بقلم سلطان العميري – جامعة أم القرى
استمعت إلى مقطع صوتي لبعض المعاصرين – عدنان إبراهيم- وهو يصف ابن تيمية بأن لديه تساهلا في دماء المبتدعة من المسلمين ؛ لأنه يستبيحها بمجرد الوقوع في البدعة , وصور للمستمعين له بأن ابن تيمية يُجوّز قتل المبتدع لأجل بدعته!
ثم أخذ يهوّل الأمر فقال :إن فكر ابن تيمية خطير على الأمة ؛لأنه على طريقة ابن تيمية يجب علينا أن نقتل علماء المسلمين من الفقهاء والمفسرين والمحدثين ؛ لأنهم كلهم واقعون في البدعة , ويجب علينا قتل علماء الأزهر الشريف وغيرهم من المعاصرين ؛ لأنهم مبتدعة واقعون فيما يوجب استباحة الدم .
وأكد للمستمعين بأن أتباع ابن تيمية إذا كانت لهم السلطة سيقتلون علماء المسلمين الأفاضل وسيستبيحون دماءهم لأنهم مبتدعة عندهم .
وقبل أن نحكم على هذا القول دعونا أولا نقوم بدراسة هادئة ومتعقلة لتقريرات ابن تيمية في هذه القضية قضية ” قتل المبتدع ” , ولتقريرات الفقهاء فيها ؛ لنتحقق من صحة ما نُسب إليه , ولنتعرف على المنهجية العلمية التي اعتمدها الفقهاء في دراستها وأخلاقيات البحث التي سلكوها .
وإذا رجعنا إلى مقالات ابن تيمية العلمية وتطبيقاته العلمية ومواقفه الحياتية من العلماء الذين وقعوا فيما هو بدعة عنده نجد تنظيره الفقهي وتطبيقه العلمي مناقضا ما نُسب إليه من القول باستباحة دماء المسلمين .
-1-
أما تنظريه الفقهي فقد تحدث ابن تيمية عن هذه القضية في مواطن عديدة من كتبه وتناولها بالبحث والنظر في أماكن شتى من نتاجه المعرفي , وهو في كل تلك المواطن لم يعلق استباحة الدم بالبدعة , ولم يجعل مجرد الوقوع في البدعة هو المناط المؤثر في استحقاق القتل , كما نسبه إليه عدنان إبراهيم .
والذي يدل عليه مجموع كلامه أن المناط المؤثر عنده في قضية قتل المبتدع مركب من ثلاثة أمور , وهي : 1- أن تكون البدعة مغلظة ,فإن كانت غير ذلك فلا يستباح دمه 2- وأن يكون المبتدع داعية إلى بدعته ويسعى في نشرها , فإن كان غير داعية فإنه لا يقتل , 3- وألا يمكن دفع ضرره عن المسلمين إلا بالقتل فقط , فإن أمكن بغيره فإنه لا يستباح دمه .
وهذه شروط شديدة جدا لا تكاد تتحقق في الواقع إلا في حالات نادرة .
ومن مقالاته التي قرر فيها موقفه من تلك القضية قوله :”: ومن لم يندفع فساده في الأرض إلا بالقتل قتل، مثل المفرق لجماعة المسلمين والداعي إلى البدع في الدين”[1].
ويقول في موطن آخر :” وأما قتل الداعية إلى البدع فقد يقتل لكف ضرره عن الناس، كما يقتل المحارب، وإن لم يكن في نفس الأمر كافرا، فليس كل من أمر بقتله يكون قتله لردته، وعلى هذا قتل غيلان القدري وغيره قد يكون على هذا الوجه”[2].
ومن أجمع تقريرات ابن تيمية في هذه القضية قوله:” فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج ؛ كالحرورية والرافضة ونحوهم: فهذا فيه قولان للفقهاء، هما روايتان عن الإمام أحمد. والصحيح أنه يجوز قتل الواحد منهم ؛ كالداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه فساد فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { أينما لقيتموهم فاقتلوهم } وقال: { لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد } وقال عمر لصبيغ بن عسل: لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك. ولأن علي بن أبي طالب طلب أن يقتل عبد الله بن سبأ أول الرافضة حتى هرب منه. ولأن هؤلاء من أعظم المفسدين في الأرض. فإذا لم يندفع فسادهم إلا بالقتل قتلوا ولا يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول أو كان في قتله مفسدة راجحة. ولهذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل ذلك الخارجي ابتداء لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ” ولم يكن إذ ذاك فيه فساد عام ؛ ولهذا ترك علي قتلهم أول ما ظهروا لأنهم كانوا خلقا كثيرا وكانوا داخلين في الطاعة والجماعة ظاهرا لم يحاربوا أهل الجماعة ولم يكن يتبين له أنهم هم “[3].
ويلاحظ القارئ هنا أن ابن تيمية لم يعلق القول باستباحة الدم على مجرد البدعة فقط ولم يجعل ذلك مناطا مؤثرا في مذهبه , ويدل كلامه أيضا على أنه لا يتشوف إلى القتل ولا يجعل له الأولوية في الحل , وإنما يجعله حلا استثنائيا بعد فقدان كل السبل التي تدفع الضرر عن دين المسلمين .
ويلاحظ القارئ أيضا أنه بنى قوله على أدلة شرعية وانطلق فيها من أصول كلية , مثله مثل الفقهاء الموافقين له في الرأي , ولم يعتمد على العبارات العاطفية ولم يؤسس موقفه على الألفاظ المتشنجة ليؤثر في الجمهور , وإنما كان يقرر قولا فقهيا ويبنيه على ما يراه دليلا شرعيا له .
ولا بد من التأكيد على أن هذا الموقف ليس خاصا بابن تيمية فقط , وإنما ذهب إليه عدد من الفقهاء من الحنفية والمالكية وغيرهم , وفي هذا يقول ابن عابدين من الحنفية:” والمبتدع لو له دلالة ودعوة للناس إلى بدعته ويتوهم منه أن ينشر البدعة وإن لم يحكم بكفره جاز للسلطان قتله سياسة وزجرا لأن فساده أعلى وأعم حيث يؤثر في الدين”[4].
ويقول ابن فرحون من المالكية:” وأما الداعية إلى البدعة المفرق لجماعة المسلمين فإنه يستتاب،فإن تاب وإلا قتل”[5].
-2-
وأما تطبيقه العملي فهو لم يختلف عن تنظيره الفقهي , فقد كانت لابن تيمية مواقف عادلة مع من يرى أنهم واقعون في البدعة في زمنه , فلو كان يرى أن مجرد وقوع العالم من المسلمين في البدعة يبيح الدم فلماذا لم يحكم بذلك على من كان يراهم واقعين في البدعة؟! ولماذا لم يعلن ذلك في مؤلفاته؟!
وقد حكم عدد من العلماء الواقعين في البدعة عند ابن تيمية بكفره واستباحة دمه , فلم يحكم عليهم بالقتل , ومن هؤلاء : ابن مخلوف , فإنه كتب إلى السلطان قائلا عن ابن تيمية :”يجب التضييق عليه إن لم يقتل , وإلا فقد ثبت كفره “[6] , وطالب عدد من العلماء في عصره بقتله[7].
ومع ذلك كله لم يحكم ابن تيمية باستباحة دمائهم , بل قال عن ابن مخلوف :” وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها وإقامة كل خير ، وابن مخلوف لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه ولا أعين عليه عدوه قط . ولا حول ولا قوة إلا بالله . هذه نيتي وعزمي ، مع علمي بجميع الأمور . فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين ولن أكون عونا للشيطان على إخواني المسلمين “[8] .
بل إنه حين طلب منه الوالي أن يفتيه بقتل من آذاه من العلماء الواقعين في البدعة في زمنه أنكر عليه ذلك , وسجل موقفا من أرقى المواقف وأجملها , فقد أراد السلطان ابن قلوون من ابن تيمية أن يُصدر فتوى يحكم فيها بحل دم الفقهاء الذين آذوه وأفتوا بقتله , فأنكر ابن تيمية ذلك أشد الإنكار , وقال للسلطان :”إنك إن قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم من العلماء “[9].
والعجيب أن بعض خصوم ابن تيمية من المبتدعة أقر له بعدله ونزاهته وحرصه على حقن دماء المسلمين , فها هو ابن مخلوف يقول :”ما رأينا مثل ابن تيمية , حرضنا عليه فلم نقدر عليه , وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا”[10].
وعندما غضب السلطان على الشيخ البكري المالكي فأراد الانتقام منه وقتله , توسط له ابن تيمية وسعى إلى تخليصه من المحنة التي وقع فيها مع أنه كان من أشد الناس الساعين إلى قتل ابن تيمية , ومن أشد من تبنى القول بجواز الاستغاثة بالأموات[11].
فهل هذه المواقف العلمية والعملية تتوافق مع القول بأن ابن تيمية يستبيح دماء المسلمين بمجرد الوقوع في البدعة ؟!وهل يقوم بهذه المواقف رجل يرى استباحة دماء علماء المسلمين بمجرد الوقوع في البدعة؟! .
وبهذا ينكشف لنا مقدار التحريف والتضليل الذي مارسه عدنان إبراهيم في تصوير موقف ابن تيمية وآرائه من علماء المسلمين , وندرك بأنه قام بتشويهها وإخراجها عن صورتها التي كانت عليها بصورة كبيرة جدا .
-3-
وإذا انتقلنا إلى مواقف الفقهاء من المختلفين معهم في هذه القضية , لا نجدهم يعتمدون على العبارات العاطفية ولا على الألفاظ المتشنجة , فلم يصف الفقهاء الذين يرون عدم قتل المسلمين الداعية إلى بدعته عن أصحاب القول الآخر بأنهم خطر على المسلمين ولا بأنهم مستبيحون للدماء المحرمة ولا أنهم مستخفون بها , وإنما كانوا يردون على أدلتهم ويناقشونهم بعلم وعدل وهدوء ؛ لأنهم يدركون أن ما هم فيه قضية شرعية اجتهادية , وأن من خالفهم عالم شرعي له قوله المعتبر الذي أقامه على ما يراه أدلة شرعية معتبرة .
وهذه المواقف العلمية المعتدلة لا يجدها القارئ في اللغة التي اعتمدها عدنان إبراهيم في بيانه لرأي ابن تيمية , فإنه لم يبين حقيقة قوله كما هي وإنما صورها تصويرا مشوها لها , وفضلا عن ذلك فإنه لم يناقش أدلته ولم يرد على المنطلقات الشرعية التي اعتمد عليها ابن تيمية ومن معه من الفقهاء في بناء قولهم الفقهي , ولو أنه فعل ذلك لكان الخطب سهلا ولكان جاريا على الطريقة الصحيحة بغض النظر عن الموقف الفقهي الذي يختاره.
ولكنه لم يفعل شيئا من ذلك وإنما أخذ يعتمد على مخاطبة عواطف المستمعين ومشاعرهم النفسية , وهذه الطريقة أجنبية عن البحث العلمي ومخالفة للعقلانية وبعيدة عن التحرير الفقهي , ولا تزيد الفكر إلا تسطيحا وبعدا عن الصلابة والعمق .
————————————–
[1] مجموع الفتاوى (28/108) .
[2] مجموع الفتاوى (23/351) .
[3] مجموع الفتاوى (28/499) .
[4] حاشية ابن عابدين (4/243) .
[5] تبصرة الحكام (2/297) .
[6] العقود الدرية (26) .
[7] انظر : الجامع لسيرة ابن تيمية ( 675) .
[8] مجموع الفتاوى (3/271) .
[9] انظر خبر هذه القصة في : البداية والنهاية (14/61) .
[10] البداية والنهاية (14/61) .
[11] انظر قصة الخبر في : الجامع لسيرة ابن تيمية (479) .
المصدر: صيد الفوائد.