مقالات مختارة

إن القوم يأتمرون بك

بقلم سناء محمد طوط

هذا دأبهم منذ القِدَم، فهم لا يجدون سوى الأذى سبيلاً لحماية معتقداتهم أو سلطتهم أو مصالحهم على حساب مصالح المستضعفين.

يتآمرون عليك، فرداً كنت؛ كموسى يوم قتل الإسرائيلي غير عامد فحُكم عليه بالقتل من غير محاكمة إلا الاستعلاء العنصريّ: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} (20:القصص).

أو كنت جماعة؛ كما في حكاية أهل الكهف: {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} (20:الكهف).

أو كنت أمة؛ كما تآمر الوثنيون وأهل الكتاب على المسلمين في عهد النبوة وتحالفوا على عداوتهم.

المؤامرة ليست وهماً ولا خيالاً، إنها حقيقة أثبتها التاريخ وأكّدتها التجربة وسلّم بها العقل، لكنها ليست الحقيقة الوحيدة المجرّدة، بل ثمة حقائق أخرى متعلقة بها.

الأولى: أن ردّ الهزيمة إلى المؤامرة خرافة، أما الحقيقة القرآنية فتقول: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} (46:إبراهيم)، وتقول: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (30:الأنفال) .

فإنهم مهما تعاظم مكرهم فإنه لا قيمة حقيقية له؛ لأن الله يتصدّى له، ولن يفوز مبارز الله.

والثانية: أن الهزيمة مصدرها الداخل دائماً.

فنحن المسؤول الأول والأخير عنها، هذا ما تعلّمه الصحابة من هزيمة أُحد: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (165) سورة آل عمران.

فقدرة الله لم تؤيد المؤمنين، والكفار لم يتسببوا في هزيمتهم.

إن على المؤمنين مراجعة أنفسهم فلربما ساور بعض الناس الشك في قدرة الله التي يفترض أن تنصر الطرف المؤمن، ولربما ظن بعضهم أن قائد الكفار قوة لا تقهر ولا قِبَل للمؤمنين بها، فكان الرد موجزاً وافياً: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (165:آل عمران).

وأما الثالثة فإن أسباب الفوز ثلاثة: الصبر والتقوى والفاعليّة، وهذا مفهوم قوله تعالى: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (120:آل عمران).

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: « يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأُكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا ». قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ قَالَ « أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَيَجْعَلُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ». قُلْنَا وَمَا الْوَهَنُ قَالَ « حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ».

وها نحن نستعجل ونبدّل، ونجاهر بالمعاصي، ونُعنى بالكمّ على حساب النوع فنفسح في المجال لأعدائنا كي يستثمروا كثرتنا فيجندونا لمصلحتهم حين ضعفت فاعليتنا عن ابتكار حلول لمصلحتنا.

بلال.. بلسان القوم

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (4:إبراهيم).

ولأنه لا بد للنقد الهادف أن يستند إلى معايير، ولأن الفن الإصلاحي لسان ناطق، لزم الاستناد إلى هذه الآية الكريمة عند نقد أيّ عمل فني، وبلال أحدها.

والفيلم من غير شك لا يُقدّم قصة بلال بلسان إسلاميّ صرف، بل بلسان الإنسانية الجامع، اللسان المؤثر في الشعوب قاطبة اليوم.

والجانب الإنساني مع ذلك هو جانب إسلامي أصيل، وجزء من الرسالة المحمدية؛ التي جمعت البشر كلهم تحت مظلة المساواة وألغت الفوارق العنصرية كلها لصالح الانتماء إلى الإنسانية وجعلت التقوى وحدها معيار التفاضل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (13:الحجرات).

ولذلك نجد أن أتباع الدعوة كانوا معظمهم من المستضعفين في الأرض من أمثال بلال.

وجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ليتمم مكارم الأخلاق، فالأخلاق التي تنظّم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان هي لب العناية الإسلامية، ومن أهدافها العليا؛ لهذا لا يمكن لمسلم أن يجهل البعد الإنساني في رسالة الإسلام، ولا يجدر بمسلم أن يرى أن فيلم بلال ليس ناطقاً بلسان الإسلام لمجرد أنه ناطق بلسان الإنسانية.

واليوم نعيش في زمن هو من أشد الأزمنة على المسلمين، تداعت عليهم فيه الأمم، وانقسمت البشرية إلى فئتين: فئة تتعمّد اتهام الإسلام بالإرهاب، وأخرى مضللة تعاني رهاب الإسلام، ذلك لأن الإعلام العالمي المسيّس يقدم الإسلام على أنه أيديولوجيا عنف وهيمنة وكيان يسعى إلى فرض رؤيته بقوة السلاح، وعمداً يتغاضى عن الجوانب الإنسانية في الإسلام؛ سواء المشتركة بينه وبين سائر الأديان كالرحمة والمحبة، أو التي تفرد بها دون سائر الأديان كوضع منظومة حقوقية للضعفاء وحماية مصالحهم ومساواتهم بالأحرار في الإنسانية بل الدفاع عنهم بقوة السلاح متى اقتضى الأمر: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} (75:النساء).

وقضية العنصرية هي قضية في قلب وضمير العالم اليوم، لذلك فإن إبراز دور الإسلام في مكافحتها منذ بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- مصلحة إسلامية عليا، وسبق إنساني يجب أن يحتسب للمسلمين، وترغيم للفئة المتآمرة، وطمأنة في الوقت نفسه للفئة المضللة.

يخترق فيلم بلال الفئتين، وبصوت عالمي إنساني مبين يقول: إليكم الوجه الحقيقي للإسلام: إنه دين الإنسانية جمعاء، لا إرهاب ولا رهاب منذ أن خاطب الله رسوله قائلاً: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (107:الأنبياء).

المصدر: الاسلام اليوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى