اتباع الوحي الرباني لب الدين وقمة العقلانية
تقرر معنا أن الوحي هو ما يعلّمه الله عز وجل لأنبيائه -الذين هم صفوة البشرية- حول حقيقة عالم الغيب الذي يقدم الإجابة عن الأسئلة الوجودية الكبرى مثل: من أنا؟ من أين أتيت؟ إلى أين سأذهب؟، ويخبرنا الوحي عن التاريخ الماضي وينبئنا بالمستقبل لهذا الوجود، ويقدم لنا الوحيُ خريطة الطريق الصحيحة للحياة الدنيا في جانبين: العلاقة بين الخالق والمخلوق ببيان غاية خلق البشر، وهي محبة الله عز وجل وطاعته لما له من الصفات العلى ومن الإنعام والأفضال على المخلوقات ومن ثم تفاصيل العبادة والخضوع له، والعلاقة بين المخلوقات فيما بينها (البشر/البشر، البشر/الحيوانات، البشر/الكون).
وأن هذا الوحي نزل على الأنبياء ليبلّغوا كل ذلك لأقوامهم، والبشرية كافة في حالة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام الذي ختمت به النبوات، وأن الوحي الخاتم والباقي لنا هو القرآن الكريم والسنة النبوية، وهنا نصل إلى بحث واجب الناس تجاه الوحي الرباني.
لذلك بيّن القرآن الكريم مركزية العلاقة بين الناس والوحي الرباني في آيات كريمة كثيرة كقوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم” (الأنفال: 24)، وقال تعالى: “اتّبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون” (الأعراف: 3)، وهذه الآية يقول في تفسيرها الإمام ابن كثير: “ثم قال تعالى مخاطبا للعالم: “اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم” أي: اقتفوا آثار النبي الأمي الذي جاءكم بكتاب أُنزل إليكم من رب كل شيء ومليكه، “ولا تتبعوا من دونه أولياء” أي: لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره، فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره”.
فاتباع الوحي والتزامه إذا هو حقيقة الدين ولب الإسلام، وهو التطبيق العملي للإيمان بالله عز وجل، كما أن الفارق بين المؤمنين والمنافقين هو في الحب والقبول لأوامر الوحي الرباني، قال جل وعلا: “وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدّون عنك صدوداً” (النساء: 61).
ومما تميّز به سلفنا الصالح، كالصحابة رضوان الله عليهم، المسارعة للانقياد للوحي الرباني، فعندما حُرّمت الخمر كانت خاتمة الآية: “فهل أنتم منتهون” (المائدة: 91) فقال عمر رضي الله عنه: “انتهينا انتهينا”، وأراق الصحابة الخمور التي عندهم حتى جرت بها سكك وطرقات المدينة.
ولما نزلت آية الحجاب: “ولْيضربن بخمرهن على جيوبهن” (النور: 31)، سارعت الصحابيات للامتثال، فما كان من نساء الأنصار والمهاجرات إلا أن شققن مروطهن فاختمرن بها كما في البخاري.
كان هذا بيان أن اتباع الوحي الرباني لب الدين بإجمال، وننتقل لبيان أن اتباع الوحي قمة العقلانية، بخلاف ما يزعمه بعض المرجفين من أن العقل والدين لا يلتقيان، أو أن بينهما تناقضا أو أن الدين والوحي لا بد أن يجاريا العقل ويوافقاه!
وفي البداية لا بد من التذكير أنه لا يوجد (عقل) يعد معيارا وميزانا معتمدا عند الناس، بل حتى عند الداعين لاتباع العقل! ولذلك نجد أن الجماعات المتناقضة والمتخاصمة عبر التاريخ كلها ترفع شعارات العقل والعقلانية ثم تتنازع وتتصارع وتتخذ مواقف متناقضة، ولنا في عشرات الفلاسفة والفلسفات وصراعها نموذج لذلك، ثم نجد في داخل كل جماعة ومدرسة أجنحة متصارعة ومتناقضة كانقسامات المعتزلة، وتطور الأشاعرة مع الزمن لحد التناقض التام مع المؤسس أبي الحسن الأشعري!
وأيضاً لا يمكن للعقل العمل في عالم الغيب لأنه يفتقد الأدوات المعِينة على ذلك، بينما يمكن له العمل والإبداع في عالم الشهادة/ الحس والمادة، ولذلك العقل يمكنه البحث والفحص في أدلة صدق النبوة والوحي، واختبار صحة الدين من خلال فحص سيرة النبي والتأكد من صدقه وأمانته وسيرته، ودراسة ما جاء به من وحي، هل فيه تناقض أو خطأ أو مخالفة ومعارضة للعلم والمنطق السديد، وهل ما جاء به يرشد لمكارم الأخلاق ويحقق مصالح الناس أم هو دعوة للفساد والفوضى، وعبارة عن أوهام كما وقع لمدّعي النبوة المزيفين عبر التاريخ.
هذا هو مجال عمل العقل مع الوحي الرباني، ويضرب العلماء مثلا لذلك برجل سأل عن طبيب حاذق فأرشده أحدهم لطبيب معروف بعلمه، فلما ذهب إليه وعالجه اعترض على علاج الطبيب الرجل الذي أرشد عليه! فهل يُقبل اعتراضه! أليس هذا الاعتراض هو المنافي للعقل والمنطق لأنه اعترف له بالعلم والمعرفة والمهارة ثم رفض علاجه من دون أن يكون مختصاً بالطب، وكذلك حال العقل فهو يرشد إلى صحة الوحي وصحة النبوة بما قام عنده من أدلة، ومن ثم يجب عليه الخضوع لأمر الوحي الرباني.
وبتطبيق ذلك عمليا، فإن العقل يقرر من أدلة صدق النبي محمد عليه الصلاة والسلام وسلامة ما جاء به من الوحي بما لا يعد ولا يحصى، وأهمها: إعجاز القرآن الكريم على مر القرون بفصاحته وبعجز البشر عن تحديه بالإتيان بمثله، وبصدق ما جاء فيه من نبوءات، وبسلامة أحكامه وشرائعه لحياة الناس، ومنها سيرته العطرة التي لا مطعن فيها.
فقمة العقلانية التزام وطاعة الوحي الرباني طالما ثبت صدق نبوة محمد، عليه الصلاة والسلام، وثبت صحة ما جاء به من الوحي وأنه من عند الله عز وجل، ولو لم تعرف عقول بعض الناس الحكمة من بعض الأوامر بالتحريم والمنع أو التحليل والإباحة التي جاء بها الوحي، كما أن بعض أوامر الأطباء أو القادة لا تكون مفهومة لكل الناس، لكن المنطق يقول: اتباع كلام الأطباء هو الصواب ولو لم نعرف كيف توصل لذلك!
وهذه العقلانية بالتزام ثمرة دلالة العقل بصحة النبوة والوحي هي حقيقة الإيمان بالغيب الذي هو أساس الإيمان، وبذلك يتكامل الوحي والعقل ويَسعد الناس، وبيان أن اتباع الوحي الرباني والتزامه هو مركز تاريخ البشرية في الحقيقة هو محور حديثنا المقبل.
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)