إلى أين تذهبين يا عايدة؟ فيلم بوسني جديد يستعيد تفاصيل مذبحة سربرنيتسا
إعداد محمد موسى
“كل مرة تعطونا وعودًا وتنقضوها، وتتركونا نواجه مصيرنا وحدنا أمام القوات الصربية”. هكذا خاطب عمدة مدينة سربرنيتسا البوسنية جنرالا من قوة الأمم المتحدة في اجتماع مشترك في يوليو/تموز 1995، وقبل أيام من المجزرة الشهيرة، التي تعد الأكبر في خسائرها المدنية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
وذهب ضحية مجزرة سربرنيتسا 8372 مسلمًا بوسنيا، أعدموا بوحشية من قبل القوات الصربية، وبعد أن نقلوا من أمام أعين رجال الأمم المتحدة من القوات الفرنسية والهولندية إلى قاعات عامة فارغة، حيث قتلوا هناك، ودفنوا في مقابر جماعية سريّة.
يستعيد الفيلم الروائي البوسني “إلى أين تذهبين يا عايدة؟” للمخرجة ياسمينا زبانيتش ذلك اللقاء بين عمدة مدينة سربرنيتسا وضابط من القوات الهولندية، كما يستذكر الفيلم الساعات المرعبة التي أعقبت ذلك اللقاء، وعواقبها الكارثية على سكان المدينة، وعلى مسمع ومرأى من قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام، وبالتحديد الهولندية، التي تعاني حتى اليوم من تبعات ما جرى آنذاك.
يستند الفيلم إلى أحداث حقيقية، ويتبع تسلسل هذه الأحداث كما وقعت حينها، بيد أن بعض الشخصيات فيه تعد خيالا دراميا، مثل البطلة عايدة، المعلمة البوسنية، التي حصلت على وظيفة مترجمة مع القوات الهولندية التي كانت تعمل ضمن بعثة الأمم المتحدة في البوسنة.
البطلة عايدة، المرأة الخمسينية قريبة بحكم عملها من أحداث تاريخية دموية، وخلال الأحداث ستكون هي وعائلتها الآتية من مدينة سربرنيتسا من ضحايا الحدث المأساوي.
الصرب لا يهابون الأمم المتحدة
يظهر مشهد لقاء عمدة سربرنيتسا مع الأمم المتحدة في أول 5 دقائق من الفيلم، وسيكون ذلك المشهد مهمًّا في فهم الوضع المعقد للمنطقة في ذلك الزمن، إذ يستعيد المتحاورون الأحداث الخطيرة التي وقعت في الأعوام الأخيرة، وكيف أن الأمم المتحدة صنفت مدينة سربرنيتسا بأنها منطقة منزوعة السلاح، ومنعت القوات الصربية من دخولها خوفا من الانتقام والمجازر بحق المدنيين.
يطمئن الضابط الهولندي المسلمين البوسنيين بأن سلاح الجو الخاص بقوات الناتو يراقب الوضع، وبأن الأمم المتحدة حذرت القوات الصربية من الاقتراب من مدينة سربرنيتسا، وهذا سيكون كافيا لمنعها.
لن تكترث القوات الصربية بأي تحذيرات، وستصل إلى مدينة سربرنيتسا، وستقتل كل من يقابلها، كعمدة المدينة نفسه، ونساء من كل الأعمار.
تدور الكثير من أحداث الفيلم قرب معسكر قوات الأمم المتحدة، الذي لجأ إليه آلاف من سكان مدينة سربرنيتسا، هربا من القوات الصربية.
لن يتمكن إلا بضعة آلاف من المدنيين من دخول المعسكر، في حين بقي في الخارج أكثر من 20 ألف شخص بسبب عدم قدرة المعسكر على استيعابهم.
يصور الفيلم الحياة في الساعات القليلة من وصول المدنيين له، ويركز على بطلته عايدة، التي كان عليها أن تواصل عملها كمترجمة، لكن القلق يقتلها على مصير زوجها وولديها الشابين، في حين ينجح ابن واحد لعايدة من دخول مخيم الأمم المتحدة، ويبقى الأب والابن الثاني في الخارج.
تخاذل الهولنديين أحد أسباب الكارثة
يوجه اليوم الكثير من اللوم للقوات الهولندية لفشلها في حماية المدنيين عبر اقترافها مجموعة من الأخطاء القاتلة؛ كسماحها للقوات الصربية بالوصول إلى معسكر الأمم المتحدة وأخذ المسلمين البوسنيين من هناك.
يستعيد الفيلم ما حدث في لقاء لضابط هولندي مع القائد الصربي راتكو ملاديتش في منطقة قريبة من معسكر الأمم المتحدة، وسذاجة الهولندي الذي صدّق بسرعة وعود القائد الصربي بالحفاظ على حياة المدنيين، وأن هدفه هو القبض على المسلحين من المسلمين، وأنه ينوي أخذ جميع المدنيين إلى منطقة آمنة بعيدة.
ستفتح موافقة الضابط الهولندي أبواب الجحيم على البوسنيين الذين لجؤوا إلى معسكره، وحتى عندما اعترض مساعدان للضابط من دخول القوات الصربية المعسكر، تدخل الضابط نفسه وأجبرهم على فتح أبواب المعسكر.
ما حدث بعد ذلك لن تنساه تلك المنطقة لمئات السنين، إذ عزلت القوات الصربية الرجال عن النساء، وأخذت الرجال إلى البنايات القريبة حيث أعدمتهم، ودفنتهم من دون حضور أهلهم.
من المشاهد المرعبة في الفيلم، ذلك الذي يظهر القوات الصربية وهي تدخل مجموعة من المسلمين إلى صالة سينما، مع وعود لهم بأنهم سيشاهدون فيلما رائعا في الصالة؛ إنه فيلم لم يشاهدوا مثله في حياتهم.
ما أعقب ذلك هو خروج فوهات بنادق من الشبابيك، وإطلاق الرصاص على الموجدين في صالة السينما، ويقتلون جميعا.
لم تكتف القوات الصربية بإهانة المسلمين الرجال؛ إذ كان جنود من تلك القوات يخاطبون النساء “بالعاهرات المسلمات”، ويجبروهن على صعود الحافلات التي جلبوها لمعسكر الأمم المتحدة.
وفي مشهد آخر من الفيلم، كان جندي صربي يتحسس جسد امرأة مسلمة بحجة تفتيشه عن أسلحة، في حين أدار الجندي الهولندي الذي كان يقف في الجوار رأسه خوفًا من مواجهة الجندي الصربي.
أُمّ ثكلى
لا يكتفي فيلم “إلى أين تذهبين يا عايدة” بسرد الأحداث التاريخية، بل يختار نماذج أخرى من الضحايا المسلمين.
سيكون هذا النموذج هو المترجمة عايدة، التي ستلخص الحزن الجماعي البوسني؛ فهذه الأمّ كانت تعرف بغريزتها وخبرتها من سنوات حرب البلقان أن هناك كارثة ستقع، وستبذل كل جهدها عبر زمن الفيلم لتخليص عائلتها الصغيرة من المصير الذي ينتظرها.
تنجح عايدة في إدخال ابنها وزوجها معسكر الأمم المتحدة، بيد أن هذا لن يعني سلامتهم؛ فالقوات الصربية كانت تسعى إلى الثأر من كل الرجال المسلمين.
تحاول الأمّ البوسنية الحصول على بطاقات الأمم المتحدة لعائلتها، لكن طلبها يُرفض، وتحاول أن تخبئهم في المعسكر، لكن أمرها سرعان ما ينكشف، لترى بعد ذلك عائلتها تتجه إلى الحافلات الصربية، وهي المرة الأخيرة التي ستراهم.
احتفاء نقدي
عُرض فيلم “إلى أين تذهبين يا عايدة” للمرة الأولى في الدورة الأخيرة لمهرجان فينيسيا السينمائي العام الماضي، وبعدها في الدورة الخمسين من مهرجان روتردام الدولي، التي اختتمت قبل أيام، وحصل فيه على جائزة الجمهور.
والفيلم من الأفلام التي رُشحت في اللائحة القصيرة لجوائز الأوسكار في فئة الأفلام غير الناطقة باللغة الإنجليزية.
شارك في الفيلم ممثلون هولنديون لعبوا أدوار جنود وضباط من قوات حفظ السلام، بيد أن القوة الأهم وراء هذا الفيلم هي الممثلة جاسانا غورزيتش، التي لعبت دور الأمّ عايدة بمأساوية فذة، حيث كانت تراقب حياتها كلها تتدمر في حرب عنصرية.
(المصدر: الجزيرة)