعنى[34].
السبب الثاني من الاختلاف في التفسير، وهو «اختلاف تضاد»، نتناوله بالتفصيل في الأصل التالي.
بناء على التناول التيمي لأهم سبب من أسباب الاختلاف في تاريخ تفسير آيات القرآن، وهو اختلاف التنوّع، يمكن الإشارة إلى بعض الملاحظات، منها:
1. إنّ التناول التيمي لأسباب الاختلاف في التفسير بقدر ما أنه وصفي من باب تحديد ما وقع تاريخيًّا في المراحل المؤسّسة للقول التفسيري، فهو أيضًا يجترح ما به يؤسّس للقول الأسلم في الباب، تحريرًا للأنظار المعتبرة في الباب ما دام الإمكان يتيح ذلك.
2. إن الإشكال ليس في الاختلاف القائم على التنوّع بين الأنظار التفسيرية، فهذا مما لا يجادل فيه أحدٌ، وإنما الإشكال ينبني على ما هو المعيار الذي في ضوئه يتم الحكم عليها بالاعتبار وعدمه. المعيار الذي حدّده المتن التيمي وإن كان وجيهًا بلا ريب، إلا أن ما نراه مقدّمًا عليه في الاعتبار، هو مراعاة خصوصية القرآن.
3. في كثير من السياقات، يعتمد المتن التيمي ما روي عن السلف معيارًا للحكم رفضًا وقبولًا. وهذا الأمر من باب التحقيق، يحمل على وجوه ثلاثة:
– إن كان ذلك منقولًا في الأصل عن الرسول -عليه السلام- وصح، فلا إشكال في الأمر.
– وإن كان مما هو محلّ إجماع بين الصحابة، فكذلك لا إشكال في الأمر.
– وأما إن كان مجرّد اجتهاد حدث بعد زمن النبوّة والنزول، فجَعْلُ ذلك معيارًا للقبول والرد، لا يحمل على ذلك بصيغة القطع؛ إِذْ إنه اجتهاد آحاد.
الأصل السابع: التفسير على المذهب وآثاره:
هذا الضَّرب من التفسير -باعتباره يتطابق مع أحد نوعي الاختلاف في التفسير، وهو (اختلاف التضاد)- اعتبره ابن تيمية على مستوى التأريخ، أنه نشأ بعد زمن السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، بالنظر إلى كثرة الآراء المجرّدة المنبثقة مؤصّلة كانت أو منقولة، الأمر الذي أفضى إلى أن يكون الاختلاف بين النظّار (اختلاف تضاد)، وقد أورده في سياق التنبيه إلى مثار الاختلاف في التفسير، باعتباره من أهم أسباب البدع الباطلة في التفسير المحدث[35].
وخطأ هذا المنحى في التفسير من المنظور التيمي يحتفّ به من جهتين:
الأولى: أنّ الواحد من النظّار يعتقد بجملة من المعاني قبل عملية التفسير، ثم يفسّر بها آيات القرآن، بقصد حمل ألفاظ القرآن عليها قسرًا وغصبًا، دون مسوّغ ولو كان بعيدًا. فعطب هذا المسلك في النظر التفسيري، هو أنّ المفسّر يراعي المعنى الذي رآه من غير نظر إلى ما تحقّقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان.
الثانية: أنّ الناظر في آيات القرآن من المفسّرين يفسّرها بمجرد النظر فيها قاطعًا لها عن ما يتصل بها، إِذْ ينظر فيها من غير التفات إلى المتكلّم في القرآن والمنزَّل عليه والمخاطَب به. وعطب هذا المسلك في التفسير، أنّ الناظر يراعي مجرّد اللفظ وما يجوز أن يُراد به عنده، دون نظر إلى سياق الكلام وما يليق بمقام المتكلم[36].
في تاريخ التفسير، انغمست فرق ومذاهب شتى في هذا الضرب من التفسير بصورتَيْه، والذي يصدق عليه (التفسير على المذهب)، ومن بين تلك الفرق والمذاهب في تاريخ التفسير: الخوارج والرافضة والجهمية والمعطلة والمعتزلة والقدرية والمرجئة والقرامطة والفلاسفة وغيرهم[37].
وعلّة الانحراف في هذا المنحى في التفسير من المنظور التيمي، أنّ المفسرين (اعتقدوا رأيًا ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه، وليس لهم سلف، لا في رأيهم ولا في تفسيرهم).
ومن العلامات الدالة على بطلان هذه التفاسير، التي سار أصحابها على هذا المسلك -سواء كانت ظاهرة كالتفسير المغالي للرافضة، أو كانت باطنة مغلفة بحسن العبارة والكلام الفصيح، كتفسير الزمخشري في الكشاف- أنها ترجع في عمومها إلى الانطلاق من (العلم المحقق بفساد الرأي) مجردًا عن التفسير، (العلم بفساد ما يفسرون به القرآن)؛ إما (دليلًا على قولهم)، أو (جوابًا على المعارض لهم)[38].
إنّ من أهم المعايير التي حكّمها المتن التيمي لذمّ (التفسير على المذهب)، وهي أن الآية إذا كان للسلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة تفسيرٌ لها، باعتبار أن زمنهم كان خاليًا من هذه الآفة، وجاء نُظّار آخرون ففسروا الآية بتفسير لأجل مذهبٍ اعتقدوه مسبَّقًا، وهذا المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين، صاروا بالتّبع مشاركين للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا المسلك.
وحصر التفسير الأسلم في الصحابة والتابعين وتابعيهم، راجع من المنظور التيمي إلى بيان (طرق العلم وأدلته وطرق الصواب)، إِذْ هم قد قرأوا القرآن وكانوا أعلم الناس بتفسيره ومعانيه، كما كانوا أعلم الناس بالحقّ من غيرهم. ومن خالف قولهم في التفسير فقد أخطأ في الدليل والمدلول معًا، وإن كانت له شُبهة يذكرها عقلية كانت أو سمعية[39].
ومما يعكس من المنظور التيمي الخطأ في الدليل والمدلول معًا، باعتباره معاني باطلة، والمعنى المقصود فاسدًا؛ وجود الأمارات الآتية:
أولًا: تحديد القول التفسيري المحدَث بعد عهدهم.
ثانيًا: كون التفسير المحدَث يخالف تفسير السلف المقرّر.
ثالثًا: كون النظر التفسيري المحدَث احتفّ به الابتداع من وجهٍ محقّق.
رابعًا: بيان فساد هذا التفسير بالطرق المفصلة والأدلة القاطعة.
ومن أوجه الخطأ في الدليل، باعتباره أقلّ خطورة من سابقه، فيتمثّل في تفسير جمع من الصوفية والوعاظ والفقهاء، الذين وإن (فسّروا آيات القرآن بمعانٍ صحيحة، إلا أن القرآن لا يدل عليها بوجه معتبر في الباب)[40].
إنّ هذا المسلك التفسيري (التفسير على المذهب)، يُفضي أيضًا إلى مآلات أخرى، أهمها تحريف الكلم عن مواضعه، بتفسيره بغير ما أُريد به، وتأوُّله على غير تأويله، فضلًا عن أنه ليس محصورًا في آيات القرآن، بل يتعلّق أيضًا بالأحاديث الصحيحة المعروفة، المتعلّقة مثلًا ببيان بعض آيات القرآن، إِذْ تجد أهل هذا المسلك يعارضونها، ويأخذون في تأويلها مسالك عديدة لتقرير جملة معانٍ، وهي لا تعدُوا أن تكون (تأويلات باردة)[41].
وفق التناول التيمي لمسلك (التفسير على المذهب)، باعتباره علامة فاصلة في الدلالة على اختلاف التضاد في التفسير، نورِد الملاحظات الآتية:
1. إنّ التفسير على المذهب؛ سواء نشأ في أزمنة المتقدّمين أو المتأخرين، معيار تحديده والحكم عليه، ليس هو مخالفة تفسير السلف -كما هو المنظور التيمي- خصوصًا إذا كان تفسيرهم اجتهاديًّا، بل المعيار إما أن يكون فيه مخالفة صريحة لما ثبت عن النبي عليه السلام، وباعتبار أن ذلك وإن صح فهو قليل، فإنّ معيار الحكم على ذلك، أن يكون مخالفًا لخصوصية القرآن، وقد أشار المتن التيمي إلى بعض منها.
2.إن تفسير الزمخشري وإن كان فيه الكثير على مذهب أصول الاعتزال، إلا أنه لا يُترك كلّه، خصوصًا وأنه بقدر كونه تفسيرًا اعتزاليًّا، فله مقامات إبداعية في إنشاء المنظور اللغوي والبلاغي بلا منازع. ووفق هذا التمييز، قام اجتهاد ابن المنيّر على دراسة الكشاف، إذ المقام يقتضي عدم الخلط والتعميم[42].
3. إنّ تقرير ابن تيمية للحكم على التفسير بالخطأ والابتداع والذم ونحوه، انطلاقًا من مخالفة السلف من الصحابة وغيرهم، لا ينبغي أن يكون مناط الحكم الكلي وفق تحديد المتن التيمي، بدليل أن جملة التفاسير السائدة والمقبولة ليست هي تفاسير السلف، وكم من إجماعات في التفسير نشأت بعد زمن السلف، خصوصًا إذا كان ما جاء عن السلف اجتهاديًّا، باعتبار أنّ الكثير من جزئيات التفسير متغيّرة تغير ظروف وسياقات التفسير، ليس بين مراحل التفسير فحسب، وإنما في المرحلة الواحدة.
بناء على عموم عرض التأسيس والتأصيل التيمي لأصول منهج علم التفسير، يمكن الخلوص إلى ما يأتي:
أولًا: يمكن اعتبار اجتهاد ابن تيمية من أهم الاجتهادات في الباب، التي تغيَّت وضع أصول منهج علم التفسير، وهي في عمومها عبارة عن قواعد ومعايير كلية، تنصب رأسًا على تحديد المعنى.
ثانيًا: وفق المنحى العام الذي سار على هديه الاجتهاد التيمي -سواء في سياق الوصف أو النقد أو التأسيس- يكون بذلك راهنيًّا. وراهنيته براهنية أهمية إنشاء تفسير مرْضي في السياق المعاصر، فضلًا عن درء الزلل الذي يحتفّ بالدرس التفسيري من آفات منهجية ومعرفية في هذا السياق، فقد رصد المتن التيمي أهمها، خصوصًا التي تستجد ولا تموت أبدًا، كالتفسير على المذهب بشتى صوره.
ثالثًا: إنّ عموم المحدِّدات المنهجية والمعرفية التي تناولناها في هذه المقالة، باعتبارها تعكس متن الاجتهاد التيمي في سعيه لتأسيس أصول منهج علم التفسير، إنْ كنّا قد تناولناها بصيغة عمومية، باعتبار ما يسمح به إمكان المقالة، إلا أننا قد ركزنا فيها على ما يمكن عدّه مدخلًا أساسيًّا لبناء أصول منهج علم التفسير، خصوصًا وأن التفسير متجدد بالضرورة، بالنظر إلى خصائص القرآن.
رابعًا: إنّ العديد من تلك المحددات أو الأصول الكلية في التفسير، وإن كان ابن تيمية مسبوقًا في النظر فيها، إلا أن له لمسات تأسيسية لا تنكر؛ سواء في سياق الوصف أو النقد أو إعادة التأسيس.
وعليه؛ فإنّ ما تم عرضه في هذه المقالة المتعلقة بإظهار اجتهاد ابن تيمية التأسيسي لأصول منهج علم التفسير يعدّ عرضًا اجتهاديًّا إمكانيًّا، وليس من باب القول الأخير والنهائي، إِذْ كان القصد رأسًا هو التعرّف ولو بصورة مجملة على إسهامات ابن تيمية في هذا الموضوع، وفي المقالة التالية بإذن الله تعالى نعمل على تقويم هذا الإسهام لابن تيمية.
[1] يرى الطاهر بن عاشور (ت:1973م) أن سبب عدّ التفسير علمًا، أنه «مقدمة العلوم» و«منبع العلوم الشرعية»، وأن أسباب تأخره، لها «أثر قوي في تأخّر الكثير من العلوم الإسلامية». ويتعلّق موضوعه بـ«شرح مراد الله تعالى من القرآن ليفهمه من لم يصل ذوقه وإدراكه إلى فهم دقائق العربية». أليس الصبح بقريب، التعليم العربي الإسلامي دراسة تاريخية وآراء إصلاحية، دار السلام، القاهرة. مصر، ط1، 2006، ص160. في مقابل هذا، يرى محمد الفاضل بن عاشور (ت:1970م) أن القرآن ليس بمحتاج «احتياجًا أصليًّا للتفسير»، بعلّة أن حاجة القرآن إلى التفسير «إنما هي حاجة عرضية» نشأت لأسباب، حصرها في سببين. التفسير ورجاله، دار السلام، القاهرة، مصر، ط1، 2008، ص19-22.
[2] كما بيّن ذلك الباحث/ خليل محمود اليماني في مقالته الأولى من سلسلة المقالات المتعلقة بـ: دراسة توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف تحرير وتأصيل. مقالات منشورة بموقع مركز تفسير.
[3] أهل إعادة تجديد التفسير في السياق الإسلامي الحديث والمعاصر هم على العموم ثلاث طوائف؛ الأولى: نظّار اتجهوا صوب تنقية ما علق بالتفسير من شوائب وانحرافات منهجية ومعرفية، ويمكن إدراج الأعلام الآتية في هذه الطائفة: الطاهر بن عاشور، محمد الفاضل بن عاشور في كتابيهما السابقين مثلًا، عبد الله محمد الصديق الغماري (ت:1993م) في كتابه: بدع التفاسير. الطائفة الثانية: نظّار قدّموا قراءات جديدة، استنادًا إلى شيء من التراثي الإسلامي، وما استجد من علوم، فضلًا عن الاعتداد بالاجتهاد الشخصي، وندرج في هذه الطائفة من باب التمثيل: أبو يعرب المرزوقي، طه عبد الرحمن، محمد أبو القاسم حاج حمد (ت:2006م) وغيرهم. الطائفة الثالثة: نظّار قدموا قراءات لبعض آيات القرآن استنادًا إلى المنقول الغربي الحداثي في الغالب، ويمكن أن ندرج في هذه الطائفة الأسماء الآتية: محمد أركون (ت:2010م)، نصر حامد أبو زيد (ت:2010م) وغيرهما.
[4] اعتمدنا في إنجاز المقالة المتعلقة بالعرض على الكتاب الذي يضم متن (مقدمة التفسير) لابن تيمية حصرًا، وقد ورد هذا المتن في المصنف الآتي: شرح أصول في التفسير، محمد بن صالح العثيمين، مقدّمة التفسير، ابن تيمية، شرح ابن العثيمين، عناية وتعليق: محمد بن عبد الله المصري، المكتبة الإسلامية، القاهرة، مصر، ط1، 2006.
[5] مقدمة التفسير، ص236-247. من الذين اهتموا بوضع (أصول التفسير) شاه ولي الله الدهلوي (1703-1762هـ)، ومن مصنّفاته في الباب: الفوز الكبير في أصول التفسير، وتكملته: فتح الخبير بما لا بد من حفظه في علم التفسير.
[6] مقدمة التفسير، ص337. مفهوم (الأصول) محوري في المعرفة الإسلامية؛ سواء في مجال أصول الدّين، أو أصول الفقه، وكذا الأصول في مجال التفسير وغيرها من الحقول المعرفية.
[7] التعريفات، دار الفكر، بيروت. لبنان، 1997، ص38.
[8] مقدمة التفسير، ص238-239.
[9] مقدمة التفسير، ص238. هذا ما استنتجه أيضًا الكثير من المحققين، كابن خلدون (ت:808هـ). المقدمة، بيروت، لبنان، دار الفكر،2004، ص421-422.
[10] مقدمة التفسير، ص295-298، 301-304. هذا وغيره يعزّز أن الاجتهاد التيمي انصب تأسيسه على الأصول الجامعة وليس على الفروع التابعة، كما يتجلى لاحقًا.
[11] مقدمة التفسير، ص249. تحديد مراد الله تعالى من كلامه، خصوصًا من الآيات التي هي موضوع التدبّر العقلي، يقتضي الأمر التمييز في ذلك بين عدّة أمور؛ أولها: إذا كان تحديد المعنى مردّه إلى (البيان النبوي) الصحيح، فلا ريب أن ذلك باعتبار أنه -عليه السلام- كما هو مأمور بـ(التبليغ) مأمور أيضًا بـ(البيان)، ونواظمهما الأصلية واحدة، كالعصمة وتحقيق المبتغى، شرط صحة (البيان). ثانيها: إذا كان تحديد المعنى مردّه إلى آيات القرآن نفسها، فلا ريب أنّ ذلك باعتبار أن آيات القرآن بيان لبعضها البعض. ثالثها: إذا كان تحديد المعنى مردّه إلى الاجتهاد، فالأمر يحتاج إلى ضبط، ولا يؤخذ القول على إطلاقه مرسلًا، باعتبار أن الاجتهاد التفسيري الإنساني ليس معصومًا في كليّته.
[12] راجع تعريف الطاهر بن عاشور السالف الذِّكر.
[13] مقدمة التفسير، ص248. وهذا القطع ليس ابن تيمية الوحيد الذي صدر عنه ذلك، وإنما ورد أيضًا عن ابن خلدون، في المقدمة، ص420-421. وغيرهما. إلا أن هذا القطع عليه العديد من الاعتراضات، نُورِدُ بعضًا منها في المقالة الثانية المتعلقة بالدراسة النقدية، مع العلم أن لا اعتراض على الأصل، وهو أن الرسول -عليه السلام- كُلِّف بالبيان، وقد صدرت عنه عدة بيانات لآيات قرآنية.
[14] مقدمة التفسير، ص249-251.
[15 مقدمة التفسير، ص270.
[16] مقدمة التفسير، ص268-270.
[17] مقدمة التفسير، ص272.
[18] سعى محمد عابد الجابري (ت:2010م) إلى إعادة ترتيب آيات القرآن بحسب توالي النزول استنادًا إلى مرويات أسباب النزول، التي حكم بأن أغلبها لم يصح، الأمر الذي أفضى به إلى الوقوع في آفة منهجية ومعرفية صريحة، إِذْ قد استبدل بها -في سياقات كثيرة- التقدير الشخصي لتحقيق المبتغَى، وقد كان هذا من أهم مداخل نقد فهمه الجديد وتفسيره الواضح للقرآن. للتفصيل في الموضوع، انظر دراستنا: القراءات الجديدة للقرآن الحكيم؛ قراءة محمد عابد الجابري عرض ونقد وإكمال.
[19] من قضايا الفكر واللغة، مصطفى بن حمزة، دار الأمان، الرباط. المغرب، ط. 1، 2010، ص249 وما يليها.
[20] مقدمة التفسير، ص277-278. يقول الله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:90]. {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1]. {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام:70].
[21] مقدمة التفسير، ص278-279.
[22] مقدمة التفسير، ص281-283. وهذا ملمح منهجي بديع، وإلا أفضى الأمر إلى تكاثر الأقوال في الموضوع الواحد، وهي في أصلها ترجع إلى معنى كلي ناظم، وإن تعدّدت جزئيات المعنى تعبيرًا عنه.
[23] من ذلك: كون عبد الله بن عمرو «قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب». وحديثه منهما، يرجع من المنظور التيمي إلى ما فهمه من الإذن من الحديث، كما في قوله عليه السلام: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار). مقدمة التفسير، ص341-342، صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذُكر عن بني إسرائيل، حديث رقم:3461. بل إن المسلمين تعرّفوا على بعض صحف التوراة زمن الرسول عليه السلام، كما ثبت في تحذير ونهي الرسول عمر عن قراءتها، فضلًا عن حديث البخاري أيضًا، كتاب التفسير، باب: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا}، حديث رقم: 4485. لذا، فإن المسألة تحتاج إلى تحقيق، خصوصًا على مستوى تحديد معنى الأحاديث الصحيحة الواردة في الباب، كما في حديث البخاري مقارنة له بالحديث السابق، صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول النبي عليه السلام: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء)، حديث رقم: 7363. وحديث البخاري أيضًا، كتاب التفسير، باب: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا}، حديث رقم: 4485.
[24] مقدمة التفسير، ص342.
[25] مقدمة التفسير، ص342-343. وهذا أصل تفسيري عظيم، يحدّ من إطلاق العنان للأنظار التفسيرية استقلالًا أو استنادًا إلى منقول أهل الكتاب، لتسطير مضامين تفسيرية، يطغى عليها طابع التكلّف، مع أنها لا تترتب عنها فائدة أو عمل. وقد تناول الشاطبي هذا الأصل بالبيان والنظر التأسيسي في: الموافقات في أصول الشريعة، (1/ 31)، وما يليها.
[26] مقدمة التفسير، ص344. وقد عقب الباحث/ خليل محمود اليماني على اجتهاد ابن تيمية في هذه المسألة في عدّة مقالات، باعتباره يتعارض مع حيثية التفسير، فضلًا عن إخلاص النظر التيمي لنزعته النقلية، دون مراعاة دواعي التوظيف. يراجع: منطلقات توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف تحرير وتأصيل، قراءة نقدية لتأصيل ابن تيمية لتوظيف الإسرائيليات في التفسير، وكلتا المقالتين منشورتان بمركز تفسير. ونمعن النظر في اجتهاد الباحث/ خليل محمود اليماني في مقالة لاحقة.
[27] مقدمة التفسير، ص284.
[28] صحيح البخاري، كتاب التفسير، حديث رقم: 4726-4727.
[29] مقدمة التفسير، ص284-287. هو قول أحمد بن حنبل (ت:241هـ): «ثلاثة أمور ليس لها إسناد -أو: ليس لها أصل-: التفسير والملاحم والمغازي». إذ الغالب عليها أنها تروى مرسلة.
[30] مقدمة التفسير، ص295-298، 301-304. خطّأ الباحث/ خليل محمود اليماني التقسيم التيمي السالف الذِّكر، بعلة كونه غير واقعي، فضلًا عن كونه نابعًا من الاستجابة للمنظور النقلي لا الوظيفي. في المقالة الثالثة من سلسلة المقالات: قراءة نقدية لتأصيل ابن تيمية لتوظيف الإسرائيليات في التفسير؛ الآثار والنتائج.
[31] مقدمة التفسير، ص255، 256، 263، 264، 273. تفسير آية الفاتحة بأن معناها «السنة والجماعة»، لا شك أن ذلك بعيد، بعلّة أن هذا التعبير محدث، وقد تنازعته على مستوى الانتساب فرق ومذاهب، كما هو معروف على الأقلّ في تاريخ علم الكلام.
[32] الإشارة في ذلك إلى قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32].
[33] مقدمة التفسير، ص265-267، 272، 273.
[34] مقدمة التفسير، ص273-275، 277-278.
[35] مقدمة التفسير، ص312-336.
[36] مقدمة التفسير، ص312-313.
[37] مقدمة التفسير، ص316، 318، 320، 321، 330-334.
[38] مقدمة التفسير، ص324، 325.
[39] مقدمة التفسير، ص334-336.
[40] مقدمة التفسير، ص337.
[41] مقدمة التفسير، ص336-309.
[42] ابن المنير (ت:683هـ) في تعليقه على الكشاف في مصنفه: الانتصاف من الكشاف.
(المصدر: مركز تفسير للدراسات القرآنية)